أكد آخر سفير تركي في سوريا عمر أونهون، إن التقارب بين أنقرة ودمشق سيكون في حد ذاته مؤثراً للغاية، لكنه لن يكون كافياً لضمان السلام والاستقرار في سوريا.
جاء ذلك في مقال بمجلة “المجلة” واكد فيه أنه “ما لم تتوصل الأطراف إلى حل سياسي شامل، فإن خطر تجدد الصراع وحتى الحرب الأهلية سيظل مخيماً فوق سوريا”.
وأشار إلى أن التقارب التركي-السوري يتطلب “إرادة سياسية وجهداً جدياً في التعامل مع قضايا جوهرية”، مثل فصائل المعارضة السورية و”الإرهاب” واللاجئين.
وأشار أونهون أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ونظيره السوري بشار الأسد، قد يجتمعان “عاجلاً أو آجلاً”، لكن التوقيت “يعتمد إلى حد كبير على ما تحرزه المفاوضات من تقدم، وهذه عملية صعبة، ولا ينبغي لأحد أن يتوقع مخرجاً فورياً لها”.
وأوضح أن “المشاكل التي تحتاج إلى حلول متعددة الأطراف ومعقدة، بل إن حل مشكلة قد يولد مشاكل جديدة”، فضلاً عن أن “القضية ليست مقتصرة على تركيا وسوريا فقط. فقد أمست هذه مشكلة متعددة الأطراف مع مشاركة أطراف ثالثة مثل روسيا وإيران والولايات المتحدة وجهات فاعلة غير حكومية عديدة ومختلفة”
فيما يلي نص المقال كاملا
سوريا وتركيا.. عملية تطبيع غريبة
قد يجتمع أردوغان والأسد عاجلا أو آجلا
ما إن دخل وزير الخارجية التركي هاكان فيدان القاعة التي يعقد فيها مجلس وزراء خارجية جامعة الدول العربية اجتماعه، حتى خرج وزير الخارجية السوري فيصل المقداد والوفد المرافق له احتجاجا على ذلك.
حدث ذلك في القاهرة في 10 سبتمبر/أيلول 2024، حيث دعيت تركيا للمشاركة في اجتماع جامعة الدول العربية، لأول مرة منذ 13 عاما. ومع أن سوريا لم تعترض على قرار جامعة الدول العربية بتوجيه دعوة لتركيا، ربما بناء على طلب مصر بصفتها الدولة المضيفة ودول أعضاء رئيسة أخرى، فإن سوريا عبرت عن احتجاجها بهذه الطريقة فأضافت بذلك مزيدا من الإرباك إلى عملية التطبيع بين تركيا وسوريا.
السؤال الآن هو: هل هناك عملية تطبيع بين تركيا وسوريا؟ وإذا كانت، فكيف ستحدث؟في نهاية شهر أغسطس/آب، أعلن الرئيس بشار الأسد عند افتتاحه الدورة التشريعية الرابعة لمجلس الشعب في دمشق، أنه على الرغم من شكوكه تجاه تركيا، فإنه سيؤيد مبادرات المصالحة التي قدمتها روسيا وإيران والعراق.
وقد نُظر إلى تصريح الأسد على أنه تأكيد على استعداده للتعامل مع تركيا، دون شروط مسبقة، إنما بأهداف محددة تشمل “انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية والتوقف عن دعم الإرهاب”.
وسواء سمينا هذه العملية، تقاربا أو تطبيعا أو سلاما أو أي شيء آخر، فإن هذه العملية التي بدأت عام 2017 لا تزال مستمرة.كان أردوغان قد لاحظ، بعدما استعادت قوات الأسد، بدعم من روسيا وإيران، مدينة حلب نهاية عام 2016، أن المعارضة لم تتمكن من الإطاحة بالأسد كما كان يأمل، فسعى إلى وضع سياسة جديدة تجاه سوريا.
وقد كتب الجنرال ماكماستر، أحد مستشاري الأمن القومي للرئيس السابق دونالد ترمب، في مذكراته المنشورة مؤخرا، أن الرئيس أردوغان وصف الأسد خلال مكالمة هاتفية مع دونالد ترمب في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، بأنه “الفائز الحتمي في الحرب الأهلية السورية
تحولت سوريا إلى عبء على الرئيس أردوغان وحزب “العدالة والتنمية”، بوصفها أكثر إخفاقات السياسة الخارجية التركية حدة.
