• الإثنين , 23 ديسمبر 2024

دولة إبادة، وليس نظام دكتاتوري

ياسين الحاج صالح

في القول إن نظام الأسديين في سورية دكتاتوري خطأٌ كبير، بل هو أمّ أخطاء فكرية وسياسة وحقوقية ارتُكِبَت بحق السوريين على المستوى الدولي. دولة الأسديين قائمةٌ على الإبادة وليس على القمع، وبهذه الصفة هي مشكلةٌ إنسانية وليست مشكلةً سوريّةً حصراً. من شأن الصدور عن تصوُّرِ الدكتاتورية أن يُدرِجَ النظام الحاكم في سورية في مقولة واسعة تنطبق اليوم على دكتاتوريات كثيرة في البدان المُستعمرة سابقاً، وقبل أقلّ من جيلين في أوروبا.

وفي هذا ما يُطبّعُ الحكم الأسدي، بل هو مديحٌ له، ينزع عنه فرادة إجرامية مُستَحَقّة، ويحول دون تقدّم ضروري في الفكر السياسي، سوريّاً وفي العالم. كان فرانكو دكتاتوراً وبورقيبة دكتاتوراً وجمال عبد الناصر وتيتو…، وكثيرون غيرهم، حكموا أو أرادوا الحكم مدى الحياة، لكنهم لم يعملوا على بناء سلالات حاكمة، ولم يخصخصوا الدولة، ولم يجعلوا الأبد، وما يقتضيه من حرب مستمرة على المستقبل، هدفاً أعلى لحكمهم.

الأبد والسلالة والدولة الخاصّة فوارق حاسمة عن الدكتاتورية. الدولة هنا لا تُستَخدَم لتنظيم المجتمع سياسياً، ليست دولة وطنية تقوم على القمع، بل هي دولة منزوعة الوطنية، تقوم على الاستعباد السياسي، أو على علاقة أسياد وأتباع، وترفض المشاركة في السلطة، وتسحق بعنف فائضَ الاعتراضات المحتملة على الأبد والسلالة.

القَرَابة الاشتقاقية بين الأبد والإبادة تُسوِّغ تَصوَّر أنَّ الأبد لا يتحقق دون إبادة، أي دون قتل وتعذيب وإذلال على نطاق واسع للسكان، وهو ما يصادق عليه بالفعل نهج الحكم الأسدي في سنوات الأب والابن. في حالة الأب جرى قتل عشرات الألوف واعتقال وتعذيب عشرات الألوف، وغُيِّبَ الألوف طوال عقدين في سجن تدمر من أجل أن تدوم تبعية من لم يسجنوا لزمن طويل. دخل الأبد كشعار سياسي في سورية في ثمانينات القرن العشرين بارتباط وثيق مع المذابح والإبادة. أقصد بالإبادة التوسُّعَ في قتل الناس بغرض تأمين السلطة عبر الزمان، ومنع التغيير. ليس القتل هنا عقابياً ولا حتى انتقامياً، إنه تحطيمي واستئصالي، عينه على استعباد من لم يُقتَلَوا وعلى خلود القاتلين. عدد المقتولين يمكن أن يكون عشرين أو ثلاثين ألفاً في أوائل ثمانينات القرن العشرين، ونصف مليون أو ستمائة ألف بين 2011 و2018، المهم ليس الرقم المطلق، بل الصدمة والتحطيم الذي يتيح تأمين الملكية الخاصة للدولة لوقتٍ لا تُرى نهايته.

تأمّنت الملكية الخاصة فعلاً طوال سنوات حكم حافظ، ولعقد بعد موته وإقلاع الحكم السلالي. ويبدو أن كفاءة حافظ الإبادية هي المثال الذي استلهمه وريثه وأركان حكمه منذ الخطاب الأول في 30 آذار 2011. الفكرة هي أن تأمين الدولة الخاصّة لثلاثين عاماً أخرى يقتضي السير على شريعة الأب. اختلفت المآلات، وكان عدد الضحايا والمُهجَّرين والدمار أكبر بما لا يقاس، لأن الأمر يتعلق بثورة واسعة الأرضية الاجتماعية والجهوية والقيمية هذه المرة، وليس بمجابهة مسلحة تقدّمت على احتجاجات اجتماعية ظلت غير واسعة النطاق اجتماعياً وجغرافياً.

لكن هناك شكٌّ قليلٌ في تصوري في أن أركان دولة بشار مُتّبعون لسنّة الأب حافظ، وليسوا مبتدعين لسنّة تخصُّهم. عينهم على تحطيم الثائرين وبيئاتهم الاجتماعية وترويع المجتمع ككل، كي يهنؤوا بالحكم جيلاً أو جيلين آخرين دون متاعب ودون… سياسة، مثلما هَنِئ حافظ من قبلهم. والمهمّ هو أن توقفَ القتل عند عشرات الألوف أو مئاتها وعدم تجاوزه إلى ملايين أو عشرات الملايين شيء عارض، لا شيء في تكوين النظام يحول دونه.

