• الثلاثاء , 26 نوفمبر 2024

نشأة الدولة السورية الحديثة وتحولاتها (5)

عبد الله تركماني

ويمكن الاستدلال بمؤشرات واقعية عديدة على ” عسكرة المجتمع “، فقد نقلت سلطة الأسد شباب الأرياف إلى المدن وحولتهم إلى ” جيش عقائدي “، وبدأت عملية ” ترييف ” للمدن بشكل مضطرد، وتجلى ذلك في نظام الحكم، وفي جهاز الدولة العسكري والمدني. واعتُبرت الشعبوية القاعدة الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية لنظام الحكم، وتجلى ذلك من خلال اتسام الخطاب الشعبوي بالديماغوجيا والذرائعية في آن واحد، وتسويقها في نكهة شعبوية خاصة تختلط فيها مصلحة الأمة مع مصلحة قائد الانقلاب، والحلقة الضيقة التي حوله.

وفي إطار إحكام النظام السياسي قبضته على مفاصل المجتمع والدولة، راح يتمترس وراء الأيديولوجيا، متبنياً قضايا كبرى ظاهرياً، متناسياً أنّ شرعية أي نظام سياسي تبدأ من قدرته على إطلاق قاطرة التنمية على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، وإيجاد مستوى مقبول من العدالة الاجتماعية والقضائية، وفتح المجال أمام حرية الرأي والتعبير والإعلام، لكن ما افتقده النظام السياسي في حقيقة الأمر هو تلك الشرعية الداخلية نفسها.ومنذ ذلك الحين ” بدأ هذا القطر – المفتاح الآخر في الشرق الأدنى، بقيادة رئيسه الجديد، دخول لعبة التحوّل الخفي من أجل تجديد اللقاء بالغرب، وبالتالي إيجاد حل سريع للصراع العربي – الإسرائيلي الذي جمّدته مقررات مؤتمر قمة الخرطوم عام 1967 (27).كما منعت أيديولوجية النظام وممارسته تشكُّل هوية وطنية سورية في حدود الدولة السورية، وذلك عبر الممارسات التالية (28):

• عدم تحوّل المواطنة السورية إلى أي كيان حقوقي من أي نوع.

• التعامل مع المواطنين عبر الهويات الجهوية والعشائرية، وحتى الطائفية من جهة، والتأكيد على الهوية العربية، بوصفها أيديولوجية دولة من جهة أخرى.وإذا عدنا إلى الدراسات التي تناولت الشباب السوري، قبل الثورة، نجد أنها قليلة جداً، وتفيدنا بحقيقة ضعف مدارك الشباب السوري السياسية، وضعف رغبته، وخبرته، في التعاطي مع مسائل الشأن العام بالمجمل، ويعود ذلك إلى أسباب عدة، تعود إلى تآكل روح السياسة في المجتمع؛ نتيجة احتقار السلطة المجتمع، وقمعها له. لقد مثّلت سلطة حافظ الأسد تراجعاً عن المكاسب العقلانية والتنويرية النسبية التي ورثتها سورية من مرحلة نهضتها الحديثة، فكان ضجيج الشعارات وضوضاء الإعلام الشعبوي إيذاناً بمرحلة جديدة في سورية، تميزت بهيمنة النظام الأمني – العسكري الريفي ذي الخطاب الانفعالي اللاعقلاني، حيث حسمت الشعبوية معركتها ضد الوعي المدني وتقاليده في تمثّل التعددية، والحوار، والانفتاح على الوعي الكوني الحديث.

وكان تسييس المؤسسة العسكرية بمثابة النار التي التهمت قوى المجتمع المدني والقيادات الفكرية والسياسية. حيث ألغيت السياسة، بآلياتها المعروفة، مما فرض على زعامات الأحزاب البحث عن آليات جديدة للسلطة، فوجدتها في البنى والروابط التقليدية المفوّتة ما قبل الوطنية (العشائرية، والطائفية، والجهوية…)، التي قدّمت نماذج صارخة لأنظمة حكم توتاليتارية. وفي هذا النمط قامت سلطة الدولة باستغلال مزدوج للمجتمع من حيث:

(أ) – كونها أكبر مستخدم وصاحب عمل، تحدد الأجور والأسعار وتقررها الاحتكارات الحكومية.

