أخذت الأحداث في بلدة عين عيس خلال الأيام الأخيرة منحىً تصاعدياً يدل على الأرجح إلى اقتراب معركة لطالما هدّد بها المسؤولون الأتراك وكانت هدفاً للجيش التركي وحليفه “الجيش الوطني السوري”.
عين عيسى، تُعد خط دفاع للعمق الحيوي والإداري والسياسي لقسد، إضافة إلى أنها تمثل عقدة طرق هامة تصل الجزيرة السورية وعين العرب وحلب والرقة وتل أبيض. أهمية هذه المدينة دفعت قسد إلى تركيز وجودها فيها وافتتاح مكاتب تمثيلية مختلفة.من هنا تبرز أهمية إعلان غرفة عمليات الفيلق الأول التابع للجيش الوطني بدء “معركة تحرير بلدة عين عيسى” بعد هجوم شنته قبل أيام بغطاء من مدفعية الجيش التركي أدت إلى سيطرة مقاتلين من فصيل “أحرار الشرقية” على عدة قرى قريبة من البلدة الاستراتيجية، ومن الطريق الحيوي “إم-4″، الرابط بين العراق شرقاً، والمتوسط غرباً، وكل ذلك جرى دون أن تصدر أنقرة وحتى وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة، أي بيان رسمي في هذا الصدد.
ما عزز احتمالية حدوث عملية عسكرية أوسع كما هو متداول حدوث حركة نزوح واسعة شهدتها عين عيسى خلال الأيام الماضية، تزامنت حينها مع انسحاب قوات النظام والقوات الروسية من مواقع انتشارها في محيط عين عيسى الى مواقعهم في قاعدتي عين عيسى وتل السمن شمال الرقة واللواء 93 في مؤشر على أن هذا الانسحاب يُعد ضوءاً أخضر من موسكو أعقب فشل مفاوضات جرت بين نظام الأسد وقسد برعاية روسية، تمثلت في رفض قسد تسليم مدينة عين عيسى لقوات النظام، بل استقدمت تعزيزات عسكرية إلى المنطقة وهددت بطرد قوات النظام من المربعين الأمنيين في كل من الحسكة والقامشلي في حال إجبارها على الخروج من عين عيسى، وهذا أيضاً مؤشر على أهمية هذه المدينة بالنسبة لقسد ومن خلفها قيادة قنديل التي تعتبر تواجد النظام في الحسكة والقامشلي أقوى أوراق التفاوض .
لكن في المقابل، فإن المتابعة الحثيثة والمراقبة عن كثبت، لمسار التحركات العسكرية والتعزيزات الجارية، وسير المعارك، كل ذلك لا يؤشر بعد إلى أن ترتقي لكونها مقدمات لعملية عسكرية واسعة، بل هي الآن في حدود العمل العسكري المحدود والتكتيكي، والذي يجري بدعم تركي ينفذه على الأرض الجيش الوطني، هدفه تغيير موازين القوى المؤدية إلى فرض واقع جديد يؤدي في المحصلة إلى إبعاد قسد عن البلدة الاستراتيجية والوصول إلى الطريق الدولي “إم-4″، وهذا يستتبع حصار قسد في عين العرب، لأن الطريق الدولي المذكور يمثل الشريان الاقتصادي الأهم بين النظام ومناطق الإدارة الذاتية.
ومما يؤكد أن ما جرى في محيط عين عيسى عمل عسكري تكتيكي يخفي في أبعاده تحركاً استراتيجياً بعيد المدى، هو العمل ضمن مستويات عديدة، المستوى العسكري أحدها، ومن ذلك تزامن تلك المعارك مع مؤتمر انعقد في مدينة إعزاز قبل أيام تحت مسمى مؤتمر العشائر، وتمخض عن إجماع العشائر على أولوية طرد “مليشيا قسد” من منبج وتل رفعت، وغيرها من المناطق ذات الأغلبية العربية، وهذا مصطلح يعني جل الجغرافيا التي تسيطر عليها قسد.
