منذ دخوله المدرسة وفي مراحلها المتتالية، يُسأل التلميذ من الناس الذي يحيطون به، ماذا ستصبح عليه في المستقبل ..؟ ولطالما تتغير وتختلف إجاباته مع تزايد إدراكه لذاته. في مجتمعاتنا العربية التي لا تقيم مؤسساتها التربوية والتعليمية، اعتباراً لرغبة ومؤهلات الطالب في اختياره لما سيكون عليه، تتحكم السياسات السلطوية، وخططها الحزبية والتعليمية والاقتصادية، إلى حدٍ بعيد في تقرير المصير التعليمي والمهني للطالب، ولو جاءت خلافاً لرغبته كما يحدث في أكثر الأحايين. لا تخرج بدورها الأسرة خصوصاً والمجتمع عموماً، عن هذا التأطير الجبري المتراكب، طالما أن واقع الحياة وقوانين سيرها، لا تسمح بأكثر من دفع أبناء المستقبل إلى ما يجب أن يفعلوه، وليس ما يحبون ويرغبون فعله.
لا غرابة إذا أن نرى إناثاً وذكوراً في بلادنا، قد ذهبوا خلافاً لإرادتهم الحرة، في مجالات علمية وتخصصية وعملية رغماً عنهم، وأخذوا يمرنون أنفسهم على الرضى بقسطهم من الحياة، وقمع ما كانوا يرغبون القيام به. على هذا النحو يولدون ويكبرون على مشيئة القوى السلطوية المتعددة، التي تروض أفكارهم وسلوكهم كما تبتغي وتريد. إذ يغدو الجدار النفسي بين واقعهم وأحلامهم، أكبر حتى من قدرة أجنحة خيالهم على اختراقه. قلة ربما هي الفرقة الناجية، التي ساعدتها الحظوظ أو الظروف على ممارسة خياراتها بحرية تامة.كنا نفاجئ على سبيل المثال عندما نسمع عن طبيب، أقلع عن مهنة الطب في مرحلة ما من عمره، وانكب على الكتابة الأدبية التي يعشق الخوض في غمارها. غير أن لا مفاجأة أن نسمع بمدراء لمؤسسات تعليمية أو ثقافية أو انتاجية، حازوا على هذه المناصب، فقط لأنهم ينتمون إلى حزب السلطة، بغض النظر عن مؤهلاتهم وإمكانياتهم لتوليه.
قيل وكُتب الكثير عن فلسفة التربية والتعليم في مدارسنا وجامعاتنا، التي قامت على تطبيق السياسات العلّية، في وضع الإنسان غير المناسب في المكان الذي يناسب من يجب أن يكون فيه، والتقط كثيرون من النبهاء في هذه الظاهرة الخطيرة، المعنى الحقيقي لفواتنا الحضاري عن المجتمعات الحداثية، التي سبقتنا أشواطاً في مختلف الميادين.قبل عدة أيام صادفت زميلاً محامياً في المدينة التي أسكنها، جمعني وأياه توكيلاً في دعوى قضائية قبل الثورة السورية بسنوات قليلة، وأخبرني بعد سؤالي عن أحواله، أنه بعد أن لجأ إلى تركيا، لم يجد عملاً كحال مئات المحامين، الذين تمنعهم قوانين البلد المُضيف من ممارسة المهنة، فاضطر لإعالة نفسه وعائلته العمل في أحد مصانع المدينة. مع أنني وبحكم شراكتي له في تلك الدعوى القضائية، وجدت فيه محامياً ألمعياً في الدفاع عن موكلنا المشترك. بالمقابل وفي مساء نفس اليوم الذي التقيته فيه، كنت أتصفح آخر المتابعات السياسية، التي أهتم بها على أحد مجموعات الواتس آب، فسمعت تسجيلاً لمُعارض سوري، يُدافع به عن أعمال اللجنة الدستورية التي هو أحد أعضائها، ينمُ حديثه المفكك عن سوء فهم قانوني لما يتحدث عنه “مع أنه محامٍ قبل أن ينخرط في معترك السياسية”. يشير الموقف الأول، إلى الإجحاف الذي يتعرض له من يملكون المؤهلات والخبرات في مجال اختصاصهم، في زمن هروبهم من أوطان الموت والتهجير، إلى منافي تُنكر عليهم ما كانوا عليه، ولا تعترف إلا بصفتهم لاجئين في تصنيفٍ ينسخ ما عداه. أما الموقف الثاني، فقد ذكرني بامتداد إرث النظام في مؤسسات معارضيه، التي تحتفي بظاهرة الشخص المناسب في مكان لا يحتمل مؤهلات وخبرات أكثر من المحسوبية والولاء. يجري ذلك في تجاهلٍ تام من القابضين على زمام تلك المؤسسات، أن الثورة قامت أساساً لتغيير كل المسببات والظواهر الخطيرة، التي رعاها نظام الفساد والاستبداد، وأنتجت لا عدالة ولا مساواة ولا تكافؤ فرص بين أفراد وطبقات المجتمع.