(ب) – وكونها وسيطاً بين أفراد مجتمعها والشركات المتعددة الجنسيات والسوق الرأسمالية العالمية.

(ج) – وكون موظفيها الكبار (المدعومين من الأجهزة الأمنية والحزبية) يملكون سيطرة حقيقية على وسائل الإنتاج، وبالتالي إمكانية الاستيلاء على فائض وقت العمل ” القيمة الزائدة “، بما يراكم – مع الزمن – رأسمالها الخاص. ومنذ أواخر السبعينيات تراكمت العديد من المؤشرات الخطيرة في تطور الاقتصاد السوري، من أهمها:

(1) – التدهور النسبي في القطاع الزراعي والارتفاع الكبير في نصيب الصناعات الاستخراجية وقطاع الخدمات.

(2) – تخلخل التوازن بين القطاعات والفئات الاجتماعية، وتوسّع الفجوة بين الأرياف والمدن.

(3) – انخفاض موقع الصناعة التحويلية في هيكل الإنتاج الوطني.

(4) – تركيز الاهتمام بالتنمية المادية وإغفال أهمية التنمية البشرية.

(5) – مهّد النفط لمفهوم الدولة الريعية، حيث تمكنت السلطة من أن ” ترشو ” قطاعات من المجتمع، بهدف توسيع قاعدة حكمها وسلطتها.

(6) – سوء استعمال السلطة في المراتب العليا.ولكن ” يجب ألا نحدد الأسباب الأكثر عمقاً لعدم الاستقرار الذي ألمَّ بالنظام السوري في الخلفية الطائفية للنخبة الحاكمة فقط، وإنما في مزيج من عوامل مختلفة مثل الفساد والصعوبات الاقتصادية والأساليب القمعية وغير الديمقراطية وغياب الانضباط الحزبي والممارسات الطائفية التي طفت إلى السطح، خاصة في الفترة التي تلت التدخل العسكري السوري في الحرب الأهلية اللبنانية “.

ونتيجة لذلك، ” أصبح من الممكن توجيه السخط الشعبي والتوترات الاجتماعية الاقتصادية وإثارتها عبر قنوات طائفية، مثلما بدا واضحاً في الاضطرابات المدنية العنيفة والدموية بطول البلاد وعرضها في ربيع 1980 “. لقد بدت الحملات الإعلامية للنظام التي تلت ذلك وحملة النظام لاستئصال الإخوان المسلمين ” فظة وحادة للغاية، حتى أنها أثارت عداوة الشق الأعظم من الشعب بدلاً من أن تثير تعاطفهم ” (29).

