حسن مراد
يحلو للبنانيين المقيمين في فرنسا الزهو بهويتهم الأصلية، بل يعتبرون أن هناك مهمة جبارة تقع على كاهلهم، سواء على صعيد دعم بلدهم الأم في محنته أو المساهمة في نشر ثقافتهم. مع ثورة 17 تشرين، اعتبرت أعداد غير قليلة من المغتربين أنهم الأمل الوحيد المتبقي لانتشال لبنان من قعره.
وحين تداعى أبناء الجالية في باريس إلى الاجتماع لتنظيم أنشطة مؤازرة، “شطح” بعضهم في طروحاته. فمنهم من طالب بتأسيس مركز دراسات لاقتراح قوانين جديدة تسمح بنهضة على كافة المستويات (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، البيئية، القضائية…). آخرون طرحوا تنظيم ورش عمل داخل لبنان لتوعية المواطنين إلى حقوقهم وواجباتهم، حتى أن فئة اقترحت تشكيل فريق من “التحري” لجرد ممتلكات المسؤولين في الخارج تمهيداً لمصادرتها. بل ذهب أحدهم إلى أبعد من ذلك ليعلن “حكومة لبنان في المنفى”! نقاشات ومبادرات أشارت إلى صبيانية سياسية، والدليل أن الأمور سرعان ما عادت إلى نصابها الطبيعي. لكن إذا ما نظرنا إلى النصف الممتلئ من الكأس، نجد حماسة ورغبة صادقة في التغيير. لكن الشواهد الحسية لا تشير بالضرورة إلى تحول كل مغترب إلى قيمة مضافة للبنان.
قبل أيام، وفي صفحة “لبنانيون في فرنسا”، كتب أحمد أحمد، سوري مقيم في باريس، منشوراً يطلب فيه المساعدة لإيجاد عمل. على الفور، انهالت عليه التعليقات العنصرية من عدد من اللبنانيين: منهم من “استهجن” وجود مثل هذا المنشور في الصفحة، ليحيلوه إلى صفحات السوريين وكأنها “مكانه الطبيعي”.
وآخرون لم يترددوا في البوح بعنصريتهم على نحو مباشر حين علقوا بالقول “لاحقينا على باريس” أو “سافر على بلدك لأنك عربي”، وكأن فرنسا موطنهم الأصلي. وقد صيغت بعض هذه التعليقات بصورة تسخر من لكنة السوريين، وهو تنميط يدل على إحساس بتفوق ثقافي على شعب بأكمله، لا سيما أن تعليقات أخرى دعت صاحب المنشور للكتابة باللغة الفرنسية. الهجوم أربك أحمد (وفقاً لما أورده في أحد تعليقاته)، ما دفعه للرد على تعليقات بعض السيدات متوجهاً إليهن بصيغة المذكر، ما تحول إلى مادة للتهكم عليه. في المقابل، كان المتضامنون مع أحمد أكثر عدداً، وعبّروا عن ذلك بشتى الوسائل: منهم من أبدى استعداداً لمساعدته عبر سؤاله عن طبيعة العمل الذي يبحث عنه.
آخرون طالبوه بعدم الاكتراث لهذه الأقلية، متمنين له التوفيق، لا سيما أن الإجراءات الحكومية الرامية إلى السيطرة على فيروس “كورونا” تسببت بشلل جزئي للحركة الاقتصادية في فرنسا. فيما اتخذ البعض موقفاً أكثر حزماً، فلم يتردد في ملاحقة كل تعليق عنصري لتحجيم صاحبه وتفنيد محتواه.
