ياسر هلال
المدن:18/11/2020
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يسابق الوقت والحرب لوضع معاهدة لوزان وحق تركيا بتوسيع مياهها البحرية في البحر المتوسط وبحر إيجه، على طاولة المفاوضات. والتصعيد الخطير في لعبة “البوارج والحفارات” فوق مياه المتوسط، والذي استكمله في المطالبة بتقسيم جزيرة قبرص واعتماد “حل الدولتين”، هو “استدعاء” لكل من قبرص واليونان ومن ورائهما فرنسا، للتفاوض وليس للحرب. وينطبق ذلك على التصعيد المرجح في زيارته المرتقبة إلى ليبيا.ماذا تريد تركيا فعلاً؟من الخطأ بمكان بناء أي تحليل للصراع في شرق المتوسط، على مقولات تتعلق بأوهام أردوغان لاستعادة “أمجاد السلطنة”.
فالحقيقة أن تركيا تخوض حرباً شاملة لتحقيق هدف استراتيجي يشكل موضع إجماع وطني يتجاوز طموحات أردوغان وحزب العدالة والتنمية، وهو استعادة وضعها ليس الجغرافي بل التاريخي أيضاً، كدولة بحرية. وهو الوضع الذي حرمت منه لنحو قرن من الزمن، تمت خلاله محاصرتها في شريط ساحلي ضيق لا يتجاوز 2 كلم في كثير من المواقع. وتحقيق هذا الهدف ليس “نزهة سلطانية في منتجع فاروشا”، فهو يتطلب إعادة رسم خرائط الحدود البحرية (مياه إقليمية، منطقة اقتصادية خالصة، جرف قاري) في بحر إيجه وفي البحر الأبيض المتوسط. كما يتطلب تعديل معاهدات دولية وتحديداً معاهدتي لوزان 1923 وباريس 1947، وجزئياً، اتفاقية مونترو 1936 في ما يتعلق بالمضائق. وذلك ما عبر عنه بمنتهى الوضوح نائب الرئيس التركي فؤاد أقطاي تعليقاً على توقيع مذكرة التفاهم مع ليبيا بقوله “سنمزق الخرائط في شرق المتوسط، التي تحشرنا منذ 100 عام في البر، إننا نعيد كتابة التاريخ”.
الوطن الأرزق إذا المسألة ليست “سلطنة .. وعثمانيون جدد”.. بل هي كما يراها غالبية الأتراك استكمالاً لحرب الاستقلال التي خاضها اتاتورك واستعاد من خلالها أجزاء واسعة من “البر التركي”، ولكن موازين القوى حينذاك لم تكن تسمح باستعادة “البحر التركي”. وقد تحول هدف استعادة هذا البحر إلى الركيزة الرئيسية للسياسة البحرية الجديدة لتركيا، واحدى ركائز السياستين الخارجية والدفاعية، والتي يتم التعبير عنها حالياً بشعار “الوطن الأزرق” أو “الوطن المائي”.
وقد تبنى حزب العدالة والتنمية مفهوم “الوطن الأزرق” الذي ابتكره قوميون أتراك وتحديداً الأدميرال رمضان جيم غوردينيز في العام 2006. وتأكد هذا التبني في آذار/مارس 2019 عندما أجرى الأسطول التركي مناورات في شرق المتوسط تحت إسم “الوطن المائي”، كما تأكد في الخطاب الشهير للرئيس إردوغان في أيلول/سبتمبر 2019، الذي شرح فيه على خريطة كبيرة مفهوم “الوطن الأزرق” الذي يقضي بزيادة مساحة المياه البحرية التركية إلى حوالي 462 ألف كلم2 .سياسة خارجية صدامية ولكي نضع الأمور في سياقها السياسي والإستراتيجي، نشير إلى أن السياسية البحرية التركية المستجدة ليست “نزوة أردوغانية”، بل تجد جذورها في سياسة حزب العدالة والتنمية، كما في سياسة أحزاب المعارضة، ورموز الحركة القومية.