لقد كان عقد الثمانينات عقداً متفرّداً، بالنسبة إلى سورية، قياساً إلى الفترات السابقة. فقد أدت الحرب العراقية – الإيرانية ونتائجها إلى تضاؤل دور العراق والسعودية، بينما كانت مصر قد استُبعدت رسمياً من العالم العربي. ولم يكن طموح سورية في ممارسة هيمنة على ” سورية الكبرى ” ممكناً إلا بفضل ذلك السياق الخاص. وعلى الصعيد الاقتصادي، عانى الاقتصاد السوري من أزمة عميقة في منتصف عقد الثمانينيات، بسبب انخفاض المساعدة العربية لسورية، تحت حجة انخفاض سعر النفط وأعباء الحرب العراقية – الإيرانية المالية على البلدان العربية النفطية. وإزاء ذلك، خاصة على ضوء سياسة التسلّح المفرط على حساب الاستثمارات الاقتصادية الحيوية، تم تشجيع القطاع الاقتصادي الخاص، وبدأت بورجوازية جديدة بالظهور من أوساط ” بورجوازية الدولة ” التي ولّدتها التأميمات و” قطاع الدولة ” الاقتصادي، ومالت هذه البورجوازية الجديدة إلى إيجاد اقتصاد سوق يصب في مصلحتها، إذ بدلاً من طلب منافع مفترضة يقدمها الاقتصاد القائم على المنافسة تصرفت كعنصر طفيلي على الاقتصاد الحقيقي.لقد كان استيلاء الجيش والمؤسسات الأمنية على السلطة ذا نتائج مباشرة على بنى وأدوار الطبقات الاجتماعية المختلفة، حين استهدف تحويلها إلى ” طبقات أدواتية ” ذات طابع سياسي غالب، ترتبط بأجهزة الدولة الجديدة، وباقتصادها، وبنمط إنتاجها ذي الطابع السياسي الغالب لدوره، تبلورت سلطة الدولة بوصفها محصّلة سلطة الأجهزة من جهة، وحدث انتقال على مستوى القوى المكوّنة للدولة من جهة أخرى. لقد زادت سلطة الأجهزة، لأنّ الانتماء إلى هذا الجهاز أو ذاك كان يعني في الواقع الانتماء إلى هذه الشريحة الطبقية أو إلى هذه الطبقة أو تلك. كما أنّ الانتماء إلى الأجهزة المختلفة كان يعني الانتماء إلى احتمالات تقدّم وصعود شخصي مختلفة (30).

وليس سرًا أنّ إقامة الرأسمالية على مستوى الدولة دون المجتمع قد مرَّ بسيرورة توطيد متواصل لجهازها القائد، لمؤسستها العسكرية، التي أخذت على عاتقها – منذ البداية – مهمة القيام بدور الطبقة الرأسمالية الغائبة، وفعّلت أجهزتها في هذا الاتجاه، ورسملت دولة غدت دولتها وحدها بصورة متزايدة، وحملت صفاتها بصورة متعاظمة.

ذلك كان يعني مركزة الدولة وحصرها بها، وإمساكها المتعاظم بمركز القرار الحقيقي، وتعديل الشكل القانوني والدستوري للسلطة، كي يناسب حاجاتها في الإدارة والحكم، وتحويل نفسها إلى قناة يصعد عبرها الكادر الجديد في طبقة الدولة، تركّز بين يديها الموارد التي ستقوم بإعادة توزيعها على ضوء اعتباراتها السياسية الخاصة ونظرتها إلى آفاق التطور السياسي والاجتماعي لسورية. وكما حدث في أجهزة الإدارة المدنية انتقال باتجاه أجهزة الأمن، كذلك حصل في المؤسسة العسكرية انتقال مماثل جعلها روح الجيش وجهازه العصبي والقيادي الفعلي. لقد كان مردود هذه السياسات الجديدة، التدرجية، سلبياً بشكل عام. إذ إنّ سلطة الدولة لم تحقق أي هدف تنموي رئيسي، بل بدت سياساتها متاهات تجريبية في أحسن الأحوال، أو تخريباً مقصوداً في جسد ما أُنجز في مرحلة نهوض المشروع الوطني. كما أنّ هذه السياسات قد هيأت الظروف لبروز ظاهرة ” الإسلام السياسي ” في سورية، في الفترة من 1979 – 1982، إذ كان ممثلوه قد اعترضوا على صياغة الدستور السوري الجديد في العام 1973، بسبب عدم إشارته إلى أي انتماء ديني خاص لرئيس الدولة، كما اعتبر أنّ التدخل السوري في لبنان بمثابة ” التعبير عن إرادة الوصول إلى تحالف سياسي أقلياتي “، وقد تركت هذه الظاهرة آثارها على الحياة السياسية السورية.وكانت الأحداث التي شهدتها سورية في العام 1979 (هجوم إرهابي مسلح على مدرسة المدفعية بحلب ومقتل العديد من طلاب الضباط في تموز/يوليو 1979) نقطة انعطاف كبيرة في مسار الأزمة القائمة، وقد تجلى ذلك بالعديد من الظواهر:(أ) – استمرار مظاهر القمع والإرهاب، من خلال القمع الجماعي وزرع الرعب والإرهاب في بعض المدن.