القيّمون على الصفحة بادروا إلى محو المنشور، لكن بعد يومين اثنين. وأبدى بعض المعلقين استغرابهم من “تقاعس” المشرفين عن التصدي لهذه العنصرية. إستناداً إلى تجارب شخصية، يمكن التكهن بأن المشرفين على صفحة “لبنانيون في فرنسا” نشيطون، إذ يتابعون عن كثب كل ما ينشره الأعضاء ولا يترددون في إزالة أي محتوى لا يتناسب مع توجهات الصفحة (كالمنشورات ذات الطابع السياسي). فما سبب محو المنشور بعد يومين، فيما كانوا يزيلون منشورات أخرى في أقل من ساعة؟ هل أنهم لم يجدوا مبرراً لحذف المنشور، فأبقوا عليه من دون الانتباه إلى التعليقات العنصرية؟ ولماذا لم يكتفوا بإزالة التعليقات بدل محو المنشور الأصلي؟ وما سبب عدم طردهم للأفراد الذي تفوهوا بهذه العبارات العنصرية من الصفحة؟ أسئلة طرحتها “المدن” على المشرفين الأربعة على المجموعة: اثنان منهما لم يردا، ربما لأنهما لم يلحظا الرسالة التي أرسلت إليهما عبر “مسنجر” وحفظت تلقائياً في لائحة “طلبات المراسلة” (Message Requests). الثالث لم يرغب في التعليق على الموضوع، من دون أي توضيحات.
أما المشرف الأخير فأجاب بأنه لم يلحظ المنشور، وبالتالي ليس على علم بالبلبلة التي أحدثها، كما لم يطّلع من أصدقائه على الأسباب التي دفعتهم إلى حذفه. وأضاف أنه، على المستوى الشخصي، لن يتردد في طرد كل من نشر أو علّق على نحو عنصري. وبناء على طلبه، تم تزويده بلقطات الشاشة التي وثقت جانباً من التعليقات. وسعت “المدن” للتواصل مع أحمد أحمد، وهي محاولة باءت بالفشل لعدم العثور على حسابه في فايسبوك، ما يطرح اسئلة عما إذا كان الحساب المذكور مزيفاً: فمن دخل إلى صفحة أحمد، قبل اختفائها، لاحظ في خانة النبذة الشخصية أنه خريج “هارفرد”، ما يثير الاستغراب عن سبب لجوئه إلى هذه الوسيلة للبحث عن عمل في وقت تتسابق فيه كبرى الشركات على استقطاب خريجي هذه الجامعة المرموقة. علاوة على ذلك، لم يحدد أحمد طبيعة العمل الذي يبحث عنه، بل أشار إلى أنه يبحث بالمطلق عن أي عمل، كما اتخذ في بعض الأحيان وضعية هجومية بلا مبرر. فهل أراد استفزاز بعض الأعضاء عن عمد، لعلمه بعنصرية بعض اللبنانيين؟ أم أن الإرباك تملكه فكانت ردوده غير متزنة؟لكن بعيداً من هوية أحمد أحمد الحقيقية، تطرح هذه التعليقات العنصرية تساؤلات إضافية حول اهلية أصحابها للعيش في فرنسا. فما تفوهوا به قد يعرضهم للملاحقة القانونية. والقضاء الفرنسي لا يتساهل مع من تثبت عليه تهمة البوح بخطاب عنصري و/أو يحض على الكراهية.من جانب آخر، لو تقدم أحدهم بطلب للحصول على الجنسية الفرنسية، هل سيلجأ، خلال المقابلة الشفهية، إلى الكذب مدعياً تماهيه مع قيم الجمهورية الفرنسية كالمساواة والإخاء؟ فتثبّت الجهات المعنية من عنصرية أي فرد، يعني عدم أهليته للعيش في المجتمع الفرنسي متعدد الهويات، ما يؤدي حكماً إلى رفض ملفه. هذا المثال ليس إلا دليلاً إضافياً على انعدام التسامح وتقبل الآخر لدى فئات من المغتربين اللبنانيين. ومن الواضح أن العيش في فرنسا لم يساهم في اندماجهم الاجتماعي، حتى لو كانوا ذوي ثقافة فرنكوفونية. وعليه، ليس مستغرباً قيام أعداد منهم بالتصويت لمرشحي اليمين المتطرف عند كل محطة انتخابية، معتبرين “أن فرنسا لم تعد تحتمل استقبال مهاجرين يهددون اقتصادها وهويتها”.