سوريا المستقبل//د.محمود الحمزة
1- أفكار ألكسندر دوغين مصدر الهام سياسة بوتين:
لكي نفهم التحولات التي أثرت في الموقف الروسي وتطوره وتفاعله مع السياسات الدولية نستعرض أفكار ألكسندر دوغين الذي يعتبر من منظري الكريملين وملهمي الرئيس بوتين، الذي يقوم بتجسيد أفكار دوغين في السياسة الخارجية الروسية.
النظرية السياسية الرابعة: يرى دوغين أن النظريات الليبرالية (في الغرب) والشيوعية (في الدول الاشتراكية) والفاشية (الألمانية والإيطالية) فشلت وبقي أن تقود روسيا تشكيل تحالف جيوسياسي أوراسي في ظل تعددية قطبية، وأن يتشكل تحالف بين روسيا والصين وإيران ودول آسيا الوسطى والدول العربية والإسلامية وتركيا يسميه التحالف البري ضد التحالف البحري بقيادة أمريكا.
ويدعو دوغين إلى:
فرض المصالح الروسية بالقوة (واتخاذ خطوات استباقية في جورجيا وأوكرانيا وهذا الذي حصل).إقامة إمبراطورية أوراسية لضمان مكانة لائقة لروسيا في العالم المعاصر.أن يكون للشعب الروسي الأورثوذوكسي اليد العليا في التحالف الجيوسياسي الأوراسي.
ودوغين يعادي الليبرالية الديمقراطية الغربية بشكل كبير.
ويعتبر أن تمسك روسيا بالأسد هو جزء من نظرية الجيوبوليتيك الأوراسي وتخلي بوتين عن الأسد يعني الانتحار السياسي لروسيا ووفاة العالم متعدد الأقطاب.
2- ملامح السياسة الخارجية الروسية في عهد بوتين:
اراد بوتين في فترة رئاسته الأولى (2000-2004) الانتساب إلى النظام الأوروبي والغربي فلم يقبلوه فأصبح يعادي الغرب واتجه نحو الشرق، واتبع سياسة براغماتية تقوم على المصلحة وليس على الأيديولوجيا كما كان الحال في العهد السوفييتي الشيوعي.
وفي مؤتمر الأمن الأوروبي في ميونيخ عام 2007 طالب بوتين بإعادة بناء النظام العالمي وأن روسيا من حقها الدفاع عن وجودها ومصالحها القومية باستخدام جميع الوسائل (بما فيها النووي). وهذا كان من أهم أهداف التدخل الروسي في سوريا وأوكرانيا لإيجاد مكان يجلس عليه في طاولة اللاعبين الكبار. وحتى اليوم لم يحل هذه المعادلة.
كما عبر بويتن عن طموحه في التوسع واستعادة “روسيا التاريخية العظمى” والدفاع عن الروس أينما كانوا وفق نظرية “العالم الروسي”، التي تبرر التدخل في أي مكان يعيش فيه روس بحجة الدفاع عنهم.
ومن التوجهات السياسية الروسية التعامل مع دول الجوار من منطلق الهيمنة الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية، والتي أدت إلى نتائج سلبية في أوكرانيا وآسيا الوسطى، ويكفي أن نذكر الكلمة التي ألقاها منذ أيام رئيس جمهورية طاجكستان رحمون إمام موجهاً كلامه للرئيس بوتين أمام عدسات الكاميرات قائلاً نحن نحترمكم ونراعي مصالحكم ونطلب منكم أن تحترمونا.
من أهم سمات السياسة الخارجية لروسيا التعاون والصداقة مع الأنظمة الشمولية في العالم ومحاربة الثورات والديمقراطية معتبرتها مشاريع غربية يراد منها تغيير الأنظمة ونشر العولمة ومحو الثقافات.