المؤتمر أعلن دعمه صراحة العمليات العسكرية في محيط عين عيسى، وطالب بالتحرك لعودة المهجرين منها إليها، في استحضار لافت للمؤتمر المذكور في نسخته الأولى قبل عامين حين التئم وصدّر مواقف مشابهة تلقفها الرئيس التركي قائلا: ” إننا تلقينا مناشدة من السوريين وشوقهم إلى أهلهم في مناطقهم”، وتُرجم ذلك التصريح إلى عملية “نبع السلام” والتي انتهت كما يعرف الجميع بطرد قسد من تل أبيض ورأس العين، والمناطق بينهما.
لكن، الدراية في الميدان وظروفه وما يتعلق به من تحضيرات سياسية ولوجستية في مواقف مشابهة، كل هذا يسمح بالقول إن “حتمية وقوع عمل عسكري واسع” لا مؤشرات قطعية عليه حتى الآن. وبحسب مصادر مطلعة فإن فصائل الجيش الوطني لم تُبلغ بعد رسميا من قادة الجيش التركي بذلك، ولم يجرِ كما جرت العادة قبيل أي معركة واسعة توزيع الفصائل المقاتلة على تشكيلات الجيش التركي ضمن محاور قتال محددة.لكن ما الذي يحدث حقا؟ هل نحن أمام تكتيك أن الطبل في عين عيسى والعرس في مكان آخر؟تعتمد “القيادة الكردية التركية الأوجلانية القنديلية ” منذ اليوم الأول للثورة السورية على مبدأ التحالف مع الجميع واللعب على التناقضات والخلافات بين الفاعلين الدوليين والإقليميين (باستثناء تركيا)، لكن هذه السياسة أثبتت فعلاً أن من يتحالف مع الجميع سيكون عُرضة لأن يخذله الجميع، فالتذاكي الفج هو غباء فج، وهو ما جلب على تلك القيادة خسائر فادحة، بدأت من عفرين ولن تنتهي عند رأس العين.
قسد والحال هذه تحاول الآن كسب الوقت لحين تسلم الرئيس الأميركي جو بايدن وفريقه مفاتيح البيت الأبيض معولة على تصريحاته الداعمة لهم. في هذه الآونة انشغلت بمفاوضات مع النظام تحت المظلة الروسية تضمن لها البقاء في عين عيسى بوصفها نقطة انطلاق لإقلاق تركيا في منطقة “نبع السلام”، وقد بذلت في ذلك الكثير من خلال التحصينات وحفر الأنفاق.محاولات قسد قابلها لعب خصومها وحلفائها أيضاً على ورقة عين عيسى في إطار ممارسة الضغط عليها، ما جعل من هذه المدينة المحور والبؤرة التي تضغط فيها كل الأطراف على قوات سوريا الديمقراطية وتبتزها لتقديم تنازلات.
فالجانب الأميركي يضغط من أجل الدفع بعجلة الحوار الكردي-الكردي وإبعاد قسد عن النظام والروس وإضعاف شوكة الأوجلانيين بإشراك البرزانيين وسائر كرد سوريا معهم.روسيا يبدو أنها الطرف الأكثر مهارة في قراءة “القيادة الكردية” وتعمل على استثمار كل ما هو ممكن لتفعيل وتقوية وجود النظام تمهيداً لاستعادة تدريجية للثروات الواقعة تحت هيمنة قسد، وهي عملياً أغلى وأهم ثروات سوريا، وفي هذا منجاة جزئية من مفاعيل قانون “قيصر”.