وبات الناخبون الأتراك بما في ذلك المؤيدون، ينتقدون سياسات أردوغان بشدة، فكان لزاما عليه أن يتعامل مع هذه المشكلة.فبادر جهاز الاستخبارات التركي بتعليمات من الرئيس أردوغان إلى فتح قناة مع الاستخبارات السورية وبدأت العملية.
وفي مرحلة لاحقة، التقى وزيرا الدفاع ووزيرا خارجية البلدين، ولكن الرئيسين لم يلتقيا لعدة أسباب، في مقدمتها أن الحكومة التركية كانت متعجلة لتقديم شيء ملموس للناخبين الأتراك قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مايو/أيار 2023. غير أن المشاكل بين البلدين كانت كثيرة ولم تكن لها حلول، وتبين أن الوقت قصير للغاية.
كما اعتقد الأسد أن أحزاب المعارضة سوف تفوز في الانتخابات ولم يرغب في إعطاء أردوغان ما قد يساهم في تعزيز فرص فوزه.ولكن ما يحدث الآن هو مرحلة جديدة من هذه العملية.
ومنذ شهر مايو 2023 حتى اليوم- وهو ما يمكن عدّه فترة توقف مؤقت- لم تنقطع الاتصالات تماما. فقد واصل ضباط الاستخبارات التركية والسورية وآخرون لقاءاتهم، ولكن بوتيرة أقل وعلى نحو حذر.واستغلت تركيا هذه الفترة في محاولة توضيح رؤيتها، ما الذي يمكنها فعله مع سوريا الأسد على أرض الواقع، وفي الاجتماع مع المعارضة السورية لتليين حدة مواقفها وإقناعها بأن لا تعارض هذه العملية.
غير أن معظم مجموعات المعارضة أبدت في الماضي ولا تزال تبدي ردود فعل قوية تعارض فيها بشدة مصافحة الأسد.في 3 سبتمبر/أيلول، أكد نائب رئيس حزب “العدالة والتنمية” والمتحدث باسم الحزب عمر جليك هذه العملية رسميا، لا بل حدد خارطة الطريق الأساسية أيضا، وذلك في معرض رده على سؤال عن العلاقات مع سوريا
.كما قدم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في مؤتمر صحافي عقده لاحقا تفاصيل إضافية، مشيرا إلى أن العمل جار على عودة اللاجئين، فضلا عن التدابير اللازمة لقمع أي تهديد إرهابي، وهو ما سيجعل من وجود القوات التركية أمرا غير ضروري. وقال لافروف إن روسيا وتركيا وسوريا وإيران ستعقد اجتماعا آخر في المستقبل القريب.لطالما عملت روسيا- انسجاما مع مصالحها الاستراتيجية- على التوفيق بين أردوغان والأسد، وهي أكثر تصميما وعلنية هذه المرة في جهودها هذه.
فقد يجتمع أردوغان والأسد عاجلا أو آجلا، وإذا حدث فإن توقيت اجتماع كهذا سيعتمد إلى حد كبير على ما تحرزه المفاوضات من تقدم. وهذه عملية صعبة، ولا ينبغي لأحد أن يتوقع مخرجا فوريا لها. فالمشاكل التي تحتاج إلى حلول هي مشاكل متعددة الأطراف ومعقدة، بل إن حل مشكلة قد يولد مشاكل جديدة. كما أن القضية ليست مقتصرة على تركيا وسوريا فقط. فقد أمست هذه مشكلة متعددة الأطراف مع مشاركة أطراف ثالثة مثل روسيا وإيران والولايات المتحدة وجهات فاعلة غير حكومية عديدة ومختلفة.يشدد الأسد على ضرورة انسحاب القوات التركية من سوريا
. وفي المقابل، صرح المسؤولون الأتراك علنا وفي أكثر من مناسبة أن القوات التركية لن تبقى هناك على نحو دائم.
ويوضح الجانب التركي أيضا أنه يتوقع ترتيبات وضمانات تكفل عدم نشوء تهديدات أمنية لتركيا من هذه المناطق ما إن تسحب قواتها منها.يتطلب التقارب التركي-السوري إرادة سياسية وجهدا جديا في التعامل مع قضايا جوهرية مثل، هل تركيا قادرة على إقناع عشرات الآلاف من أفراد الميليشيات المسلحة المناهضة للأسد بالاندماج؟ وهل سيسمح الأسد لهم وللملايين من معارضيه بإعادة الاندماج؟والقضية الأهم لكلا البلدين هي “الارهاب”.