ما يمكن أن يحدَّ من العدد أو يزيده هو الشروط المحيطة بمشروع الأبد. في أدبيات الجينوسايد نقاشٌ حول ما إذا كانت الإبادات الكبيرة تحقيقاً لنية مبيتة intention (تعبير «النية» ورد في تعريف اتفاقية الأمم المتحدة حول الجينوسايد 1948)، أم هي استجابةٌ مُزامِنةٌ لوضعية situation عارضة ككل ما هو تاريخي.

أعتقدُ أنه يغيب عن هذا النقاش بعدٌ ثالثٌ متصلٌ بالبنية، بنية نخبة الدولة المبيدة، وذاكرتها وسوابقها التاريخية واستعداداتها السياسية. لا يلزم أن تكون هناك نية إبادة واضحة مُبيَّتة منذ الأساس، لكن البنية تدعم أو ترجِّح نزعات أكثر من غيرها، مستفيدة في كل حال من وضعيات متاحة أو من عوارض التاريخ.

مثلاً الحماية الروسية الصينية في مجلس الأمن منذ خريف 2011، ومثلاً ظهور الجهاديين، ومثلاً نجاة النظام من العقاب بعد مذبحة الغوطة الكيماوية في آب 2013، وغيرها كثير. لو عوقب نظام الأسد/الأبد عقاباً جدياً في أي وقت على جرائمه، لَحَدَّ ذلك من إبادة محكوميه. الحصانة من العقاب توفِّرُ أنسبَ الشروط للإبادة.

ولعلّه واضحٌ مما تقدم أن البنية التي تُرجِّحُ الإبادة، مستفيدة مما يعرض من شروط دولية مشجعة أو غير مقيدة، قائمة على الدولة الخاصة والسلالة والأبد.وبينما النظام الدكتاتوري مشكلة لمحكوميه، فإن نظام الإبادة مشكلة عالمية لأنه ليس في بنيته الأبدية ما يوقفه عند حدّ. لقد كان كثير جداً على المحكومين السوريين حل مشكلة نظام دمار شامل، متمتع بالحماية، يقتلهم دون حساب، ويستخدم أسلحة الدمار الشامل في ذلك، كما يخترع سلاحاً يقتل الكثيرين ويحطم الأجساد ويدمر المباني وبيئات الحياة، مثل البراميل المتفجرة.

إن لم يجر إيقاف نظام الإبادة من خارجه فإنه مستعد لقتل كل من يقف في وجهه من داخل. كان هذا حال النظام النازي الذي لم يكن ممكناً إسقاطه دون تحالف دولي واسع.ليس فقط لا فرصة مماثلة لإسقاط الحكم الأسدي، بل يبدو بالأحرى أن القوى النافذة في العالم تُفضِّلُ بقاءه، إن لم تعمل بنشاط على إعادة تأهيله على ما يفعل الروس والإيرانيون، وبرضىً مُضمر من القوى الغربية.لهذا، العالمُ في أزمة. لدينا مشكلة عالمية لم يعالجها العالم، بل هو حفظها وحماها. لقد جرى تقبّلُ «فضاء استثناء» يجري فيه القتل على مدار الساعة طوال الشهور والسنوات.

ومثلما أظهر جيورجيو أغامبين في تحليله لحالة الاستثناء، فإنها ليست استثناء من القاعدة، بل هي الاستثناء المُبَطِّنُ للقواعد، أو المؤسِّسُ للممكنات القائمة اليوم. فضاء الاستثناء السوري يؤسس منذ اليوم لقواعد عالمية. فإذا أمكن لإسرائيل أن تتساهل في قتل الفلسطينيين المحتجين سلمياً أكثر من ذي قبل على ما فعلت في مظاهرات يوم الأرض 2018، وللسيسي أن يعرض وجهاً فاشياً كي لا تصير مصر مثل سورية، ومثل ذلك يقال اليوم علانية في الأردن وإيران، فإن في هذا ما يشير إلى أن الاستثناء السوري صار قاعدة يجري الاستناد إليها من أجل استكشاف تخوم جديدة تذهب إليها القوة في هذه البلدان.

وبعبارة أخرى، فإن الإبادة بعد سورية صارت من الممكنات السيادية القريبة في عالم الدول.فضاء الاستثناء الأمثل هو، حسب أغامبن، معسكر الاعتقال حيث «كل شيء يمكن أن يقع» للمعتقلين (حنة آرندت)، مثاله السوري هو سجن تدمر في سنوات الأب وصيدنايا في سنوات الابن الوريث. ومع تَدمَرَة سورية في سنوات ما بعد الثورة (تنظر مقالتي: «السنّة التدمرية: صيدنايا، التحوّل العنصرية، الإبادة») تَعمَّمَ فضاء الاستثناء على البلد. وحين يكون المعسكر بلداً بأكمله، فإن العالم بأكمله يصير البلد المحيط بهذا المعسكر.