3- العوامل والأحداث التي أثرت في بلورة السياسة الخارجية الروسية:
انهيار الاتحاد السوفيتي 1991 والتدخل العسكري الغربي في يوغسلافيا وأفغانستان والعراق وليبيا.
الحركات الإسلامية الجهادية (حروب الشيشان والدعم العربي للمقاتلين الجهاديين في القوقاز والمد الإسلامي في آسيا الوسطى).
لن ينسى الروس الاحتلال الأمريكي للعراق تحت شعار نشر الديمقراطية في العالم، ويقولون انظروا إلى أين وصل العراق بعد 20 سنة من النهب والفساد والتدمير.بعد ما جرى في العراق وليبيا بشكل خاص، ترفض روسيا تغيير الأنظمة سواء بالقوة من الخارج أو بالثورات من الداخل (طبعاً لا تجد حرجاً من دعم الأنظمة الشمولية معادية لإرادة الشعوب).
أكثر ما تخشاه روسيا هو الثورات الملونة التي حدثت في دول الجوار واتهمت أن الغرب وراء تنظيمها وأنها تشكل تهديداً للأمن القومي الروسي (في جورجيا (2003) وفي أوكرانيا (2004) وفي قيرغيزيا (2005) ومحاولة في أوزبكستان (2005) وفي بيلاروس (2006) وفي أرمينيا (2008) واحتجاجات في صربيا (2005) وإضرابات في مولدافيا (2009).
ويعكس تصريح لافروف (2012) جوهر الموقف الروسي، حيث قال: إن الربيع العربي هو ثمرة البذور التي زرعها جورج بوش الابن بإطلاقه لمشروع الشرق الأوسط الكبير ودمقرطة المنطقة بكاملها.وأخيراً هناك نظرة محافظة وقومية ومسحة أرثوذكسية في الموقف الروسي، لذلك تتمسك موسكو بنظام كنظام الأسد يتاجر بالأقليات وبالورقة الطائفية ويدعي بحمايتها من الأغلبية المسلمة (حاضنة الإرهاب!). ومن هنا نفهم التغيير الديموغرافي الحاصل في سوريا نتيجة القصف الجوي الروسي والأسدي.
4- تطور الموقف الروسي من الوضع في سوريا:
قبل 2011 كانت العلاقات بين روسيا وسورية عادية فحجم التبادل التجاري كان أقل من مليار دولار.
وشهدنا كيف أن الكثير من الخبراء الروس وحتى بعض كبار المستشرقين في البداية أعلنوا تضامنهم مع الثورات العربية، مثل المستشرق ورئيس الوزراء الروسي الأسبق يفغيني بريماكوف، لكنه استثنى لاحقاً سوريا، معتبراً أن ما يجري فيها حرب أهلية وليس ثورة.
وقفت روسيا في 2011 وفي 2012 مع النظام ولكن ليس بصلابة. ومع استخدام الكيماوي ضد أهل الغوطة في أغسطس 2013 أصبح الروس ينتظرون سقوط الأسد بين ليلة وضحاها.
ولكن الأمريكان أنقذوا الأسد بمسرحية نزع السلاح الكيماوي بضمانة روسية مزيفة.يكرر الروس الحديث عما فعلته أمريكا في أفغانستان والعراق ولاحقاً في ليبيا كبرهان على صحة موقفهم بعدم السماح بسقوط الحكام بالقوة من الخارج.
يقول المحلل الروسي المعروف لوكيانوف أن الموقف الروسي في 2012 كان مرفوضاً عالمياً في دعم الأسد، ثم بدأ العد التنازلي حتى أصبح العالم الغربي يتقبل التدخل العسكري الروسي.
