تشير الأوضاع العسكريّة في عفرين في شمال سورية إلى إمكانيّة تقدّم قوّات عملية غصن الزيتون، التركية، نحو مركز المدينة، وبالتالي إطباق الحصار عليها، بما هي آخر المعارك التي ستخوضها “وحدات حماية الشعب والمرأة” في عفرين، فتراجع زخم المعارك في بلدات وقرى كثيرة يوضّح رغبةً لدى هذه القوات في خوض معركة واحدة وأخيرة، في مشهدٍ بات يعيد إلى الأذهان وقائع معركة كوباني (عين العرب) في العام 2014، وتقدّم مسلّحي تنظيم داعش بشكل سريع، على أثر انسحاب وحدات حماية الشعب من خطوط التماس، ثمّ من القرى والبلدات المحيطة بمدينة كوباني. وبالتالي تحويل مركز المدينة إلى ساحة اشتباك والتحام مباشريْن. تفيد أحوال المعارك الدائرة في عفرين بأن شيئاً من هذا قد يتكرّر في الأيام المقبلة.
تسعى القوات الكردية إلى التقليل من الخسائر في المساحات المفتوحة، فمن شأن الحرب المفتوحة في كل القرى والبلدات (نحو 360 قرية وبلدة) أن يبدّد من إمكانات المقاتلين الأكراد، ويضاعف خسائرهم. لذلك يبدو أن سياسة ادخار الجهد والاقتصاد في الأرواح، إضافة إلى تجميع المقاتلين في رقعة واحدة، هو المنهج الذي ستعتمد عليه القوات الكردية.
من شأن الحصار المفترض أن يضيّق على المدنيين المقيمين في عفرين، أو النازحين إليها من قرى المنطقة وبلداتها، وكذلك النازحين إليها لاحقا من مدنٍ سوريّة عدّة، وأن يعرّضهم إلى مخاطر جسيمة، تتمثّل بوقوع خسائر في الأرواح، جرّاء الاشتباكات وعمليات القصف الجوّي والمدفعي، علاوةً على النقص الذي قد يطاول المواد المعيشيّة والأدوية وحليب الأطفال. ولعلّ الشروع في قطع المياه عن مدينة عفرين، بعد أن تمكّنت قوات “غصن الزيتون” من قطع المياه عن المدينة، عبر سيطرتها على مركز توزيع المياه، ما ينذر بإمكانية تعاظم المشكلات الناجمة عن الحصار.
تجعل مسألة انتقال المعركة إلى داخل المدينة المشهد أكثر تعقيداً، إذ من شأن القصف الجوّي والمدفعي أن يضاعف معاناة المدنيين، ويجعلهم على أعتاب “مجازر” مشابهة للتي تحدث في الغوطة، ما قد يؤدي إلى ارتفاع اللهجة المناهضة للعمليّة العسكريّة في عفرين على المستوى الدولي، فسقوط ضحايا في صفوف المدنيين أحد الوسائل التي قد تؤدي إلى استنفار الرأي العام الدولي في العواصم الغربيّة، وهو أمر لا يخدم أهداف “غصن الزيتون”، إن لم نقل إنه يعرقلها، عبر إيجاد ثغرة “إنسانيّة” تنال بها القوى الدوليّة من سمعة تركيا ودورها في المشهد السوري، لا سيّما وأن وجهة النظر الغربيّة تبدي قلقها على المدنيين، جرّاء الأعمال العسكرية.
ففي وقت سابق، حذّر مسؤولون غربيون، بينهم أميركان، من وجوب أن تكون الضربات التركيّة “محدّدة”. وقد سبق لوزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسن، أن صرّح بكلامٍ مشابه في وقت سابق، في إشارة إلى وجوب تجنيب المدنيين الأضرار الناجمة عن الإفراط في استعمال القوّة.
الغالب على الظن أن تركيا تعي جيداً مسألة صعوبة الفصل بين المدني والعسكري في عفرين، وأن تحوّل المعارك من معارك سهلة في الأراضي الفسيحة والتلال والمزارع إلى معركة مركّبة داخل مدينةٍ تعج بالسكّان والأنفاق والمتاريس. ولعلّ تركيا تعي كذلك أن تكتيك القوات الكردية يعمد إلى إرهاق تركيا في معركة واحدة طويلة، وجالبة للمتاعب، لكنها، في مطلق الأحوال، معركة الخصوم الأخيرة، مع ما تحمله من دلائل على إمكانية تحوّلها إلى حرب استنزاف، غير معلومة الأجل، على الرغم من التفاؤل الذي يبديه مسؤولون أتراك، كالقول إن العملية شارفت على الانتهاء، وإن التمكّن من السيطرة على عفرين قد يتم خلال أسابيع.
في إزاء ذلك، تعي القوات الكرديّة معنى الحصار المعطوف على صمت دوليّ مريب، كما أن سقوط ضحايا في صفوف المدنيين قد يؤدي إلى اهتزاز العلاقة المتبادلة بينهم، بما هم حاضنة القوات الكردية، وهذه القوات. وفي المقابل، قد يمد اختصار المعارك في معركة واحدة القوات الكردية بكل ما تحتاجه لإطالة أمد المعركة، من خلال الاقتصاد في أرواح المقاتلين، وكسب مزيد من الوقت، على ما يحمله عامل الوقت من إيذاء للجانب التركي الذي لا يضمن استمرار صمت روسيا وأميركا إزاء استمرار العمليّة العسكريّة.
من شأن حصول الحصار المفترض أن يدفع الأمور إلى أقصى الاحتمالات، كاحتمال “هزيمة” القوات الكردية، على ما يحمله هذا الخيار من إمكانية انتقال المعارك إلى مناطق ليست في حسابات الأتراك أنفسهم نوعا من التعويض الكردي النفسيّ للخسارة، ونوعا من الانتقام لخسارة عفرين، أو احتمال بقاء الوضع جامداً، الأمر الذي قد يضع تركيا في وضع عسكري وسياسي لا تحسد عليه، في ظل عمليات المقايضة الدولية ولعبة التوازنات داخل سورية، أو احتمال الخروج بحل وسطي، يقضي بإنهاء العملية وفق شروط تفرضها القوى الدولية، ودائماً عبر شعار “لا غالب ولا مغلوب”، بيد أن الاحتمال الأخير هذا يبقى رهين التوافق الروسي الأميركي، وتصوّرهما للحل في عفرين، إن لم نقل في سوريّة كلها.
يبدو أن خوض معركة واحدة وأخيرة في عفرين هو خيار المقاتلين الأكراد المجرّب والمفضّل، فهل ثمّة إيعاز من جهات دوليّة نافذة في المشهد السوري دفعت باتجاه هذا الخيار القاسي والطويل للأتراك والأكراد على السواء، أم أن تكتيك الحرب استلزم الخلاص إلى هذا النمط من المعارك، حلا أخيرا متبقيا؟