• الخميس , 28 نوفمبر 2024

كتاب وإعلاميون روس يفضحون نظام الأسد

الإعلام الروسي واقع تحت هيمنة الحكومة الروسية وتأثيرها، وما زال شغله حماية النظام السوري، وتلميع صورته، وتبرئته من المجازر والجرائم التي ارتكبها بحق الشعب السوري. وليست فقط وسائل الإعلام، وإنما كل النخب السياسية والمستشرقين، مع استثناءات، على أن عام 2012 شهد نشر مقالات نادرة للكاتب رينات محمدوف، أضاءت على طبيعة النظام السوري وسياسته الطائفية بعنوان “آخر علوي يحكم سورية”، وعن اللوبي الأسدي في موسكو، ولكن لم تنشر مقالات معمقة تشرّح النظام سياسيا واقتصاديا وثقافيا وإعلاميا وعسكريا، فذلك خط أحمر. وقد أجرى صحافيان روسيان مقابلتين مطولتين معي قبل سنتين، أحدهما من صحيفة موسكوفسكي كومسمولتس، ولكنّ إدارتي التحرير لم تسمحا بنشرهما.
وقد نشرت أخيرا في صحف ومنابر إعلامية روسية مقالات متميزة ونوعية عن سورية، تحضر فيها مقادير طيبة من الصراحة والجرأة والموضوعية، وتصور بصدق حقيقة النظام السوري والتاريخ الأسود لعائلة الأسد. وهذا غريب، نظراً لتعارضه بشكل جوهري مع السياسة الروسية الرسمية التي ما زالت تتردد من الكرملين ووزارتي الخارجية ووزارة الدفاع، وفي أغلب وسائل الإعلام، وخصوصا القنوات التلفزيونية.

وهنا نماذج لتلك المقالات الجديدة التي نشرها باحثون وخبراء واعلاميون روس، وفتحت نافذة حقيقية على سورية، وكشفت حقيقة النظام الذي يُحكَم من عائلة الأسد والمخابرات.