ومثلما ينفع تدمر في ترويع السوريين كلهم، فإن فضاء الاستثناء السوري ينفع في ترويع العالم، على ما يُظهِرُ مثال مصر وإيران والأردن. لا ننسى هنا أن الشرق الأوسط هو فضاء استثناء مديد من القانون الدولي بالذات، قائم على تراتب تحتلّ إسرائيل قمته العليا وأطقم الحكم في البلدان العربية قممه المحلية الأدنى. وهناك تماثل بنيوي بين «إلى الأبد» الخاصة بالأسديين و«إسرائيل وجدت لتبقى».

لكن أبدنا يخصّ السلالة، وليس «دولة الشعب اليهودي». دولة السلالة الأسدية الأبدية الإبادية هي منذ سبعينات القرن العشرين أحد أركان النظام الشرق أوسطي. إنها إسرائيلنا المحليّة.أظهرت سورية خلال سبع سنوات ونيّف أن الفكر السياسي في العالم في أزمة، أنه لم يستجب لتحدي الاستثناء السوري بصورة فاعلة، إن لم تسهم في وقف القتل والتدمير، وتنحاز للسياسة، فإنها تستجيب للحدث بثورة في أدوات التفكير في أحوال الدولة والديموقراطية والعالم، والعلاقة بين نظم السلطة والزمن وغيرها كثير.

جرى اجترار خطابات تقليدية عن السيادة، وعن الامبريالية و«تغيير النظام»، وعن التدخل وعدم التدخل (دون حد أدنى من الاتساق الأخلاقي بخصوص الأخير: لا بأس بالتدخل ضد غير النظام من قبل القوى الغربية، ولا بأس بتدخل الروس والإيرانيين وأتباعهم لمصلحة النظام). وفي العمق، افتُرض دوماً أن النظام الأسدي دكتاتوري مثل غيره في أسوأ الأحوال، وإلا فهو ضحية مؤامرة امبريالية. هذا أسوأ فشل في القراءة. هذا فشل أخلاقي، وفشل في الإحساس.كان من شأن التفكير في الاستثناء السوري أن يقود إلى تطورات مثمرة في النظرية الاجتماعية والتفكير السياسي، مثلما قادَ التفكير في معسكرات الاعتقال النازية، وفي النازية ذاتها، وفي الستالينية، إلى تطورات مهمة في النظرية الاجتماعية والتفكير السياسي (مدرسة فرانكفورت، حنة آرندت، فوكو، أغامبن…). ولعله اليوم يلزم إعادة بناء التفكير السياسي التحرري حول نظام الإبادة القائم كنموذج لفضاء استثناء محروس عالمياً.

دون تفكير في الاستثناء السوري في العالم، في معسكر الاعتقال السوري في البلد/ العالم، من غير المُحتمل أن تظهر قواعد جديدة ومؤسسات جديدة، ونُظُم عدالة جديدة. ليس هناك مؤسسة عالمية واحدة ظهرت بالارتباط مع الحدث السوري. هذا مؤشر على نبذ السوريين من العالم، على أن العالم لا يشعر بحاجة إلى تغيير شيء أو استحداث شيء بمناسبة سورية.لكنه يشعر بأنه في أزمة، وإن داوَرَ بخصوص منابعها. النظام الدولي في أزمة متفاقمة لأنه رفض أن يأخذ علماً باستثنائية الوضعية السورية فلم يستطع التعامل معها على نحو يظهر فاعلية النظام ذاته. حاول إخضاعها لما يُعرف (نظامٌ دكتاتوريٌ في دولة سيّدة، ربما تُستنكَرُ أفعاله بين حين وآخر) وأتت النتائج سيئة جداً: كارثية على السوريين، وليست جيدة لأحد غير مرشحين لمركب الأبد والإبادة مثل إيران وروسيا. يمكن تصوُّرُ أن في النظام الدولي قواعد ليست مثالية وفيه قوى مشخصة في صورة دول وتحالفات ومعسكرات، تمييزية تكوينياً.

بخصوص سورية لم يجد النظام الدولي كقواعد مجردة من يدافع عنه، فهُزِمَ أمام النظام الدولي كقوى مشخصة تمييزية. المشكلة أن الفكر السياسي في العالم، والنظام الدولي، والعالم، واليسار (أي شاغلي موقع العالم البديل، والمنتفعين حتى اليوم من ريوع هذا الموقع في غياب منافسين ثوريين)، في أزمة، ولا أحد يريد أن يرى أن فضاء الاستثناء السوري، أو دولة الإبادة في سورية، عنوان أساسي لهذه الأزمة، إن لم تكن جوهرها.

وإنما لذلك مستقبلُ الأزمة مضمونٌ لا خوف عليه….

30من شهر نيسان 2018

مقالات ذات صلة

USA