وبتقديري أن الموقف الغربي والعربي لم يتغير لقناعته بعدالة الموقف الروسي بل نتيجة أجندات جيوسياسية للدول الكبرى الفاعلة والتي تفرض أجنداتها على الآخرين وكون بقاء نظام الأسد قدم خدمات لهم ودافع عن حدود إسرائيل 40 سنة وقام بقمع الشعب السوري ومنعه من تحقيق تقدم ونهضة لا تقبلها إسرائيل والغرب. والدليل هو ما فعلوه بالعراق بعد أن حقق تقدماً تكنولوجياً وعسكرياً ملحوظاً (مع عدم التغاضي عن أخطاء صدام حسين).
التناقض في المواقف الروسية من ليبيا ومن سوريا يدل على غياب الاستراتيجية السياسية لروسيا في الشرق الأوسط.
– تأثير قوى السيطرة على الربيع العربي:من أهم أهداف التدخل العسكري الروسي في الخارج هو تحقيق أهداف جيوسياسية وعسكرية واقتصادية ودعم الأنظمة الشمولية وقمع الانتفاضات والثورات الشعبية ومنع انتشار الديمقراطية (سوريا – أوكرانيا…).
وهنا يجب أن نشير إلى أن الغرب أيضاً يعرقل بناء الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي ونرى كيف الأنظمة الغربية التي تنادي بقيم الحرية والمساواة والمواطنة والديمقراطية تتعاون بكل أريحية مع الأنظمة الشمولية التي تقمع شعوبها وتستبد بها. وفي المحصلة فإن الأمر يتعلق بالمصالح والأيديولوجيا.
وكما قال فوكوياما في مقالة له مؤخراً: الغزو الروسي يشكل ديكتاتورية حقيقية تحاول سحق مجتمع حر بالصواريخ والدبابات وقد يذكّر الجيل الحالي بما هو على المحك.
واستخدم الروس أدوات عسكرية مثل القوات الجوية – مرتزقة فاغنر – تشكيل ميليشيات محلية تخدم أهدافها – تشكيل فصائل من المرتزقة المحليين والتحالف مع ميليشيات طائفية عابرة للحدود.
واستخدمت روسيا الدبلوماسية الناعمة وخاصة الفيتو في مجلس الأمن للدفاع عن الأنظمة الشمولية في جميع المحافل الدولية والتشدق بمقول “شرعية النظام”، علماً أن الأنظمة الوطنية العربية فقدت شرعيتها منذ أن تجاوزت مرحلة التحرر الوطني والاستقلال حيث تحولت إلى أنظمة استبدادية فاسدة.
وسخرت موسكو كل رصيدها الإعلامي لخدمة الأنظمة التي دافعت عنها وحاولت تبييض صفحتها زوراً وبهتاناً وكذلك دافعت عنها في الفعاليات الدولية كافة، واستخدمت أعوانها في كل مكان للترويج للأنظمة الشمولية وتشويه صورة الثورات وأهدافها.
كما استخدمت موسكو الورقة الطائفية (بزعم الخوف على الأقليات) بالتعاون مع النظام ورجال الدين المنافقين من مسيحيين ومسلمين لتلميع صورة النظام المجرم وتشويه صورة قوى الثورة والمعارضة متهمين إياها بانها إسلامية متطرفة وجهادية وإرهابية.
واستغلت موسكو موضوع المساعدات الإنسانية وحاولت إدخالها عن طريق النظام السوري، الذي كان شبيحته يبيعونها ويحرمون منها المحتاجين وتواطأت معهم ممثليات الأمم المتحدة في دمشق.
ويبرر خبير روسي معاداة روسيا للديمقراطية بقوله: إن الديمقراطية هي التربة الخصبة لانتشار الإسلاميين وفوزهم في الانتخابات نظراً لكون أغلبية الشعب مسلمة فقيرة وغير مثقفة، ويعتبر أن الديمقراطية في الدول الإسلامية أمر مستحيل، وأن استخدام العنف من قبل المحتجين والثوار أدى إلى إعطاء صورة مغايرة لطبيعة الثورة وأهدافها في الحرية والمساواة والديمقراطية.