فأي حادث عنف، ولو كان صغيراً، في مدينة أو منطقة، كفيل بمحاصرتها أو قسم منها، حيث يتحول المواطنون فجأة إلى رهائن في سجن كبير، مع كل الاحتمالات من إذلال مهين للكرامة الشخصية، حتى الاعتقال والتعذيب، بما في ذلك التصفية الجسدية الجماعية.

(ب) – استمرار عسكرة المجتمع، من خلال تنظيم وتدريب الفتيان والفتيات وتعبئتهم وشحنهم بروح الحقد والتمايز عن الشعب وضده، وترسيخ التمايز السياسي والطائفي والعشائري، فهو لم يتوانَ عن دفع العشائر بعضها ضد البعض في المنطقة الشمالية الشرقية (الجزيرة)، وتسهيل امتلاك السلاح واستعماله.كما تمت شرعنة الاستبداد من خلال ضبط الحركة السياسية في أطر معينة مرسومة مسبقاً، بما يوجه النشاط السياسي للأحزاب الأخرى في تيار موازٍ لتيار حزب النظام (الجبهة الوطنية التقدمية).

وضبط الحركة النقابية، العمالية والفلاحية والمهنية، بتقوية إشراف الأجهزة عليها، وإسباغ مظهر عسكري أمني على بنيتها العامة.

وإذا كانت عملية إلحاق المجتمع بالدولة وتطوير وسائل وأساليب تغييب وتزوير إرادة المواطنين والتمييز فيما بينهم أمام القانون، وإلغاء الحريات، قد تواترت وتضخمت باعتبارها مظهراً أيديولوجياً لصيقاً بالبرنامج العام للسلطة، فقد توازت معها في مراحل لاحقة عمليات القمع المنظم العاري الذي يكمل ثنائية آلة الدولة ويكشف جوهرها الأيديولوجي- القمعي الموضوعي. وإذا كانت عملية إلحاق المجتمع بالدولة وتطوير وسائل وأساليب تغييب وتزوير إرادة المواطنين والتمييز فيما بينهم أمام القانون، وإلغاء الحريات، قد تواترت وتضخمت باعتبارها مظهراً أيديولوجياً لصيقاً بالبرنامج العام للسلطة، فقد توازت معها في مراحل لاحقة عمليات القمع المنظم العاري الذي يكمل ثنائية آلة الدولة ويكشف جوهرها الأيديولوجي- القمعي الموضوعي. وكانت الأهداف التي ترمي إليها سياسات وممارسات السلطة (31):

(1) – وضع السلطة في كل حيّز من المجال الاجتماعي، وخلق نقاط إضافية تأخذ صفة نقاط الارتكاز التي تنتشر بآلية سرطانية إلى المهنة والعائلة والنقابة والسكن.

(2) – تنويع أنماط القهر ومدها في اتجاه عمودي لتأخذ شكل القاعدة التي يكرّسها القانون بالتضافر مع بدائل العنف ونظام السيطرة العامة.

(3) – إحداث نقلة إلزامية في فكرة الحزب، أو التنظيم الحزبي بصورة عامة، بحيث يعيد التنظيم إنتاج العلاقات السلطوية في صفوفه، وفي البنى القاعدية.

لقد دخل النظام طوره الفاشي منذ سنة 1979، حيث توّجَه في شباط/فبراير 1982 إلى تدمير مدينة حماة والفتك بأكثر من عشرين ألفاً من مواطنيها، وتشريد عشرات الآلاف منهم. وهكذا فقد برهنت أزمة الثمانينات على هشاشة المؤسسات التي أقامتها سلطة الدولة السورية، والتي كانت مصدر افتخار نظام الحكم في بداية السبعينيات. الهوامش(27) – باتريك سيل، الصراع على سورية …، المرجع السابق.(28) – مضر الدبس، دور البنية الاجتماعية …، المرجع السابق.(29) – د. نيقولاوس فان دام: الصراع على السلطة في سوريا..، المرجع السابق.

مقالات ذات صلة

USA