فأول ما تفكر فيه تركيا تحت هذا العنوان هو كيفية التعامل مع “وحدات حماية الشعب”، وما الذي ينبغي فعله إذا استمرت هذه الوحدات في الوجود بشكل مستقل في الأجزاء التي تسيطر عليها حاليا، وتشكل حوالي 25 في المئة من سوريا
من ناحية أخرى، ترى سوريا جميع الجماعات المسلحة منظمات إرهابية، وتزعم أن “هيئة تحرير الشام” في إدلب والجماعات المسلحة الأخرى في شمال غربي سوريا لم يسعها البقاء دون دعم من تركيا. وسوف تكون قضية الجماعات المسلحة التي ستُعد منظمات إرهابية قضية مهمة ينبغي التعامل معها.والمشكلة الكبرى الأخرى هي اللاجئون السوريون.
فالمجتمع التركي- باستثناء بعض الجماعات الإسلامية التي تتمسك بمفهوم الأمة وبعض الجماعات الأيديولوجية- متفق عموما على ضرورة عودة اللاجئين السوريين.
وهناك أكثر من طريقة يمكن تطبيقها لإرجاعهم، إلا أن تحديد أي من هذه الطرق ينبغي استخدامها، فهذا خيار سياسي.
لقد أمست الحكومة التركية الآن أكثر حزما في تطبيق القوانين. وهي تعيد الكثير من السوريين الذين لا يحملون الوثائق اللازمة أو الذين تورطوا في أي نوع من المخالفات القانونية.ومن ناحية أخرى، من المهم أن نضع في الحسبان أن مصدر هذه المشكلة هو سوريا.
فالظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة والوضع الأمني، فضلا عن المخاوف من الاعتقال وما هو أسوأ منه، كلها عوامل لا تشجع السوريين على العودة.
ويبدو الأسد نفسه معتدلا في تصريحاته التي يدعو فيها السوريين في الخارج للعودة، لكن كثيرين منهم يشككون في نواياه الحقيقية. وتتزايد ثقة الأسد بنفسه لأنه يشعر بأن له اليد العليا. وهو محق في ذلك.
فقد تمكن من الاحتفاظ بمقعده في دمشق، وأعاد ترسيخ حكمه في كثير من الأماكن التي فقدها خلال الحرب الأهلية. وأعاد العلاقات مع الدول العربية، وعادت سوريا إلى الجامعة العربية.وبينما تستمر الولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى في اختيار فرض العقوبات والعزلة الدبلوماسية على الأسد.
فإن الاتحاد الأوروبي منقسم على نفسه، حيث تؤيد التطبيع مع النظام السوري كل من إيطاليا والنمسا وقبرص وجمهورية التشيك واليونان وسلوفاكيا وسلوفينيا وكرواتيا. ونوقشت هذه القضية في اجتماع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي قبل أيام.ومن ناحية أخرى، ليس كل شيء ورديا.
فلا يزال نحو 35 في المئة من أراضي البلاد خارج سيطرة الأسد. وعلى الأراضي السورية قوات عسكرية من عدد من الدول. وهناك عشرات الآلاف من المعارضين المسلحين في الشمال والشمال الشرقي.
وتُعد السويداء ودرعا في الجنوب من بؤر التوتر الشديدة. كما أن “وحدات حماية الشعب” وحتى تنظيم “داعش” لا يزالان قويين على الأرض. والاقتصاد في حالة مزرية. فكيف يمكن للأسد، في ظل هذه الظروف، أن يدعي النصر؟يشكك بعض المراقبين في أن الأسد يهدف إلى السيطرة على كل أنحاء سوريا، وأنه يريد بالفعل عودة اللاجئين السوريين.
فقد يكتفي الأسد بالسيطرة على منطقة تمتد من الحدود الأردنية إلى دمشق، فحمص وحماة ومدينة حلب والساحل بما في ذلك طرطوس واللاذقية.أما أعداؤه فسيواجه بعضهم بعضا وسيواصلون التناحر فيما بينهم في بقية أنحاء سوريا، ويقدم بذلك أسبابا لـ”الملاكين الحارسين” له، روسيا وإيران، لمواصلة الوقوف إلى جانبه لحمايته منهم.
على أي حال، سيكون التقارب التركي-السوري في حد ذاته مؤثرا كثيرا، لكنه لن يكون كافيا لضمان السلام والاستقرار في سوريا. وما لم تتوصل الأطراف إلى حل سياسي شامل، فإن خطر تجدد الصراع وحتى الحرب الأهلية سيظل مخيما فوق سوريا.