وبرأيي فإن الإسلام في روسيا قنبلة موقوتة، لأن أسباب التمييز واللامساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تجاه المسلمين موجودة، وأغلبية الشباب المسلم تشعر بهذا الوضع، وهو جاهز للتمرد من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية (آخر حادثة قام شابان مسلمان من أصول طاجكستانية سحبا إلى الخدمة العسكرية في أوكرانيا بعقود كمرتزقة قاما بقتل 10 جنود روس أرثوذكس وجرح العشرات بسبب شجار ذو بعد ديني).
6- أسلحة جيوسياسية روسية:
سلاح النفط والغاز:تمتلك روسيا 12% من احتياطي النفط بالعالم و32% من احتياطي الغاز الطبيعي.
وتشكل عائدات النفط الروسي نصف ميزانية الدولة، وثلث واردات الغاز الروسي كانت تذهب الى أوروبا قبل الحرب الروسية على أوكرانيا.
ويعتبر ملف الطاقة من أخطر أسباب الصراعات الدولية. وكانت منطقة الخليج الغنية بالنفط دائما منطقة مصالح قومية لأمريكا.
لذلك نشهد وضعا قلقاً وغير مستقر لدول الخليج بسبب العلاقات الاستراتيجية مع الغرب والارتباط الاقتصادي والعسكري بالدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، واليوم تحاول بعض الدول الخليجية اتخاذ سياسة مستقلة عن الغرب وفقاً لمصالحها الوطنية مثل التعاون السعودي والإماراتي مع روسيا في مجال تخفيض إنتاج النفط، الذي استفز الولايات المتحدة وتوعدت برد قوي على المملكة العربية السعودية.
ولطالما استخدمت روسيا الطاقة كسلاح سياسي للضغط على الدول الأخرى وظهر ذلك بقوة في العلاقة مع بيلاروسيا وأوكرانيا ومؤخراً مع الدول الأوروبية.
كما أن روسيا استفادت من الحصار والعقوبات على إيران فقامت باستيراد النفط الإيراني بأسعار مرخصة وبيعها الغذاء، والآن في ظل الحصار على الدولتين اتفق البلدان على تبادل النفط الروسي بالغاز الإيراني.
وكذلك تقوم أوروبا وأمريكا باستخدام سلاح النفط والغاز كوسيلة ضغط وعقوبة على روسيا بإيقاف استيراد النفط والغاز الروسي.
وقد يكون الغاز المكتشف في البحر المتوسط أحد اهم أسباب الصراعات الدولية والإقليمية حول سورية ويبدو أن التفاهمات هناك لم تكتمل بعد.
تصدير تكنولوجيا الطاقة النووية الروسية:تقيم شركة روس أتوم الروسية الحكومية في مصر إيران والسعودية وتركيا ومع الأردن والإمارات محطات كهرونووية، ووفقاً لتقرير روس أتوم لعام 2020، بلغت محفظة الطلبات الخارجية للشركة لمدة عشر سنوات 138.3 مليارات دولار. وشكّلت إنشاءات محطات الطاقة الذرية في الخارج 89.1 مليار دولار من هذه الطلبات.
تجارة الأسلحة الروسية:كما تستخدم روسيا السلاح لأغراض اقتصادية وجيوسياسية.فقد بلغ تصدير الأسلحة الروسية لعام 2021 حوالي 15 مليار دولار، وصدرت السلاح إلى أكثر من 121 دولة بمبلغ يصل إلى 181 مليار دولار من عام 2000.
وفي مقدمة تلك الدول تأتي سورية – العراق – مصر – الهند – الجزائر – الصين – كازاخستان – أذربيجان – أرمينيا – بيلاروسيا (ازداد التصدير عدة أضعاف إلى مصر والعراق وانخفض إلى سوريا بمقدار 87%)، كما تستورد الجزائر أسلحة روسية من 7 إلى 10 مليار دولار سنوياً.وفي الأعوام 2017-2021 احتلت موسكو المرتبة الثانية في العالم في تصدير السلاح بنسبة 19% من التصدير العالمي، الولايات المتحدة 39%، فرنسا 11%، الصين 4.6%، ألمانيا 4.5% وتقلصت بمقدار 26% صادرات روسيا من الأسلحة في الأعوام الأخيرة.