فقد أكد أحمد داود أوغلو مثلاً “على أهمية إظهار تركيا مكانتها كدولة بحرية لها مناطق نفوذ في البحر الأسود وشرق المتوسط وغيرهما”.كما أن هذه السياسة ترافقت أو تكاملت مع تغيير جذري في السياسة الخارجية. إذ تم التخلي عن سياسة ما يعرف باستهداف الآمان security seeking والتي كانت أقرب إلى الحياد أو تأتي في سياق السياسة العامة لحلف شمال الأطلسي. وهي السياسية التي كانت تستند إلى مبدأ اتاتورك الشهير “سلام في الوطن سلام في العالم” والذي استكمل حديثاً بمبدأ “صفر مشاكل مع دول الجوار”. وليتم استبدالها بما يعرف السياسة الاستباقية والتدخلية pro-action seeking، والتي يعتبر مريدو حزب العدالة والتنمية أنها تستند إلى ما يلطقون عليه “مبدأ أردوغان”. وهي تقوم على اعتماد مقاربة صدامية تستهدف إثبات الوجود وترسيخ الحضور السياسي والاقتصادي والعسكري في المحيط الإقليمي. وقد تجذرت هذه السياسة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في العام 2016.ولكن في مقابل تلك السياسة الصدامية والتوسع باستخدام “دبلوماسية الدبابات والبوارج وطائرات الدرونز”، فإن تركيا اعتمدت مقاربة واقعية تأخذ بالاعتبار احترام قواعد “اللعب مع الكبار” وما يفرضه هيكل النظام الدولي والإقليمي بتحالفاته المتغيرة والمتقلبة. فقد لاحظنا مثلاً كيف تراجعت بسرعة بعد إسقاطها الطائرة الروسية فوق سوريا، وكيف أوقفت هجوم قوات حكومة الوفاق الليبية على مشارف سرت لتجنب الصدام العسكري مع مصر. وكيف تحسب “بدقة الجوهرجي” خطواتها التصعيدية والصدامية في شرق المتوسط.ولذلك يرجح ان يسارع أردوغان إلى تهدئة اللعب، وطلب “وقت مستقطع” مع دخول جو بايدن البيت الأبيض، بانتظار تبلور موقف الإدارة الجديدة من صراع شرق المتوسط أولاً. وثانياً “لهضم” المكاسب الضخمة التي حققتها تركيا خلال العامين الماضيين، وكان آخرها في ناغورنو قرة باغ وقبلها في ليبيا، وبينهما فرض عمليات الاستكشاف والتنقيب في المياه القبرصية واليونانية كأمر واقع بحماية البحرية التركية، متجاوزة كل العقوبات والتهديدات اليونانية والمصرية والفرنسية.كما يرجح ان تستغل تركيا “الوقت المستقطع” عندما يحين وقته، لإعادة ترتيب تحالفاتها وتموضعها، استعداداً لجولة جديدة من حرب قانونية وسياسية وربما عسكرية، اذا تطلب الأمر لتحقيق أهداف سياستها البحرية الجديدة.أهداف السياسة البحرية الجديدة؟يمكن تلخيص أهداف هذه السياسة بثلاثة محاور رئيسية هي: استعادة المجموعات الثلاثة من جزر بحر إيجه القريبة من البر التركي وفرض إلتزام اليونان بعدم عسكرة بقية الجزر. ثانياً حل المسألة القبرصية، وثالثاً توقيع اتفاقيات وتفاهمات لترسيم الحدود البحرية وفقا للمنظور التركي مع مصر وليبيا، تمهيداً لتوقيع اتفاقيات مماثلة مع اليونان وقبرص اليونانية.
معضلة جزر بحر إيجهتمثل جزر بحر إيجه جوهر المشكلة بين اليونان وتركيا. وهي العقبة الأساسية أمام تحقيق أهداف السياسة البحرية الجديدة وحلم “الوطن الأزرق”. كما تعتبر المسألة الأكثر تعقيداً وخطورة في علاقة البلدين لسببين: الأول، الصراع حول السيادة على الجزر، إذ تسيطر اليونان على الجزء الأكبر من جزر البحر وعددها حوالي 3 ألاف جزيرة، إذ تبلغ حصة تركيا منها 60 جزيرة فقط. وخسرت تركيا الجزء الأكبر من هذه الجزر على مرحلتين: الأولى بعد الحرب العالمية الأولى التي شهدت نهاية الإمبراطورية العثمانية وتقاسم أراضيها بين المنتصرين، بموجب معاهدتي سيفر 1920 ولوزان 1923. والمرحلة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية بموجب معاهدة باريس 1947 بين الحلفاء ودول المحور، حيث قامت إيطاليا بتسليم جزر دوديكانيسيا الجنوبية التي كانت تحتلها إلى بريطانيا التي قامت بدورها بتسليمها إلى اليونان. علماً ان المادة 12 من معاهدة لوزان تنص على “أن أي جزيرة تقع على بعد أقل من 3 أميال من الأناضول تكون تابعة حكماً إلى تركيا ما لم يكن هناك قانون آخر بشأنها”. وذلك ما عناه الرئيس التركي بقوله “الصرخة من تلك الجزر نسمعها هنا”… هل تراه ينتظر صرخة “و… أردوغانه” ؟