مالك داغستاني
موقع تلفزيون سوريا:5/10/2021
كثير من الكتب والأبحاث تتناول الذاكرة الوطنية أو الذاكرة الجمعية لأمّةٍ ما، متناولةً أهمية تلك الذاكرة في بناء شخصية الجماعة، والتأثير حتى في سلوك أفرادها، لما تحمله تلك الذاكرة من المشتركات.
قد تصادفَ لي الاطلاع على كتابين مهمَّين في هذا المجال قرأت كتاب “الذاكرة والتاريخ” لجاك لوغوف الصادر عام 2018 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وخلاله يستعرض لوغوف رؤيته أو رؤية المدرسة التي ينتمي إليها إلى التاريخ. ولم أقرأ الكتاب الثاني، وأعتقد دون تأكيد أنه الأهم، بل قرأت عنه، وهو كتاب “عن الذاكرة الجمعية” للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبواكس، سيخلص فيه إلى أن لا جماعة واعية بدون ذاكرة. هل أثقلت عليكم؟ ربما، ولكن لم أجد بدّاً من هذه المقدمة لأدخل إلى ما ترميه الأحداث اليومية خلال السنوات الأخيرة في وجوهنا على شكل أخبار، وإنما هي في جانب آخر منها، ما سيشكل الذاكرة الوطنية الجمعية لأجيال قادمة.
هل كان هناك في تاريخنا ما سُمّي عصر التدوين؟ نعم،
ولكننا اليوم نسحب من ذاك العصر (الانتقائي في تدوينه) لقبه ذاك، ليكون عصرنا الراهن هو الأجدر بهذه التسمية. ستدوِّن مريم حلاق عن قتل ابنها أيهم تحت التعذيب، ورحلتها لمعرفة مصيره. ستدوّن سيدرا الشهابي عن أبيها المختفي قسرياً في سجون الأسد منذ عشر سنوات، وسترفع المناضلة السورية فدوى محمود صورة زوجها وابنها في ذكرى اعتقالهما وتقف لتروي حكايتها في إحدى ساحات دول اللجوء.
من، ممّن يمتلك الحد الأدنى من الضمير، سيجرؤ على تكذيب رواياتهنّ عن أحبابهنّ، حين سيحاول تفعيل ذاكرته الانتقائية؟ طبعاً فقط نظام الأسد فعلها وسيفعلها على الدوام.كان يوم أمس هو الثاني من أكتوبر/تشرين الأول، وقد تداول عديد من الأصدقاء على صفحاتهم مجموعة من الذكريات التي حدثت في هذا اليوم. شخصياً توقفت مع عدد منها لأنها تعني أناساً عرفتهم سابقاً بدرجات متفاوتة.
للوهلة الأولى اعتقدت أنه يوم خاص مزدحم بالذكريات المؤلمة، لأكتشف بعدها بدقائق، أنه يوم سوري عادي في حقبة الأسد. في الثاني من هذا الشهر اعتقل المحامي خليل معتوق مع أحد أصدقائه عام 2012 وهو في طريقه إلى عمله، وحتى اليوم بعد انقضاء تسع سنوات لا أحد يعرف مصيره أو أي شيء عنه، وكان معتوق واحداً من أشهر المحامين الذي تولّوا الدفاع عن المعتقلين السياسيين السوريين أمام محاكم النظام، وكان له ولعدد من زملائه، فضل خاص عليَّ وعلى أصدقائي، كمتطوعين للدفاع عنّا، ونحن نخضع للمحاكمة أمام محكمة أمن الدولة في دمشق عام 1992 وما تلاه.
في اليوم ذاته ولكن عام 2018 كانت ذكرى وفاة الصديق المفكر الفلسطيني والعاشق السوري سلامة كيلة، الذي أمضى سنوات طويلة في سجون الأسدين، كان آخرها اعتقاله خلال الثورة، ومن ثم إبعاده ودفعه خارج الحدود، ليفارقنا بعدها متأثراً بما خلّفه السجن في جسده، تاركاً وراءه أكثر من 20 كتاباً من تأليفه. على صعيد المحيط الإقليمي والعربي سيشاركنا في ذات اليوم الصحفي السعودي جمال خاشقجي بذكرى اختفائه ومقتله في قنصلية بلاده في إسطنبول، مُقطّعاً بمنشار كهربائي كما أفادت الأدلة، تلك الأدلة الفضيحة التي علم بها العالم أجمع، لكنها لم تفضِ إلى معاقبة الفاعلين على جريمتهم، رغم ما تحمل تلك الجريمة من فرادة في الأسلوب والوقاحة.
كما ذكرت، فقد اعتقدت لوهلة أنني أمام يوم استثنائي، لكن، بمراجعة بسيطة اكتشفت أنه نسخة عن اليوم السابق واليوم الذي سوف يليه.
