سمير صالحة
العربي الجديد:19/11/2020
نجحت أذربيجان في استرداد جزء كبير من أراضيها التي تحتلها القوات الأرمينية منذ ثلاثة عقود، حيث عجزت القرارات الأممية وترويكا “مينسك”، الأميركية والروسية والفرنسية، في إعادة هذه الأراضي إليها، تحت ذريعة تثبيت الوضع القائم وإبقاء الأمور كما هي عليه، لتجنب انهيار أحجار الدومينو في القوقاز، والقائمة على توازنات إقليمية ودولية حساسة.
وفي المقابل، تلتقي تحليلات وتقديرات موقف كثيرة عند نقطة أن روسيا هي المحرّك الأول لكل ما يجري، والمستفيد الأكبر من كل التطورات العسكرية والميدانية والسياسية لاحقا، بعد فرض نفسها على التفاهمات التي تمت، أخيرا، بين باكو ويريفان، وعلى مرأى أنقرة ومسمعها، والتي ما زالت تحاول جاهدة الجلوس أمام طاولة حماية حصتها خلال تقاسم قطعة الجبن في المرحلة المقبلة.
ترك الكرملين أذربيجان تتحرّك عسكريا بالتنسيق مع تركيا، لتوجيه رسالة مباشرة إلى حكومة باشينيان التي خرجت عن بيت الطاعة الروسي، وبدأت تستقوي بعلاقتها مع الغرب، لكنه تدخل سريعا لوقف المعارك، عندما شعر أن الأمور وصلت إلى نقطة اللاعودة، بعد الدخول السريع للقوات الأذربيجانية إلى مدينة شوشا، والاستعداد للحسم العسكري، عبر توجيه ضربةٍ قاضيةٍ للجيش الأرميني لا تخرجه من أراضيها فقط، بل تمنعه من استرداد أنفاسه سنوات طويلة.حصلت موسكو على كل ما تريده: نجحت في تلقين أرمينيا الدرس الذي لا مهرب منه، وكان باتجاهين، أرميني وغربي يعني الدياسبورا (الشتات) أيضا.
وكسبت باكو إلى جانبها مرة أخرى، بتجاهل عملياتها العسكرية الهادفة إلى قلب توازنات ملف ناغورنو كاراباخ، ودخلت في صفقةٍ إقليميةٍ جديدةٍ مع أنقرة في ملفات جنوب القوقاز، وتقاسم النفوذ في مشاريع استراتيجية متعدّدة الجوانب والأهداف، ستكون مربحةً ومغريةً للطرفين، وقد تتحوّل إلى فرصة تأسيس علاقات استراتيجية أوسع في قضايا أخرى، إذا ما واصلت تركيا، وبعد وصول جو بايدن إلى السلطة، تحدّيها واشنطن في ملفات توتر ثنائية وإقليمية، تعني موسكو مباشرة.
فصل بوتين بين دوره راعيا وحيدا لكل السيناريوهات المرتبطة بحوار روسي أرميني أذربيجاني والوجود التركي في منصةٍ أخرى تجمع الروس والأتراك فقط. هو يفاوض الرئيس التركي، أردوغان، على دور تركي في الملف، مثل موضوع الممر البرّي الذي يصل الأناضول بأذربيجان وآسيا الوسطى عبر إقليم نهجوان، لكنه ربط المسألة بممرّ جديد، يبقي خطوط الاتصال والإمداد بين أرمينيا وكاراباخ، ويحل مكان ممر لاشين الذي ستسترده أذربيجان.
اختارت موسكو الطريق الثاني، وهو أن تعطي باكو وأنقرة ما تريدان في ناغورنو كراباخ باتجاه سحب القوات الأرمينية المحتلة من الإقليم، وإنهاء حالة اللاحرب واللاسلم، وإشراك تركيا في اللعبة، مقابل وقف القتال بضمانات وإشراف روسي على الملف، وعدم تدويل الأزمة.
اتفاقية الدفاع المشترك بين روسيا وأرمينيا سيواكبها حتما اتفاقية لا تقل وزنا وأهمية بين أنقرة وباكو، وهو أقل ما يمكن أن تقدمه أذربيجان لتركيا كجائزة ترضية على خدماتها ودعمها العسكري لها في استرداد أراضيها. قد يكون بين أهداف قبول باكو مثلا الوجود العسكري الروسي داخل الأراضي الأذربيجانية تسهيل دخول القوات التركية لموازنة العلاقات بين موسكو وأنقرة.
تناور تركيا في الحديقة الخلفية لروسيا وموسكو تتابع ذلك عن قرب. تريد روسيا أن تضع يدها على الانتصارات التي حققتها باكو في ناغورنو كاراباخ وباكو تريد الاستقواء بالدور التركي لموازنة الاحتمالات والمتغيرات.
