الجواب عن هذا السؤال يفترض انتزاعه من واقع الحال، وليس من الافتراض ومفهوم الدكتاتورية في الذهن أو ما يتبادر إليه، وهو الحكم المركزي القمعي الذي يلغي كل المؤسسات الدستورية والاجتماعية والسياسية ذات الطابع الديمقراطي، أي التي تعتمد الآليات الديمقراطية في التمثيل الوظائفي والحكومي والإداري.
لقد حكمتنا الدكتاتورية في سوريا، عبر صيغة الحزب الواحد، منذ أن تسلم البعث مقاليد الحكم، فكانت كل ممارساته تصب في هذا الاتجاه، ما أسهم في صناعة الإنسان السوري المعاصر حسب رسومات وخطوط هذا الحكم، حتى تعود ذلك الإنسان على المركزية الصارمة، التي لا تسمح مطلقًا بالتعددية في كل أشكالها ولا تسمح بالمشاركة، بل على الشعب السمع والطاعة من دون حوار أو معرفة لماذا أو كيف.
والصيغة هذه ظلت ملازمة للمجتمعات في ثقافتها وأدبياتها، وبقي المنهج السياسي والاجتماعي والثقافي لمجتمعنا حبيس فكرة أو منطق الحاكم الواحد، الذي بيده الأمر والنهي وعلى الرعية السمع والطاعة، ما نفى كل معنى أو مفهوم للحرية والتحرر، فما يراه الأسد يجب أن يراه الشعب، والعكس ليس صحيحًا مهما كانت هذه الرؤية.
وحين تفكر جماعة أو فرد من أجل الخلاص يكون القمع ضدهم عنيفًا وعنيفًا جدًا، ولهذا حلم الناس بالخلاص عبر أي وسيلة ومن أي طريق، وحين بدت سوآت النظام تظهر للعالم، وحين عزم المجتمع الدولي على التحالف ضد الدكتاتورية في سوريا، كان الشعب مع هذا التحالف من دون تحفظ، وهلل لذلك على أمل أن يعيش الشعب كبقية خلق الله الآمنين.
ولما سقط صنم الطاغوت وفرح الشعب بذلك قلنا إن عصر الديمقراطية قد بدأ، وإن سوريا ستكون مركز تحول مهم للمنطقة والعالم، لما تمتلك من قدرات ومواهب بشرية، ولما أصاب شعبها من حيف واضطهاد، كان ذلك كله سببًا في هذه الرؤية.
ولكن كل هذا زال واندثر وتبددت أحلام الشعب حتى صارت هباء، ذلك لأن المتأسلمين كداعش، بالإضافة إلى حزب العمال الكردستاني والميليشيات الإيرانية ومخابرات النظام والثورة المضادة، لما دخلت واخترقت بوابات سوريا بدأت تمارس دورها التاريخي في القتل والتفريق والجهل والتخلف والعبث والفوضى وكل سلوك منحرف. وهنا فقد الشعب الأمن والسلام ودفع على غير إرادته ليمارس عملًا سياسيًا فاشلًا عبر الطائفية والمذهبية والمناطقية والقبلية، وعاد الشعب سنوات وسنوات متخلفًا حتى عن أقرب شعوب الأرض النائية الفقيرة والمحرومة.
وكان لدول عديدة إسهام كبير في تفتيت روح المواطنة من خلال الدسائس والتحريض، خوفًا من أن يكون بناء السوريين لدولتهم على نحو مثالي حافزًا لشعوب المنطقة لتحذو حذوهم، فبادروا إلى قتلهم قبل أن يشتد عودهم. ساعد في ذلك ظهور حفنة من السياسيين الفاشلين والفاسدين والمنحرفين وغير الوطنيين، كما ساعد في ذلك عجز المشاريع والطروحات التي اعتمدت التقسيم على أساس الطائفة والمنطقة.
حدث هذا والشعب لم يستطع أن يلتقط أنفاسه ولو لمرة واحدة، وصار كل واحد أميرًا وكل واحد إمامًا، وكثرت الميليشيات وقطاع الطرق والمرتزقة، ففشل المشروع الذي قامت الثورة من أجله، وهوى الإنسان وسقط الشعب وماتت الإرادة، وتحكم في المصائر قوم لا يحسنون فن الحكم وقيادة الناس، وضاع الأمن… فكان لسان الناس يطلب الحماية عبر كل ظالم يمكنه حل مشاكلهم وإحلال الأمن لهم وتوفير لقمة العيش والعمل لعودة المهجرين إلى ديارهم وحماية ممتلكاتهم وأعراضهم وحوائجهم، وكان لسان حالهم يقول إن الحل بالحاكم الدكتاتوري، ولو لفترة تزول به ومن خلاله مظاهر العنف والفساد والتشرذم، وحبذا لو كان الحاكم يغير كل شيء، والشعب سيكون معه فلقد مل منطق الديمقراطية وثقافتها، ولعل علامات ذلك قادمة مع الوضع الذي نشهده في المنطقة من فوضى وقتل وخطف ودمار.
ولكي ينعم السوريون بالحرية والحياة الكريمة، فلا مناص لهم من التوجه بكل مصداقية نحو بناء دولتهم الجديدة بمفاهيم حضارية، تؤكد حق الشعب في السيادة على ثروات وطنه وأمواله وامتلاكها والاستفادة منها واستثمارها لما فيه صالح البلاد، ولما فيه من المحافظة على حق الأجيال فيها، وتؤكد حق الشعب في إيجاد آليات لضمان عدم طغيان مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية على يد دكتاتور جديد.
الدعوة لحل كل التشكيلات والتنظيمات المسلحة لن تجد الطريق لتحقيق مضمونها، إلا بوجود ثقافة بديلة تعمل على خلق وإيجاد الضمانات العملية التي تقطع الطريق على وجود سلوكيات الطغيان وسياسات الاضطهاد والقمع الأمني للمؤسسات الأمنية ضد أفراد المجتمع، هذه الثقافة البديلة هي وحدها الكفيلة بتصحيح المسار وهي الكفيلة بتوجيهنا إلى بناء الدولة، التي يسعى السوريون لأن تكون دولة لسيادة القانون وللعدالة الاجتماعية وللمؤسسات الديمقراطية، لا أن تكون ذلك الطاغوت والغول السياسي الذي يهيمن على ثروات الشعب وأمواله ويسلبه حقه في السيادة عليها، ويمارس العنف والظلم والقمع والاضطهاد ضد أبنائه وقواه الحية، المطالبين بالإصلاح والتغيير والحرية وبناء الإنسان.
التغيير عندما تكون أيدينا متضامنة متشابكة قادم لا محالة، لأن التطور هو سنة الحياة، والجمود ضد نواميسها.