مقالتان في موقع إخباري
“لينتا. رو” موقع إخباري مشهور في روسيا، ومعروف بتوجهه المعارض والمختلف عن الإعلام الرسمي. نشر، يومي 18 و24 إبريل/نيسان الجاري، مقالتين، أولاهما بعنوان “بشار الأسد يخون روسيا لصالح إيران ويقتل آلاف السوريين”، كتبهما فلاديمير كورياغين وإلكسي نعوموف. والأول مدير تحرير الموقع، وقد أبلغ صاحب هذه السطور أنه، وزميله نعوموف، أرادا قول الحقيقة عما يجري في سورية. وقد استعرضا تاريخ عائلة الأسد منذ الأسد الجد الذي طلب من الفرنسيين إقامة دولة علوية، وحماية العلويين من السنّة. وأوضح الكاتبان بالتفصيل كيف تدرّج حافظ الأسد في المراكز العسكرية من خلال حزب البعث (انتسب إليه بحماس ممثلو الأقليات)، ووصوله إلى السلطة. وكيف تحالف مع القيادي في الحزب، صلاح جديد، للانقلاب على الرئيس أمين الحافظ في 1966، ثم انقلب الأسد على جديد نفسه عام 1970 وأودع رفاقه في السجن، مددا لا تقل عن عشرين عاما، حيث ماتوا إما في السجن أو بعد خروجهم منه بفترات قصيرة. وتوضح المقالتان كيفية تحويل الدولة السورية إلى دولة طائفية بامتياز. ويذكر الكاتبان كيف تحولت القيادات العسكرية والأمنية إلى أبناء الطائفة العلوية حصراً. وأهم ما أوردته المقالتان:
أولا، تعرّف المستشارون السوفييت على الطيار الشاب حافظ الأسد عام 1956 في القاهرة، وبعدها بسنة دعوه إلى الأكاديمية العسكرية في مدينة فرونز (جمهورية قيرغيزيا).
ثانيا، ساعد السوفييت حافظ الأسد، ودعموه بشكل كبير بالأسلحة. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، اتجه إلى الولايات المتحدة الأميركية، وشاركت قواته مع الأميركان في تحرير الكويت.
رابعا، عمل حافظ الأسد على إعداد نجله البكر باسل وريثاً له في الحكم، لكن باسل مات في حادثة سيارة 1994 في ظروف غامضة، عندها استدعى الأسد الأب نجله بشار الذي كان يختص في طب العيون في لندن، ليحل محل باسل.
وتتحدث المقالتان عن شخصية بشار الأسد الذي نشأ في العائلة منطوياً على نفسه، وكان مهملاً، لأن الأب حافظ دلل باسل واهتم به، ويروى أنه قال يوماً إن لديه ابنا هو باسل. أما الأم أنيسة مخلوف فكانت تحب ماهر. وكانت الباحثة الروسية في علم النفس الاجتماعي، يكاتيرينا إيغوروفا، قد درست شخصية بشار الأسد عام 2013 من خلال خطاباته، فوجدت أنه مريض نفسياً، ويحلم بأن يكون مثل أبيه (حاكم قوي لا يرحم). وسعى في سنوات الثورة السورية إلى أن يثبت للجميع أنه ابن أبيه. وحسب الباحثة، يعكس سلوك بشار ووحشيته ضد المدنيين تخوّفه من الشعب الذي رأى فيه وحشاً يريد قتله، ولذلك هو يبرّر استخدام وسائل البطش، لأنه يدافع عن نفسه، ويحمي نفسه من الموت.
وجاءت المقالتان على دور رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد وقائد سرايا الدفاع، في تدمير حماة، حيث قتل نحو أربعين ألف إنسان. وكيف أثرت تلك الحادثة الإجرامية في ذاكرة بشار، لكي يعيدها في مواجهة المظاهرات والاحتجاجات الشعبية في المدن والقرى السورية. وأشار الكاتبان إلى ربيع دمشق، وكيف غدر بشار بالمعارضين، وزجّهم في السجون، وعن خطاب القسم عام 2000 الذي وعد فيه بشار الشعب السوري بالتحديث والإصلاح، وتفاءل بعضهم به، إلى درجة أنهم اعتقدوا أن مرحلة الديمقراطية والحرية ستعم سورية، ثم خاب ظن الناس. وكشفت المقالتان عن الفساد والقمع في عهدي الأسد الأب والابن، وكذلك الظروف الطبيعية القاسية التي اجتاحت سورية في السنوات 1996 – 2004، وأدت إلى الجفاف ونزوح مئات الألوف من القرية إلى المدينة، وتحوّل ملايين السوريين فقراء. وتطرقت المقالتان إلى إجبار بشار الأسد على رحيل القوات السورية من لبنان عام 2005. وتناولتا، في عرض صحيح وموضوعي، قيام الثورة السورية، وأسبابها الحقيقية، وأوردتا واقعة قتل الطفل الشهيد حمزة الخطيب في درعا، وكيف أعادته المخابرات السورية إلى أهله بعد التمثيل بجثته، ووحشية الأجهزة الأمنية والجيش النظامي ضد المدنيين، ما استدعى تأسيس الجيش السوري الحر. واعترفت المقالتان بوجود قوى مسلحة معتدلة قاومت النظام، وقوى إسلامية متطرفة ادّعت أنها تقاوم النظام، لكنها في الحقيقة كانت تعمل لأجندتها الخاصة التي لا تتفق مع أهداف الشعب السوري.