المدعو للمفارقة المؤلمة، أن يتحول حلم من رفضوا ثقافة المدارس، التي تُخرّج أجيالاً من مدنيين وعسكريين ونُخب على مقاسِ دولٍ فاشلة، وفي مناخاتٍ طاردة لأصحاب التفوق والاجتهاد والابداع، تشرعنها سياسات خانقة لا مكان فيها لحرية الاختيار الذاتي. أولئك الحالمون بواقعٍ لا يأتلف مع واقعيةٍ صماء، يدفعون في زمن الثورة وبكل مرارة، أثمان خروجهم لكسر القيود التي كانت تجبرهم، على الرضوخ لسياسات متخلفة وظالمة، ديدنها تصعيد الفاشلين وإقصاء الناجحين. إذ أن الحرية التي تصون الكرامة وتفضي إلى العدالة، كما ثار من أجلها الحالمون بفجر الخلاص، لا تقبل تجرع ذاك الإرث البغيض، باسم واقعية استضعاف أصحاب المصلحة في ثورة عارمة، قامت لبناء ثقافة التغيير الجذري والشامل، والقطع مع واقعية السلطة اللعينة، التي تغيب عنها شروط الحياة العقلانية والإنسانية.الواقعيون في عيون السلطة الأسدية، هم المنخرطون في ماكينة التدجين والإفساد والخراب، والحالمون في قاموسها، هم الخطرون الذين يجب استئصالهم بكافة وسائل الإقصاء والقمع والتغييب. أما الواقعيون الذين تسلقوا على أكتاف الثورة، لضخ سردية النظام الغاشمة في أوصالها، فهم ورثة الواقعية السلطوية، يجسدونها في واقعية سلوكهم السياسي التي يبررون فيه، رؤيتهم الخاصة لعقلنة الثورة بما يطفئ جذوتها، من خلال تحويلها من مشروع حياة مفعمة بالحرية والكرامة والعدالة، إلى غنيمة يتسابق عليها الواقعيون الطفّار والشطّار، ويوزعون بينهم المكاسب والحصص. تطرح ظواهر وأمراض سياسية من هذا النوع المُتردي، النظر العميق في خطورة مدارس ومصادر تكوينية أخرى، تبث التفاهة والتسطيح حيال قضايا تخصُّ مصائر مجتمعاتنا،
ولا يمكن بأي حال الحديث عن أي مشاريع للتحرر، دون إنجاز ثورة فكرية وثقافية وأخلاقية، تفتح على تغيير بنيوي في أنساق الوعي المجتمعي. يتأسس على إقران ثقافة الحقوق بالعدالة، وعدم المهادنة مع البنى المعطوبة، ورفض المفاضلة بين البدائل السيئة والأسوأ، لأن ظواهر الفساد تُفرّخ حيثما وجدت منفذاً أو شِقاً تخرج منه. تلك مهام ثورية بالمنطق، الذي يأبى تخريج دعاة حرية لا يحملون صفاتها، وهي مسؤولية فردية وجماعية واجبة، كي لا تتطاول مدرسة نبذ الحالمين، التي تتعيش على الصمت والنفاق في تماديها، على من يبنون بكفاحهم وتضحياتهم واقعاً صالحاً وخصباً، لبزوغ الأحلام والتطلعات الجليلة، لا خيار ينقذ الثورة من الواقعيين المفترسين، والمتشابهين على الضفتين، سوى برفض وتعرية من يسعون لعودة عقارب الساعة، والجلوس في مدارس الواقعية الأسدية، التي تتفنن في تكتيف العقول وقتل الأرواح وسلب الحقوق.