لا يخطط نظام الأسد ولا يفكر بمعركة إلا وتمهد له فصائل الثورة بمعركة داخلية فيما بينها.
ما هو مصير المشروع الوطني للثورة السورية؟ سؤال ينبثق من وسط الحالة الكارثية التي أوصلتنا إليها القوى المتقاتلة في المناطق المحررة من نظام الأسد، التي كان يفترض أن تكون نواة الدولة الموعودة أو الترميز المجسد للمشروع الوطني
ما يجري من اقتتال بين مجموعات تدعي كل منها أنها تمثل شرع الله والثورة السورية ستتكشف تداعياته السياسية والنفسية والاقتصادية لدى الشعب، وسنكتشف كم هو مهذب ومخادع لفظ الانفلات الأمني أو الاشتباك بين مجموعات مسلحة، فإن ما يجري لا يمكن أن يختزل بالقول إنه صراع على السلطة ما دام لا توجد أي سلطة حقيقية، وما يجري لا يمكن أن يقال إنه مجرد حرب بالوكالة عن أطراف خارجية.
الحالة تستوعب كل هذه الأشياء، ولكنها عندما تجتمع سويا يصبح الأمر أخطر وأكبر ما يجري، يبعث رسالة خطيرة مفادها أنه لم يعد هناك وطن ولا مشروع وطني ولا قيادة وطنية، فكيف يكون للسوريين ذلك أو يطالبون به وهم غير قادرين على حكم ما هو متاح بيدهم من أرض؟ كيف سيقنعون العالم بأنهم يستحقون أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم في دولة مستقلة تشمل كل سوريا فيما فصائلهم منشغلة ولاتخدم إلا الأسد وإعادة تعويمه؟
عندما تصل الأمور إلى أن يتقاتل من يُفترض أنهم حماة وحملة المشروع وعندما يُخوِنون أو يُكفِرون بعضهم البعض بحجج واهية، عندئذ تنتصب أمامنا أسئلة كبيرة وخطيرة هل كنا نعيش في وهم وعلى وهم؟ هل كل هذا التاريخ النضالي الذي امتد قرابة ثماني سنوات المليء بالمعاناة والتضحيات والبطولات والأحلام الكبيرة أكذوبة كبرى؟ هل الذين سقطوا شهداء كانوا على خطأ؟ هل أبو فرات وبلال اوسي وعبد القادر صالح وغيرهم الكثير قطاع طرق؟ هل كانوا على باطل؟ هل الثورة لم تكن ثورة بل عقابًا إلهيًا لأننا عارضنا مشروع الأسد الى الأبد؟ هل جموع اللاجئين في مخيمات الوطن أو (الوطن المخيم) وفي الشتات كانت تعيش في على وهم لا أساس له وحق ليس بالحق عندما كانت تتمسك بأمل الأنتصار لوطن؟
أثبتت قيادتنا ونخبتنا العتيدة بغباء وعنجهية وفساد نسبته إلينا أننا لا نستحق هذا الوطن.
ولكن ومع افتراض أن كل ما ذكرنا صحيح وأننا من شعوب العالم الثالث المتخلفة التي تجري وراء الشعارات والقيادات الديماغوجية، وبالتالي فالقضية كلها كانت أوهامًا من صنع خيالنا، فهل كانت شعوب العالم ساذجة ومُغررًا بها وبالتالي كانت على خطأ أيضًا عندما تبنت الثورة السورية ورفدت المقاومة بالدعم اللازم، وكانت الثورة قدوتهم والمدرسة التي تعلموا فيها دروس النضال والمقاومة.
ولنفترض أيضًا بأن هذه جموع شعبية عاطفية وانفعالية يمكن أن تنساق وراء أوهام وشعارات كبيرة، فماذا بشان اعتراف أكثر من 100 دولة بعدالة قضيتنا واعترافها بثورتنا ممثلًا لشعب له حقوق سياسية، وبالتالي فتحت له سفارات وممثليات؟ وماذا أيضًا بالنسبة للشرعية الدولية؟ هل كانت عشرات القرارات التي صدرت وتعترف بحقنا في التغيير وحقنا بالعودة لوطننا بالنسبة للمهجرين في الخارج والداخل وحقنا بالمقاومة هي أيضًا أوهام وأخطاء ومن مصدر الخيال؟
يقينا لا يمكن أن تكون ثورتنا أكذوبة وحقوقنا وهما والعالم كله الذي اعترف بحقوق سياسية لنا حتى وإن لم تكن متطابقة مع كل أهدافنا على خطأ ولا يمكن أن يكون شعبا بكامله على خطأ إذن أين الخطأ والخلل ومن المسئول عما آلت إليه الثورة المباركة
كل مشروع وطني أو قضية وطنية أو ثورية تتكون من أسس ومبادئ داخلية وهي أن:
– تؤسس على شرعية وطنية
– تؤسس على شرعية سياسية
– أن يكون الشعب صاحب القضية
– وفي الحالة السورية مفهوم الشعب مرتبط بمفهوم المفهوم الوطني ثم القيادة السياسية
وفي الحالة السورية هناك خلاف حول الأسس الأربعة ولا مجال هنا للتوسع، أما الأسس الخارجية فهي:
– الأعداء وهؤلاء يقسمون لأساسيين وثانويين ومحتملين
– الحلفاء وهؤلاء أيضًا ينقسمون لحلفاء مبادئ وحلفاء مصالح
– المحايدون وقد يكون حيادهم استراتيجيًا أو حيادًا مؤقتًا أو مشروطًا
– والشرعية الدولية
وهذه مجتمعة يمكن تسميتها بالمحيط الخارجي.
