يناقش هذا الملف المعركة الدائرة في ريف حماة الشمالي، بين فصائل المعارضة السورية المسلحة من جهة، وبين قوات نظام الأسد والميليشيات الطائفية من جهة أخرى في إطار الصراع الدائر في سوريا من ثماني سنوات.
ونوطئ لهذا الملف باستعراض تحليلي موجز لأهمية جغرافية المعركة في بعدها العسكري المتصل بنتائجها وأهدافها.
ثم يتناول الملف بالتحليل جوانب هذه المعركة، خططا وتفاعلات ونتائج، كما نقف على آفاقها المحتملة اعتمادا على توجه عجلة المعارك ومحركاتها التي جعلت من الحرب في سورية كما لو أنها تجري في طريق لا نهاية لها في ظل التشابكات الإقليمية والدولية.
مقدمة:
منذ انطلاقة الثورة السورية عام 2011م دخل ريف حماة الشمالي خط المواجهة المسلحة بين فصائل الجيش الحر من جانب وقوات نظام الأسد و”الشبيحة” من جانب آخر، ولا تزال المعارك في تمدد مستمر على خريطة المحافظة في ريفها الشمالي والغربي.
أمام استمرار المعارك وبعد الاحتلال الروسي لأجزاء واسعة من سوريا، طرأت تغيرات على نمط القتال وخططه وإمكانياته ومواقف الأطراف في التحالفات والتكتلات، وظلت معركة الريف الحموي مثار جدل؛ حول تعثر الروس فيه، وما تشكله السيطرة عليه من قوة دفع لعجلة الحرب، وتأثيرا مهما في جبهة ريف اللاذقية يجني ثمارها المنتصر في هذه المعركة.
الأهمية الاستراتيجية للمعركة
يمكن وصف منطقة العمليات العسكرية في ريف حماة بأنها الجزء الأكثر حساسية وتأثيراً باعتبارها بوابة للساحل السوري عبر طريق سهل الغاب، وفيها منطقة غربي العاصي التي تقطنها أغلبية موالية لنظام الأسد وتقع على تماس مع جبال العلويين، وتعتبر خزانا بشريا ضخما يمد قوات الأسد وميليشياته بالمقاتلين. ومنها يمر خط إمداد نظام الأسد عبر حماة – مصياف، وفي جوار دائرة الاشتباك يقع مطارا “حماة العسكري” الذي تنطلق منه طائرات الأسد لقصف المدن والبلدات الثائرة، و”جب رملة” الخاص بحوامات البراميل. ويتبع ذلك قيمة استراتيجية وجيواستراتيجية للمنطقة من خلال تنوع تضاريسها بين السهلية والهضبية التي يخترقها نهر العاصي، مما أعطاها ميزة اقتصادية لها أهميتها الكبيرة في ظروف السلم والحرب. وتكمن أهمية هذه المنطقة كذلك في كونها أهم نقطة وصل وفصل جغرافي بين جنوب وشمال سوريا وهو ما يضعها في خريطة من يسعى لتحقيق نصر عسكري ضامن لوحدة سوريا أو تقسيمها.
عسكريا، تجدر الإشارة إلى أن من بين ما ركز عليه الروس ونظام الأسد، إحكام قبضتهم على حماة المدينة وريفها الغربي والشرقي وسعيهم في المعركة الجارية، لإخضاع سهل الغاب كمرحلة أولى والتمدد باتجاه جبلي شحشبو والزاوية بوصفهما ثقلاً جغرافياً وسكانياً، ومركزاً للحراك الثوري الرافض للمحتلين على امتداد التاريخ السوري المعاصر.
المشهد القتالي القائم
تكشف المعارك الجارية في ريف حماة الشمالي والغربي، وريف اللاذقية الشرقي عن وجود تنسيق عسكري عالي المستوى على الأرض بين فصائل المعارضة بمختلف تياراتها، قدمت خططاً تكتيكية أبهرت نتائجها المراقبين باستعادة بعض المناطق المستولى عليها حديثاً رغم القوس الدفاعي الاستراتيجي الذي أنشأه نظام الأسد والممتد من بلدة كفر نبوذة إلى قرية الكركات مرورا بقلعة المضيق، ولا بد من رصد سير المعارك وتفاعلاتها المهمة من خلال معرفة طرفي القتال.
أولا: فصائل المعارضة المسلحة:
ــ هيئة تحرير الشام: تملك قوة عسكرية أهمها جيش النخبة المتواجد على أغلب محاور الجبهات.
– الجبهة الوطنية للتحرير: يدخل غمار هذه المعركة بفصائل أساسية هي جيش “إدلب والنصر والعزة وأحرار الشام وجيش الأحرار وصقور الشام والجيش الثاني وجيش النخبة والفرقة 23 ولواء الحرية والفرقة الأولى مشاة والفرقة الأولى ساحلية والفرقة الثانية ساحلية وثوار الشام وتجمع دمشق”، تملك أسلحة خفيفة ومتوسطة وثقيلة اغتنمتها أثناء المواجهات مع نظام الأسد، و يرأسها عدد من القادة من بينهم ضباط أبرزهم “المقدم جميل الصالح قائد جيش العزة، والرائد محمد منصور قائد جيش النصر”. وتدعمهما مجموعات من الجيش الحر ذات مهام قتالية ولوجستية.