تصريحات وتقديرات
تتابعت مقالات وتصريحات روسية عن الأسد تصب في المنظور أعلاه:
صرحت الناطقة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، في مقابلة مع قناة “سكاي نيوز” البريطانية في 13/4/2018: “قبل نزع السلاح الكيميائي من سورية، كان بشار الأسد الصديق الأفضل ليس لموسكو، لكن لواشنطن ولندن”.. وأن “وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري، كان، إبان عضويته في مجلس الشيوخ، على علاقة ودية مع الأسد الذي قضى معظم حياته في بريطانيا،.. إنه رجلكم أكثر مما هو رجلنا”.
وقال رئيس تحرير صحيفة نيزافيسيمايا غازيتا، كونستانتين ريمتشكوف، في 4/3/2018: “روسيا تحمي بشار الذي يستخدم السلاح الكيميائي ضد شعبه، وهي التي استخدمت هذا السلاح في بريطانيا (في إشارة إلى عملية تسميم الجاسوس الروسي، سيرغي سكريبال). ولذلك أعتقد أننا أمام لعبة دولية جيوسياسية كبيرة. يمكن لروسيا أن تسلك فيها طرقا مختلفة. يعتقد ترامب أن موسكو يمكن أن تتخلى عن إيران. ستقول إسرائيل تريد أن تصفعها وأميركا أيضا. ولكن، ماذا يمكن أن نطلب في المقابل؟ بقاء الأسد؟ هذا هو الغباء بعينه، فالأسد ليس عمنا ولا خالنا، لكي نتحمّل كل هذه العقوبات الغربية، بسبب دعم نظامه”.
ويقول خبراء روس إن هناك في موسكو من يبحث بجدية عن بدائل وعن سبل للخروج من المأزق الذي وصلت إليه روسيا، المتورطة في المستنقع السوري. ويرى مستشرقون أن بشار الأسد لم يعد قادراً على لمّ شمل السوريين، وأنه جزء من المشكلة وليس من الحل. وأصبحت نخبة من الخبراء والسياسيين والعسكريين يفكرون جدياً في البحث عن مخرج، وعن بديلٍ للأسد، مع خشية بعضهم من سحب بشار الأسد من اللعبة، وانهيار المنظومة السياسية بكاملها. ويذهب باحثون إلى أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، دافع بقوة عن بشار الأسد، ليس حبا لشخصه، بل لاستخدام الورقة السورية، لكن بوتين ذهب بعيدا في دعم الأسد، إلى درجة أنه لم يعد هناك خط رجعة، وكأنه أصبح رهينةً للأسد.
يقول الباحث الروسي، نيكولاي كوجانوف، عن مستجدات الموقف الروسي: “الآن، تغيرت المعطيات، وتمت إعادة بشار إلى منصبه. ومن حينها، أخذ زمام المبادرة. في الواقع، جرّنا السوريون إلى الغوطة الشرقية على مضضٍ منا. ونحن الآن في طريق مسدود”.
ويكتب الباحث العسكري الروسي، كيريل سيميونوف، مقالتين، “من يحكم سورية؟” و”الجيش السوري تحول مليشيات”. ويفصل بالتعريف بكل فرد في عائلة الأسد وأقربائهم وأهم الشخصيات العسكرية والأمنية والسياسية الموالية والمحيطة بهم. ويعرض بموضوعية وصدق الوضع في سورية، ومن ذلك أن عائلة الأسد هي التي تحكم سورية، وتساعدها في ذلك شريحة من الضباط العلويين، وأنه ما دامت هناك سلطة إدارية لدى عائلة الأسد، لا يمكن إجراء إصلاحات حقيقية في سورية. ويكتب سيميونوف: زال الآن الخطر الأساسي عن النظام، بفضل تدخّل روسيا وإيران، فلولاه لسقط النظام بيد المعارضة. ويتابع: عندما نقول إن النظام كسب الحرب يجب أن ندرك أنه لم يكسب السلام. فكل المشكلات التي أدت إلى الحالة الثورية في سورية تعمقت أكثر خلال الحرب، أي أن أسباب الثورة ما زالت قائمة، بل تعمقت أكثر نتيجة التدمير والتهجير القسري والتهجير إلى خارج سورية، ونتيجة تفتيت المجتمع. ويلاحظ الخبير أن مستوى الفساد ارتفع بدرجات غير مسبوقة، وأن الأموال تجمعت في أيدي فئةٍ محدودة، خصوصا من الشبيحة. ويستنتج الكاتب: إن لم تجر إصلاحات عميقة تمسّ أسس النظام السياسي، ستكون الظروف متاحة لمزيد من التصعيد والتوتر. ولذلك، من الأفضل تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 وتشكيل هيئة حكم انتقالية. ويرى أن من الأفضل تحويل البلاد إلى نظام برلماني لتقييد سلطة الرئيس. ويجب إشراك المعارضة السياسية والمسلحة في عملية التغيير، وإلا من الصعب المضي نحو الأمام في سورية. وكانت مقالة سابقة للخبير سيميونوف تناولت الوضع الذي آل إليه الجيش السوري النظامي، واستنتجت أنه تحول إلى مليشيات.