تجاوب وفعالية البيئة الخارجية مرتبط بالأسس الداخلية، والركائز الداخلية مرتهنة بالقيادة التي تُحسن توظيف العناصر الثلاثة الأخرى، من كل ذلك نستنتج بأن البوصلة المحددة للاتجاه ومناط المسؤولية هي القيادة الوطنية للشعب صاحب القضية.
كثير من الأمم تعرضت للهزائم والدمار بسبب قياداتها الفاشلة أو المتواطئة، وأمم أخرى كانت مؤسسة القيادة عندها سببًا في نهوضها من كبوتها وهزائمها وتحقيق انتصارات، وواهم مَن يعتقد أن الشعوب تحكم نفسها بنفسها سواء بأنظمة الديمقراطية أو أنظمة الثورة، وواهم أيضًا من يعتقد بأن التحالفات أو المحاور الخارجية يمكنها أن تحقق لشعب ما حقوقًا سياسية قابلة للدوام، حتى وإن كانت التحالفات قائمة على أسس عقائدية أو أيديولوجية تكتيكية أو استراتيجية.
فإذا كانت قضيتنا عادلة ولا شك في ذلك، وليست عدالة مستمدة من ممارسات أمراء الحرب سياسيين أو عسكريين أو أيديولوجياتهم المأزومة، بل من صمود الشعب ومعاناته والاعتراف الدولي بهذه العدالة، إلا أن الخلل الأكبر يكمن فيمن نصبوا أنفسهم قيادة الشعب ونخبه السياسية أو دفعوا الشعب لصيرورتهم كذلك المشكلة في أشباه قيادات ليست في مستوى عظمة الشعب وعدالة القضية.
المشكلة في نخب سياسة تعتبر المناصب والمواقع القيادية والامتيازات والمظاهر هي القيادة أو مواصفات القيادة، أما القلة من القيادات الحقيقية فمغلوب على أمرها فأعداء الثورة يحاصرونهم إما بالقتل أو الحصار المالي والحد من حرية التحرك، والنخبة الغالبة تحاصرهم بكثرة مالها وسلاحها وسيطرتها على مراكز القرار في مؤسسات الثورة ومؤسسات المجتمع المدني أوعلى مستوى أي نشاط.
كنا نتمنى أن تردعهم التداعيات المدمرة والمخجلة لجولات الاقتتال السابقة، بعدما فشلت كل مواثيق الشرف التي تعاهدوا عليها، طبعًا مثقلة بالدين والأيمان الغليظة على الصدق على ردعهم، وتفاءلنا بإنتاج تفاهمات، إلا أننا فجعنا بأنهم اهتموا وانشغلوا بالمحاصصة ولملمة ملفات الفساد والتجاوزات فيما بينهم أكثر من اهتمامهم بوضع استراتيجية عمل وطني حقيقية وشراكة سياسية وعسكرية حقيقية، واستمرت حالة الفلتان والفوضى والقتل العبثي ولأن مفتيي السوء والفتنة تكاثروا بقدر تكاثر تجار السلاح والفساد السياسي، والأدهى من ذلك أن قتلى كل الأطراف شهداء وكأن مفاتيح الجنة بيد قادة الفصائل يدخلون ويخرجون من يشاؤون.
وحتى نخترق مفردات الألم والحسرة والأخلاق أو المثاليات، وهي التي سيطرت على كل من تناول موضوع الأحداث الدامية في المناطق المحررة، سنطرح تساؤلات نتمنى أن تتوقف عندها قيادتنا العتيدة انطلاقًا من مبدأ أنه ما زال هناك أمل و الأسئلة هي التالية:
– هل لدينا أي مسؤول وصاحب قرار منتخب، وإذا لم يكن منتخبًا لصعوبات معينه فعلى الأقل شخصية وطنية متوافق عليها ولو جزئيًا، ويفترض أن يكون بيده مصدر القرار.
– هل يمكن الفصل ما بين موجة الاقتتال الراهنة والتحركات السياسية التي تملأ ساحتنا مؤخرًا، وبالتالي نبدد الشك بأن الاقتتال من مستلزمات هذه التحركات وهناك قوى حرضت عليه وأشعلت فتيله.
– هل هو انزلاق محسوب ومخطط له نحو شكل من أشكال الوصاية يعيد الأمور إلى ما قبل تحرير إدلب، ولكن هذه المرة بحق أقل وأرض أقل وكرامة أقل، أم أن تعاظم الدور العربي وإعادة فتح السفارات والحديث عن قوات عربية هي من التداعيات المنطقية لتطور الأحداث الأخيرة، وبالتالي لا داع للتأويل أو التفسير.
– هل حقيقة أن الاقتتال هو بين جماعات متطرفة ومتمردة وتنفذ أجندة خارجية، أم هو قتال بين الفصيلين بقيادتيهما وبالتالي صراع بين إستراتيجيتين لم يفلح أي لقاء في التقريب بينهما.
– هل بعد كل ما جرى يمكن أن نستمر بالحديث عن فصائل وطنية، أم يجب أن نعيد النظر ببرنامجها واستراتيجية عملها وعامل الثقة بين مكوناتها، حتى لا يبقى الاسم ستار ترتكب من خلفه كل المحرمات والجرائم والويلات بحق الشعب.
وأخيرًا، ولأنه ليس لنا بديل للثورة إلا الثورة وليس لنا بديل عن النصر انطلاقًا من ذلك نتمنى على النخب الوطنية أن تصارح شعبها بالحقيقة كل الحقيقة، بدلًا من الهروب للأمام نحو مقاومة دون استراتيجية أو مفاوضات دون أفق سياسي، وكان الله في عوننا كشعب سوري.