– الجيش الوطني: يضم مجموعات عديدة من كافة فرق وفيالق الجيش الوطني من أبناء ريف حلب وحماة وإدلب والمنطقة الشرقية، اتجهوا تحت إشراف قيادتهم مجهزين بكامل عتادهم باتجاه إدلب ووصلوا تباعاً إلى المنطقة، وشاركوا في صد هجوم قوات الأسد المدعومة من روسيا.
ثانياً: الميليشيات الروسية وقوات النظام:
ميليشيات فاغنر الروسية: شركة أمنية روسية يعمل تحت لافتتها مئات المرتزقة الروس وتتولى تنفيذ ما يوصف بالعمليات القذرة في مناطق النزاع المختلفة، قتل العديد منهم في المعركة الجارية بريف حماة الشمالي.
الفيلق الخامس اقتحام: وهو تشكيل عسكري بتمويل وتدريب روسي، يضم أفواج “الشواهين” و”الهواشم” و”الحوارث” و”الطرماح”، ومجموعات “وعد مخلوف” التابعة لـ “مليشيا النمر”، وميليشيا لواء “القدس الفلسطيني” سقط منهم العشرات وأسر آخرون في معركة ريف حماة الشمالي.
الفرقة الرابعة: التي يقودها ماهر شقيق رأس النظام، ومحور عملها جبهة ريف اللاذقية، تكبدت خسائر فادحة إثر محاولاتها السيطرة على قمة “الكبانة”.
تكتيك المعركة
تجري معارك ريف حماة الشمالي وفق خطط تفرضها الأحداث العسكرية على كل طرف، وفي جانب التكتيك المتبع في معارك ريف حماة الشمالي؛ فالملاحظ أن الهدف الروسي يتمثل في السيطرة على سهل الغاب باعتباره، يشاطر مناطق العلويين حاضنة الاحتلال الروسي وقواعده العسكرية، ولأنه سلّة غذاء المعارضة من الثروة الزراعية والحيوانية، ولانتزاعه من فصائل الثورة لابد من السيطرة على نقطتين استراتيجيتين، هما الكركات وحرشها مع ميدان غزال أقصى الجنوب الغربي لجبل شحشبو المطل على سهل الغاب، والنقطة الاستراتيجية الثانية، قمة الكبانة جنوب غرب جسر الشغور، وبعد اتباع سياسة الأرض المحروقة بكافة الوسائط النارية وبالأخص الطيران بأشكاله المتنوعة، سيطرت الميليشيات المهاجمة في خاتمة الأسبوع الأول على كفرنبودة وقلعة المضيق، وتقدمت باتجاه سهل الغاب من محور قلعة المضيق باتجاه باب الطاقة وسيطرت على الحويز، وهنا توقفت عمليات القضم السهل على هذا المحور، لاصطدامها بمقاومة فاجأت غرفة العمليات الروسية، مصدرها الحامية الثورية المتموضعة في حرش الكركات وميدان غزال الواقعتين أعلى الجرف الصخري لجبل شحشبو؛ فحاولت غرفة العمليات العسكرية السيطرة على هذه النقطة لانكشاف الميليشيات في المنطقة السهلية بعد وقوعها في مصيدة الفصائل التي باتت تستنزفها في العدد والعتاد، وكررت محاولات الهجوم عدة مرات يومياً، بلغت أكثر من خمسين محاولة، قتل على إثرها أكثر من مئة مقاتل جلّهم من لواء القدس الفلسطيني الذي زجّت به روسيا في محرقة سهل الغاب. وعلى محور الكبانة تواصل غرفة العمليات الروسية زج الفرقة الرابعة في محاولات للتقدم تزامنا مع قصف وحشي غير مسبوق استخدمت فيه روسيا غاز الكلور، إذ يتواجد في “الكبانة” مقاتلين من نخبة هيئة تحرير الشام والتركستان، وهنالك دشم وأنفاق وخنادق تم إنشاؤها من قبل فرق الهندسة، ويتواجد مقاتلو المعارضة بشكل مكثف في تلك المنطقة التابعة إداريا لمحافظة اللاذقية، وهي عقدة الوصل بين الساحل وادلب والغاب، وبحسب مصادر موالية متعددة، فإن (الفرقة الرابعة) عدا عن فشلها في معركة “الكبانة” فقد ارتفع عدد قتلاها إلى أكثر من 200 قتيل وأضعافهم من الجرحى، فيما الخسارة الكبرى تلك التي وقعت بقيادات وعناصر الفيلق الخامس الذي تشرف عليه روسيا، حيث قتل أكثر من 250 منهم وجرح المئات، ولاذ من تبقى منهم بالفرار أثناء هجوم الفصائل على كفر نبوذة. ليقوم نظام الأسد بإعدام العشرات منهم وبالأخص من عناصر المصالحات.