أما السبب الثاني فهو قيام اليونان واستناداً إلى قانون البحار، بترسيم حدودها البحرية انطلاقاً من تلك الجزر حتى المحاذية للبر التركي، ما حرم تركيا عملياً من امتلاك مياه بحرية. وتبعاً لذلك فقد باتت حصة اليونان من إجمالي مساحة بحر إيجه نحو 43.5 في المئة مقابل 7.5 في المئة لتركيا ونحو 49 في المئة كمياه دولية. والأخطر ان اليونان تسعى منذ سنوات طويلة إلى تطبيق قانون البحار بنسخته المعدلة في 1982، لكي تزيد المياه الإقليمية في بحر إيجه من 6 إلى 12 ميلا بحرياً، ما يرفع تلقائياً حصتها إلى 71 في المئة وحصة تركيا إلى 8.8 في المئة، ويقلص المياه الدولية إلى 20 في المئة. ما يعني تحويل بحر إيجه إلى بحيرة يونانية بكل موارده، بل بحقوق الملاحة الدولية فيه أيضاً. وفي “يوم من الأيام” اتصل وزير الخارجية التركي شكرو إليكداغ بنظيره الأميركي هنري كيسنغر ليبلغه “أن تركيا ستعتبر زيادة اليونان لمياهها الإقليمية بمثابة إعلان حرب، وأن البرلمان أصدر تفويضاً دائماً للحكومة باستخدام القوة العسكرية لمنع ذلك”… فتريثت اليونان.. ولا تزال متريثة.الجزيرة السحريةمن بين الجزر التي تصر تركيا على استعادتها، جزيرة كاستيلوريزو أو ميس بالتركية التي تبعد حوالي 3 كلم عن الساحل التركي وتبلغ مساحتها 10 كلم2، ويقطنها حوالي 400 شخص بشكل دائم. والمفارقة ان عودة هذه “الجزيرة السحرية” إلى السيادة التركية أو “عدم إعطائها أي تأثير” في ترسيم الحدود، يؤدي تلقائياً إلى زيادة مساحة المنطقة الاقتصادية التركية بحوالي 100 ألف كلم2 لتصل إلى 142 الف كلم2.وعليه، فإن أحد الأهداف المركزية للسياسة البحرية التركية هو استعادة السيطرة على مجموعات الجزر الثلاثة المحاذية للبر التركي، وبالحد الأدنى على مجموعة جزر دوديكانيسا الجنوبية التي تتضمن جزيرة كاستيلوريزو/ميس.
عسكرة الجزرولاستكمال صورة معضلة جزر إيجه، تجدر الإشارة إلى قضية متفجرة قد تشعل فتيل الحرب في أي لحظة، وهي قيام اليونان بعسكرة وتسليح 18 جزيرة من أصل 23 جزيرة تم وضعها تحت سيادتها بموجب معاهدتي لوزان وباريس. وذلك بالرغم من وجود نصوص واضحة في المعاهدتين تنص على أن تبقى هذه الجزر “منزوعة السلاح وحظر أي نشاط عسكري فيها وفي مياهها الإقليمية وفي مجالها الجوي”.. على أن يقتصر الوجود العسكري “على قطعات صغيرة من الأمن الداخلي لحفظ الأمن فقط”. وتشتكي تركيا من أن اليونان نشرت قوات عسكرية ضخمة في هذه الجزر تشمل قواعد جوية ومنصات صواريخ هجومية، وقواعد بحرية إضافة الى قوات برية ومدفعية بعيدة المدى. ولطالما شكلت هذه المسألة عنصر توتر ومناوشات بين البلدين، كان أخطرها صدام جزيرة إيميا/كارداك والتي تدخلت فيه الولايات المتحدة وحلف “الناتو” في اللحظة الأخيرة لمنع نشوب الحرب.ثانياً: المسألة القبرصيةنالت قبرص استقلالها في العام 1960 بموجب إتفاقية بين بريطانيا وتركيا واليونان تنظم طريقة الحكم ومشاركة الأقلية التركية فيه. ولكن هذه المشاركة ظلت موضع خلاف، حتى العام 1974 عندما جرت محاولة إنقلاب بدعم من اليونان، وقام الجيش التركي على إثرها بغزو قبرص، وليتم في العام 1983، إعلان قيام “جمهورية شمال قبرص التركية”، التي لم تعترف بها أي دولة باستثناء تركيا.