فقبل عشرة أيام كانت ذكرى اعتقال عبد العزيز الخيّر وإخفائه مع ماهر طحان وإياس عياش، عبد العزيز الصديق ورفيق السجن أيام الأسد الأب. ولو تقدمنا خمسة أيام إلى الأمام على محور الزمن، لصادفتنا ذكرى مقتل المناضل مشعل تمو، حيث اقتحم أربعة مسلحين منزله في السابع من الشهر عام 2011 وأردوه بالرصاص وأصابوا من معه ومن بينهم ابنه.
ذكرت تلك الحوادث لأنها تخص أناساً معروفين في الفضاء السوري العام، ومعظمهم أعرفهم شخصياً، ولم أتطرق لأشخاص تمر كل يوم ذكريات مؤلمة عنهم، كأن يكتب أب سوري “إنها الذكرى الرابعة لاستشهاد ابني عامر” أو أن تكتب أم سورية “اليوم يمضي على اعتقال ابني أحمد تسع سنوات”.
وأنا لا أعرف عن عامر أو أحمد إلا أنهما جزء من ذاكرة السوريين المفجعة. آلاف، بل أكاد أقول مئات الآلاف، من هذه المآسي تعج بها الذاكرة السورية.
وهذه هي العناصر الأبرز في ذاكرتنا الجمعية كسوريين. أجل جرائم الأسدين شكّلت معظم ذاكرتنا، حتى لتكاد تكون صالحة كواحدة من أهم العناصر لتعريفنا كأمّة، مثل اللغة والجغرافيا والتاريخ المشترك، ما يؤكد وحدتنا.
فذاكرتنا وأجندتنا التاريخية باتت مليئة بأحداث من هذا النوع. اليوم ذكرى مجزرة كذا وقتل فلان تحت التعذيب واعتقال فلان وإخفائه قسرياً. ذاكرة محشوّة بالسواد والرايات المنكّسة حداداً على الضحايا. حتى يوم 18 مارس/آذار، الذكرى الأكثر نصاعة في التاريخ السوري المعاصر، فإنها مخضبة بدم شهيدين قتلتهما مخابرات الأسد في شوارع درعا.
الثاني من تشرين ليس يوماً نافراً في أجندة ذكريات العام، فلو اخترت أي تاريخ آخر لوجدت فيه مثلَ، أو ربما ما يفوق، ذاكرة هذا اليوم. أجندتنا كاملة صارت بفضل واقع حالنا مع نظام الأسد مطليّة بالأسود، ولا نكاد نستطيع أن نعثر على ثغرة مشعّة خلال هذا السواد. وللمصادفة صادفني قبل أيام تقرير قديم للشبكة السورية لحقوق الإنسان يوثّق حدوث 30 مجزرة، فقط خلال شهر تشرين الأول عام 2014، توزعت على معظم الجغرافيا السورية. ست وعشرون منها ارتكبتها قوات الأسد، وتوزعتِ المجازر الأربع المتبقية على تنظيم داعش وأقرانه.
تسببت تلك المجازر بحسب التقرير بمقتل 393 شخصاً بينهم 162 طفلاً و51 سيدة. مستقبلاً سوف يسعى كل طرف للحذف الانتقائي من تلك الذاكرة الوطنية، وهذا أمر مفهوم في سياق الحروب والمجازر وأوقات الشدّة عموماً، ولكن هذا المسعى لن ينجح كما أعتقد وأتمنى، فأيام التواطؤ على حذف كل ما هو غير مشرّف من مجازر وجرائم حرب وعمليات تطهير عرقي وإبادة جماعية، قد ولّى.سنجد لدى ذواكر أناس آخرين في دول أخرى أيام مفرحة في تاريخهم الوطني (كان لدينا مثلها قبل نصف قرن)، تتحدث عن الإنجازات الاستثنائية في مجالات الآداب والعلوم وصولاً إلى غزو الفضاء، أما السوري المعاصر، فإنه غالباً يؤرخ لذكرى يوم إصابته أو يوم اعتقاله أو نجاته من الاعتقال، وربما اعتبر بعض الأيام المفصلية بمنزلة علامة تاريخية فارقة، فيتحدث عما قبل أو بعد مجزرة الكيماوي، على سبيل المثال.
وفي ذكريات يراها أصحابها أنها سعيدة، فإن البعض يكتب عن يوم مغادرته سوريا إلى أحد بلدان اللجوء.
في زمن انتصار الشرّ بموافقةٍ عالمية، فإن ذكريات السوريين لا تغطي أيام العام كاملة وحسب، بل وتضيف طبقات فوق طبقات، ليغدوَ كلّ يوم من أيامنا يوم مجزرة.