خاتمة
بالاطلاع على محتويات المقالات المذكورة، الشاملة والموسعة والمعمقة، أرى أنها لم تنشر مصادفة، بل هناك ضوء أخضر من جهات روسية للكتابة في هذه المواضيع الحساسة التي تفضح النظام الأسدي الذي حظي وما زال برعاية ودعم منقطعي النظير من القيادة الروسية.

وأذكر هنا حديثاً مع خبير روسي في بدايات الثورة، قال لي: لو أن المعارضة تعاونت مع روسيا فإن الأخيرة ستلبي مطالبها، فقلت له كيف ذلك والخطاب الرسمي الروسي متعصب لنظام الأسد، إلى درجة يمكن وصفه بأنه ملكي أكثر من الملك. رد علي: لا تأبه للتصريحات، فعند حدوث تغيير في المواقف سيتغير الخطاب في أربع وعشرين ساعة. هكذا هي السياسة… لكن الخطاب والمواقف الروسيان ما زالا منحازين لنظام الأسد الذي فقد كل سلطته وقراره السياسي.
وقد حدثت متغيرات مهمة أخيرا بدأت في قصف قاعدة حميميم الروسية في سورية من طائرات بلا طيار، وقتل الأميركيين مئات الجنود الروس في دير الزور، مرتزقة من شركة أمنية خاصة (فاغنر) يملكها مقرب جداً من الرئيس بوتين، ويملك شركة نفطية كانت تعمل في سورية قبل الثورة وما زالت.
يضاف إلى تلك المتغيرات استخدام النظام وإيران السلاح الكيميائي في مدينة دوما، والتي دفعت أميركا وبريطانيا وفرنسا إلى توجيه ضرباتٍ على مواقع عسكرية للنظام، وكذلك قيام إسرائيل بعدد من الغارات على مواقع فيها تجمع للقوات الإيرانية، وذلك كله يربك الروس. وجاءت العقوبات الغربية الهائلة على الشركات النفطية والعسكرية الروسية، وعلى أغلب رجال الأعمال الروس المقربين من الرئيس بوتين، وكذلك كل وزراء روسيا، والتي تسببت في خساراتٍ تقدر بعشرات مليارات الدولارات. وهناك تدهور سعر العملة الروسية (الروبل) وانعكاس ذلك على الأسعار وغلاء المعيشة.
وتظهر في هذه الأيام مبادرات وعروض مختلفة على القيادة الروسية لإنقاذ ماء الوجه، وإنهاء حالة الحرب في سورية، يتلخص جوهرها في ضرورة تعديل روسيا موقفها في سورية، لكي تضمن مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية والعسكرية، فإعادة الإعمار التي تقلق الروس لا يمكن تأمين تمويل لها إلا إذا جرى حل سياسي. وروسيا أمام تحدٍّ كبير، فهي تريد أن تحقق أرباحاً، وتعوّض الخسائر التي لحقت بها نتيجة التدخل العسكري في سورية، وتريد جني ثمار ذلك التدخل، بعد أن أعلن الرئيس بوتين، في قاعدة حميميم نهاية العام الماضي، أنه تم القضاء على الإرهاب، وأن الظروف أصبحت مهيأة للبدء بعملية سياسية.

محمود الحمزة – العربي الجديد

مقالات ذات صلة

USA