في عام 2001 كنتُ أحد الفائزين بعضوية مجلس فرع نقابة المحامين بالحسكة عن فئة المستقلين، وأصبح للفرع رئيس جديد خلفًا للمحامي حمودة صباغ (رئيس مجلس الشعب الحالي في سورية) الذي أكمل معنا دورته الثانية كعضو في مجلس الفرع؛ لأن خلفه نال العدد الأكبر من الأصوات، وتبوأ الرئاسة تبعًا لذلك بعد معركة ضارية تضاربت فيها الوساطات.
استلمنا العمل، وفوجئنا بأن عدد صور أفراد العائلة المالكة، في غرفة رئيس الفرع بالقصر العدلي بالحسكة، يبلغ 64 صورة مختلفة الأحجام، فضلًا عن التماثيل الصغيرة أو مجسمات الرؤوس التي كانت تنضح قبحًا فنيًا، كل هذا العدد كان يلوث البصر، مع أن الغرفة لا تتعدى مساحتها 24 مترًا مربعًا، حسب تقديري.
لم يكن هناك أحد مستعد لاتخاذ القرار بتنظيف الغرفة، من تلك الصور التي حولتها إلى ما يشبه جدران المجانين، فالتقارير التي كانت ستصل إلى الجهات المختصة ستتكفل بقص الرقاب، ولا يخفى أن من بين المحامين مَن تمرّس الكتابة للفروع الأمنية، وبات أقرب إلى مندوب رسمي للمخابرات في القصر العدلي.
مع ذلك، تناقشت، بشكل خفي، مع عدد من الزملاء، وأكدنا بدافع الحماس الذي كان يحركنا، كقادمين جدد إلى مضمار العمل النقابي، أن هذا المنظر لا يليق بنا، ولا بد من فعل شيء إزاء التركة القبيحة التي استلمناها. فكان المخرج أن نعيد طلاء الغرفة لنتخلص من هذا الكم الخيالي من الصور.
بعد انتهاء عملية التنظيف، كان لا بد من إيجاد طريقة تجعلنا ننجح في مسعانا؛ إذ كنا ندرك سلفًا أن الأعين تراقب، والأقلام جاهزة، وثمة من يتربص.
فعّل رئيسنا الجديد علاقاته التي مكنته بداية من تجاوز معركة المنصب بنجاح، ولعب على وتر انتمائه البعثي وضرورة عودته في كل شيء لقيادته الحزبية، فأرسل كتابًا رسميًا يطلب فيه منها توجيهه بخصوص “تزيين” مقر الفرع.
في ذلك الوقت، كانت شعارات “التطوير والتحديث” رائجة، وكانت ماكنة بشار الأسد تلمع صورته بعد استلامه الحكم في سورية خلفًا لوالده، عبر سلسلة من “الإصلاحات” التي تريد أن تقدم الرئيس على أنه مختلف ولا يحب التفخيم، فغابت تلك الاحتفالات المكلفة بالمناسبات الوطنية والقومية، مدة من الزمن، بعد أن كانت مرتعًا خصبًا للمنافقين، وستارًا لعمليات فساد مبطن في عهد حافظ الأسد، ومن ضمن هذه “الإصلاحات”، صدور توجيه من القيادة القطرية لحزب البعث يتضمن قواعد وضع صور “القيادة” في المقار الرسمية، وبموجب التوجيه “الذي لم يطبق إلا نادرًا” كان يفترض بكل دائرة رسمية أو نقابية أن تضع صورة واحدة للرئيس وأخرى لوالده الذي ورثّه الحكم.
استند رئيس فرع نقابتنا الجديد إلى تلك المراسلة الرسمية المتبادلة بينه وبين فرع حزب البعث بالمحافظة، ليطبق ذلك التعميم، وهكذا مضى استحقاقنا الأول بسلام.
في شهر أيلول من عام 2009، أنهيت دورتي الثانية كعضو لمجلس الفرع، وكان الغريب حينذاك أن عدد الصور في الغرفة ذاتها قد بلغ مجددًا رقمًا قريبًا من الرقم الذي ظننا أننا فعلنا شيئًا مهمًا لتقليصه.
كان بعض المنافقين، والعديد من الوفود المهنئة والزائرة، يأتون، ومعهم هدية رمزية لنقابة المحامين -فرسان الحق والعدل- وضمن موجة النفاق المستمرة والمعتادة كانت هذه الهدية صورة لفرد من أفراد العائلة المالكة؛ وهكذا كانت توضع الصور، ولا رجل من بيننا يستطيع إزالتها فيما بعد.
ثمة قصص ووقائع أخرى كثيرة، حصلت في مختلف مناطق سورية، بل في قراها أيضًا، تؤكد أن الصورة كانت واحدة من أهم الآليات التي لجأ إليها نظام الاستبداد في سورية، ليكرّس من خلالها قدسية القائد الفرد، كما كانت إحدى أهم الوسائل التي يستخدمها المنافق ليظهر ولاءه، أو ليثبت “وطنيته”، أو ليصفي حساباته مع الآخرين، عبر اتهامهم بأنهم لا يحترمون صور الرموز.
على الرغم من أن الثورة السورية لم تتمكن حتى الآن من إحداث التغيير الذي كنا ننشده في سورية، فإنها جعلتنا نرى اليوم الذي تُمزق فيه صور المستبدين، وتُحطم تماثيلهم، لتدوس عليها أقدام المقهورين، كمقدمة لتحطيم أغلفة التقديس الوهمي التي أحيطت “بالقيادة الحكيمة”.
منقول عن موقع جيرون