يبدو أن سيناريو دخول موسكو في مساومة مع باريس وواشنطن، شريكي الترويكا في “مينسك” تراجع لصالح التنسيق التركي الروسي الأوسع في المنطقة. أسقط التفاهم التركي الروسي سيناريوهات الحل الأوروبية التي كانت تدعو إلى اعتراف الأطراف الثلاثة، أرمينيا وأذربيجان وإقليم ناغورنو كاراباخ، بوحدة أراضي أذربيجان، مقروناً بنظام حكم ذاتي للإقليم، لكنه قد يستعير الطرح الأميركي القائم على فكرة اعتراف أذربيجان بخصوصية الإقليم والتعامل معه على أنه كيان له ذاتيته، مقابل تنازل أرمينيا عن قطعة من أرضها تضم إلى أذربيجان، وتربطها بإقليم ناهشيفان الأذري المتصل جغرافيا بالحدود التركية.اختارت روسيا، وكما يظهر، تركيا لتشاركها القرارات والغنائم في ملفات استراتيجية على خط القوقاز والبلقان وآسيا الوسطى التي تستعد للقدوم الصيني خلال سنوات.
ورقة إغراء لا يمكن تركيا مقاومة جاذبيتها. روسيا وتركيا هما الفائزان في كل هذا الحراك، حيث سيذهبان وراء تثبيت علاقاتهما وترسيخها في ملفي سورية وليبيا، إلى جانب القوقاز، ونقل هذا التنسيق إلى مناطق وملفات أخرى، حيث الأزمات في جورجيا وأوكرانيا والبوسنة.
يقول باشينيان إنه لو لم يستسلم في موسكو لكان عشرون ألف جندي أرميني تحت الحصار اليوم. ولكن هزيمة القوات الأرمينية عسكريا على الأرض لا تعني هزيمتها سياسيا، طالما أن روسيا لم تعلن ذلك، وهي لن تفعله لإبقاء الورقة الأرمينية بيدها تلعبها مع أكثر من طرف ولأكثر من سبب. ما هزم باشينيان في أذربيجان تجاهله فرص السلام العديدة في الإقليم، ورهانه على التوازنات الدولية التي خيبت آماله، والدياسبورا الأرمنية في العالم التي ساومت لحماية مصالحها ونفوذها على حسابه، وتمرّده على الدعم الروسي لبلاده لصالح فرنسا وأميركا، وسقوطه في مصيدة قدرات قواته العسكرية لاستفزاز أذربيجان ومحاولة توسيع رقعة التمدد داخل أراض يحتلها.
الخطوة المرتقبة الآن هي تغييرات سياسية حزبية عاجلة في أرمينيا بين مزيد من التطرف والتشدّد لصالح المشروع الغربي أو الليونة الكاملة لصالح ما تريده موسكو. وفي كلا الحالتين، ستكون يريفان الخاسر الأول. قوات تركية إلى أذربيجان بطلب من باكو، وبتوافق تركي روسي على إدارة ملفات إقليمية مشتركة أبعد من ناغورنو كاراباخ، أليس ذلك موجعا لباشنيان وحلفائه في أكثر من مكان؟إذا لم تحصل أنقرة على ما تريده في شرق المتوسط من خلال علاقاتها بأوروبا والولايات المتحدة فهي ستبحث عن تأمين ذلك في مكان آخر. الاحتمال الأقرب هو التفاهمات التركية الروسية الإقليمية. موسكو جاهزة لتقديم خدمات أكبر مثل التوسط بين أنقرة وتل أبيب في ملف شرق المتوسط، وترسيم الحدود البحرية بين الطرفين، بحكم المصالح التركية الإسرائيلية المشتركة. لا يمكن لإسرائيل التفريط بحوالي 40% من احتياجاتها للطاقة من الخط الأذري الذي يعبر جورجيا باتجاه الأراضي التركية.
احتمال يترسخ يوما بعد آخر، أن تكون موسكو قد أقنعت أنقرة بقدرتها على حسم ملف الأزمة السورية، وتسهيل المصالحة التركية الأرمينية والتركية الإسرائيلية، ورفع مستوى التنسيق التركي الصيني في القوقاز، وتقاسم كثير من النفوذ معها في القوقاز، وأن يكون الثمن المقابل هو رفع مستوى مسار العلاقات التركية الروسية من الشراكة إلى التحالف. تخترق تركيا التوازنات القائمة في آسيا الوسطى والبلقان، هي حتما هدية روسية مفخخة للرئيس الأميركي المنتخب، بايدن، الذي يقول إنه يستعد لمحاسبة تركيا على سياساتها الإقليمية.