تركيا واعية في المقابل لأهداف “عدوها اللدود” المتمثل بحزب العمال الكردستاني وتفرعاته السورية، وتضع نصب أعينها التضييق عليه وصولاً لإنهائه في سوريا وتنسج لهذه الغاية علاقة براغماتية مع روسيا، والهدف الرئيس بالنسبة لتركيا، هو ذاته الهدف القديم المتجدد، تقطيع أوصال ما يُعرف بالإدارة الذاتية.من هنا نبدأ بقراءة الموقف الروسي المتفرج على هجوم فصائل الجيش الوطني على محيط عين عسى، إلى حد انفجار حملة انتقادات من قوات قسد لروسيا متهمة إياها بالتخاذل والتخلي عنها واعتبار هذا الهجوم عبارة عن مناورة متفق عليها مع تركيا للضغط عليها لإخلاء بلدة عين عيسى لصالح النظام والروس.تزامنت الفرجة الروسية مع انسحاب تركي جرى بهدوء من نقاط في ريف إدلب وريفي حلب الجنوبي والغربي.عين عيسى، عين أنقرة وموسكو عليها، وأحدهما في المحصلة سيتخلى عنها للآخر، لكن هذا القرار مرتبط إلى حين تهيئة ظروفه السياسية جنباً إلى جنب مع العسكرية.مهما كان مصير عين عيسى هو في النهاية لن يكون المصير الذي تأمل به قسد، وهي الأرجح ستكون الخاسر الأكبر في هذه المسألة، وستدفع الثمن الذي تُصر على دفعه كل مرة بنفس الطريقة، على مبدأ الوقوع في الجحر ألف مرة ومرة.قسد بتنقلها من الحضن الأميركي الى حضن النظام تارة وإلى الحضن الروسي تارة أخرى،
ما زالت متمسكة بمرجعيتها في قنديل، ومصرة على الابتعاد عن أي مشروع وطني سوري، في معاداة واضحة لمصالح محيطها الكردي والعربي، وتحالفها مع الجميع في مواجهة ثورة الشعب السوري جعلها تدفع ثمن المصالح المشتركة لهذه الدول وتصبح في مهب الريح. ففي ظل غياب الموقف الأميركي تبقى الأمور مفتوحة على أكثر من احتمال وهم أمام خيارات عدة: أول هذه الخيارات وأصعبها، هو المواجهة العسكرية مع تركيا دون غطاء من حلفائها، وهذا يعني خسائر فادحة وهزيمة نكراء في ظل اختلال موازين القوى.الخيار الثاني، الخضوع لشروط النظام المذلة دون أي ضمانات، ورغم تفضيلها لخيار التحالف مع النظام إلا أن قسد تعلم أن النظام يتربص بها وسيقوّضها عندما تسنح له الفرصة.
الخيار الأخير المتبقي أمام قادة قسد، والذي لطالما حاولنا جادين معهم من أجل القبول به باعتباره الخيار الأفضل لهم وللجميع، هو الخيار الوطني الحقيقي بعيداً عن النظام وحزب العمال الكردستاني، بالاندماج في مشروع الثورة والمعارضة والإيمان بإقامة علاقات حسن جوار مع الدولة التركية، وتخليهم عن أحلامهم بإقامة كيان منفصل، والتحالف مع قوى الثورة لإسقاط عصابة دمشق وإقامة دولة الحرية والمواطنة المتساوية التي تحفظ لجميع السوريين كرامتهم وحقوقهم.خيار لا يضع قسد فقط أمام أقل الخسائر، بل يجعلها في الطريق الصحيح والمفيد الذي كان عليها أن تسلكه منذ البداية، بدل الغواية المدمرة التي أصابت قادتها والشعور بتضخم القوة والذات الذي هيمن عليهم، والإحساس بالنجاح في اللعب على جميع الحبال الذي توهموا به، فإذ هم بالنهاية يسقطون في شراك هذه الحبال التي تكاد تخنقهم اليوم. وربما يكون هذا الخيار مدخلاً للتسوية الوطنية الكبرى، وفتح الباب على مصراعيه لاستعادة سوريا، وطناً موحداً حراً يليق بجميع أبنائه.