هدنة روسيا المؤقتة
بالنظر إلى استراتيجية روسيا المخاتلة، طلبت عبر تركيا من فصائل الثورة هدنة لمدة 48 ساعة في ريفي إدلب وحماة، ولكن فصائل المعارضة رفضت الهدنة بسبب القصف الجوي والمدفعي في التعامل مع هذه المعركة، التي مهدت لها على مدار أسبوعين من القصف غير المسبوق تمكنت فصائل الثورة من استردادها في الهجوم الأخير في ظل غياب شبه كلي للطيران الروسي، مما يفسر ظاهرياً تخاذلهم في هذه المعركة، ولكن تفسير الموقف الروسي يتجلى بالتالي:
ــ ترك قوات الأسد والميليشيات الأخرى في حالة عوز إلى الغطاء الجوي والدعم اللوجستي اللازم. لإفهام نظام الأسد وضباط الفيلق الخامس أن قواتهم دون المساندة الروسية منعدمة أمام فصائل الثورة.
ــ البحث عن طرق شتى لتمويل الحملة الجوية الروسية من مصادر إقليمية أو رؤوس أموال داخلية ومرافق خدمية محلية.
ــ الاستغناء عن خدمات الميليشيات الإيرانية في إطار التوافق الروسي الاسرائيلي لتحجيم الدور الإيراني في سوريا كمرحلة أولى تسبق إخراجهم من سوريا.
ــ التوافق التركي – الروسي على استنزاف قوى الصراع الداخلية، في هذه المعركة، لإنهاك وإرهاق واستنزاف طرفي الصراع والدفع التدريجي بهما إلى طاولة سوتشي، على نحو يتحقق فيه تنفيذ كامل البنود.
ملحمة “كفر نبوذة”
الملاحظ وفق المشهد القتالي، أن فصائل المعارضة تحولت من وضعية الدفاع إلى الهجوم وتطويره مما مهد عملياً قيام هيئة تحرير الشام و جيش العزة بالهجوم على محور كفر نبودة، حيث تمكنت من اقتحامها والسيطرة على البلدة بعد معركة استمرت 24 ساعة متواصلة بحسب إعلام جيش العزّة رغم صغر حجم البلدة، مع اغتنام ثلاث دبابات و”بي ام بي” وشيلكا و16 صاروخ مضاد للدروع وذخائر متنوعة، كما نشرت “تحرير الشام”، فيديو لضابط من ميليشيا النمر يدعى العقيد عبد الكريم السليمان، والواضح أن فصائل المعارضة تتخذ وضعًا دفاعيًّا مستميتًا، في إطار خطة أوسع، نسبيًّا، تقوم على المبادئة والمبادرة في الهجوم بفتح محاور قتالية جديدة نحو قرية المغيّر لتأمين “كفرنبودة” والقلعة من خلال السيطرة على مثلث الدفاع عن السقيلبية “المغيّر وبريديج وكرناز” وهذه المنطقة تسمى جغرافياً الطار الغربي وهي فاصلة بين المناطق المحررة والساحل السوري، والمحور الآخر حرش الكركات، تتمترس به المعارضة، للحؤول دون اختراق روسي لسهل الغاب، حيث لم يعد التقدم ممكنًا، بعد توغل فصائل المعارضة باتجاه المغيّر إثر استعادتها لبلدة كفرنبوذة، وصولا إلى وضع قد تحدثه تحولات داخلية وإقليمية، تخدم موقف الفصائل، وتُعلِي من رصيدهم العسكري، وبالأخص إن تحرك المجتمع الدولي بعد استخدام ميليشيات النظام الأسلحة الكيماوية في قمّة ” الكبانة”.
خلاصة
تمكنت فصائل الثورة في المعركة الجارية من التعامل مع التحولات الطارئة بقدر كبير من المرونة والانتقال من استراتيجية إلى أخرى، وأحيانا الجمع بين عدد من الاستراتيجيات لمواجهة روسيا التي تتفوق في القوى الجوية والوسائل ومختلف الإمكانيات. واستغلت الفصائل الكثير من الخطط الروسية، مما مكنهم من استنزاف الميليشيات وإنهاك القوى الجوية الروسية التي تجاوزت طلعاتها الألف منذ بدء المعركة، ولكن يتوقف تأثير استراتيجية الفصائل في مسار المعركة الجارية على مدى قدرتهم في التشبث بالأرض التي استعادوها، وتعزيز قدراتهم العسكرية بالقدر الذي يمنحهم الصمود أكثر، والمبادءة بالتوغل باتجاه المحاور الواصلة إلى السقيلبية، للحفاظ على مكتسباتهم العسكرية الأخيرة، ونقل المعارك إلى حاضنة النظام، ولعل هذه المعركة فرصة لتجاوز الفصائل كافة الخلافات فيما بينها، وفي أقرب وقت، للانتقال إلى معارك التحرير وإجبار روسيا على إعادة قراءة المشهد السوري بعيون سوريا التي ترفض الاحتلال والاستبداد.
المصدر: بلدي نيوز