وترتبط المسألة القبرصية بالسياسة البحرية التركية من جانبين؛ الأول أن اعتماد حل تقسيم الجزيرة وإقامة دولتين مستقلتين يعني تكريس حق جمهورية شمال قبرص بامتلاك مياه إقليمية ومنطقة اقتصادية خالصة، ستكون بطبيعة الحال تحت السيطرة التركية. والثاني عدم موافقة تركيا على حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص اليونانية، لكونها جزيرة تقع بين مصر وتركيا اللتين تمتلكان أطول السواحل، ما يجعل شرق المتوسط هو ولاية قضائية لكل منهما وليس لقبرص واليونان كما هو الوضع حالياً. ويتضح ذلك في ترسيم تركيا لمياهها البحرية، الذي يقتطع أجزاء كبيرة من المياه البحرية القبرصية لصالح تركيا ومصر وجمهورية شمال قبرص.ثالثاً: اتفاقيات الترسيميتطلب ترسيم الحدود وتغيير المعاهدات إضافة الى القوة العسكرية المدعومة بتحالفات وتوازنات دقيقة، توافر عاملين لا يقلان أهمية هما؛ السند القانوني في إطار قانون الأمم المتحدة للبحار، وهو على أي حال قانون مطاط و”حمال أوجه” خاصة في النصوص المتعلقة بالتعامل مع الجزر، ما يجعل السند القانوني متوافراً لتركيا. والعامل الثاني وجود اتفاقيات مع الدول المجاورة. وهذه نقطة ضعف تركيا، حيث سعت منذ سنوات طويلة لتوقيع اتفاقيات لترسيم الحدود مع مصر خلال عهد حسني مبارك ومع ليبيا خلال حكم القذافي، دون نتيجة بسبب الضغوط الأوربية على البلدين.ولكن تمكنت تركيا من تحقيق اختراق تاريخي في هذا المجال، تمثل بتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الليبية في نوفمبر 2019. وتكمن أهمية الاتفاقية في أن ترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري لكلا البلدين استند على عدم “إعطاء أي تأثير لجزيرة كاستيلوريزو/ميس”، وكذلك على “عدم إعطاء تأثير كامل” لجزيرة كريت، ما يجعل مدن مريس وفتحية وكاس التركية متقابلة مع مدن درنة وطبرق وبردية الليبية، ويسمح بالتالي بترسيم الجرف القاري بينهما وفق مبدأ خط الوسط.ومع أن هذه الاتفاقية لم تعترف بها اليونان ومصر وقبرص، ولاقت معارضة شديدة من الاتحاد الأوروبي، لكنها باتت وثيقة دولية لأنها موقعة بين حكومتين شرعيتين، وتم إيداعها لدى الأمم المتحدة. وتشكل هذه الاتفاقية أمراً واقعاً قانونياً وسياسياً بالنسبة لليبيا ولن يكون سهلاً على حكومة نقضها لأنها تضيف إلى المنطقة الاقتصادية الليبية حوالي 39 ألف كلم2، مقارنة بالترسيم المعتمد من قبل اليونان. وهذا الأمر ينطبق أيضاً على مصر إذ يضيف الترسيم التركي للمنطقة المصرية بين 15 إلى 20 ألف كلم2. وهو ما يفسر تردد مصر الطويل في توقيع اتفاقية الترسيم مع اليونان، والذي أقدمت عليه مؤخراً “لحشر” تركيا وإضعاف موقفها القانوني.الاختراق الثاني ولكن الأقل أهمية تمثل بتوقيع اتفاقية مع جمهورية قبرص التركية في العام 2011 لترسيم المنقطة الاقتصادية الخالصة لكل منهما.
والحقت باتفاقية للتنقيب عن النفط والغاز وتقاسم الإنتاج مع شركة البترول التركية. وحرص الرئيس أردوغان على توقيع الاتفاقية بنفسه مع رئيس جمهورية شمال قبرص التركية على هامش إجتماعات الأمم المتحدة لإضفاء طابع قانوني دولي عليها. وهذه الاتفاقية ستحدث تغييراً جذرياً في ترسيم الحدود البحرية لقبرص اليونانية، بل في مسار السياسة البحرية التركية في حال تم اعتماد حل الدولتين في قبرص.أتاتورك تمكن من استعادة “البر التركي” بحرب طاحنة لمدة ثلاث سنوات، فهل يتمكن أردوغان من استعادة “البحر التركي” بمجرد التهديد بالحرب والرقص على حافة الهاوية؟