7- دور الدول الإقليمية في مسيرة ثورات الربيع العربي:
تركيا التي كانت تدعم الثورة السورية في البداية وتعادي الموقف الروسي من نظام الأسد، تعرضت لضغوطات غربية كبيرة منها: إسقاط طائرة حربية روسية 2015 ومحاولة انقلاب فاشل 2016 وضغوطات اقتصادية أثرت على سعر الليرة التركية دفعتها للتعاون مع روسيا، ويحق لنا أن نتساءل كيف يدفع الغرب تركيا للتعاون مع روسيا في وقت يخوض فيه الغرب حرباً بلا هوادة ضد روسيا (أوكرانيا خير مثال).
وحدثت حالة مشابهة مع دول الخليج العربي، قامت إيران أمام أعين الغرب بتحريك جماعة الحوثي الإرهابية بتفجير حرب في اليمن وجر المملكة العربية السعودية والتحالف العربي إلى حرب مدمرة، وكذلك خلق مشكلة بإشراف إدارة ترامب مع دولة قطر وحصارها والنتيجة قامت المملكة العربية السعودية ودولة قطر بالتوجه للتعاون مع روسيا بعد أن كانت العلاقات متوترة جداً معها بسبب موقفها من الثورة السورية.
حاولت بعض الدول الخليجية وتركيا في البداية مساعدة الثورة السورية، ليس حباً بالديمقراطية بقدر ما هو عائد لأسباب جيوسياسية وصراعات إقليمية معروفة.
بينما قام نظام الملالي الإيراني المعروف بتحالفه مع روسيا في دعم النظام السوري وقمع الثورة ومنع أي عملية انتقالية نحو الديمقراطية، وتعمل طهران تحت غطاء طائفي وباستخدام القوى العربية الشيعية لفرض نفوذها وتحقيق مشروعها الإمبراطوري.
وقد ساهمت كل التطورات الإقليمية في عرقلة مشاريع التحول الديمقراطي ودور بعض الدول العربية في دعم الأنظمة الشمولية والحكام العسكر. وهذا يدل بوضوح على توحد صفوف قوى الثورة المضادة باستخدام الأموال والدعم السياسي والإعلامي.
ويبدو أن التغيرات السياسية الأخيرة وخاصة في الموقف التركي وفي شمال سوريا مثلاً توحي بأن هناك طبخة دولية إقليمية لتقديم توليفة سياسية للحل في سوريا تؤدي إلى التطبيع مع تاجر المخدرات الدولي المجرم بشار الأسد.
8- الأجندات الجيوسياسية وتأثيرها على مصير الديمقراطية في المنطقة العربية:
اتضح من مجرى أحداث ثورات الربيع العربي بأن المصالح الجيوسياسية للدول الكبرى والإقليمية لها أولوية على مصالح الشعوب وطموحاتها في التحرر وبناء دول مدنية ديمقراطية، بالرغم من أن بعض هذه الدول تنادي بنشر قيم الحرية والديمقراطية والإنسانية في العالم، ولكن ذلك يخص شعوبها هي دون غيرها.
ونضرب مثلاً معبراً من التاريخ وهو ذو قيمة جيوسياسية واستراتيجية:ونقصد كيف قامت بريطانيا وفرنسا الاستعماريتين بإجهاض مشروع الدستور الديمقراطي العصري في سوريا 1920، الذي تم وضعه في عهد الملك فيصل، والذي استند إلى الدستور الأمريكي.
وقد تحدثت عن ذلك بشكل رائع المؤرخة الأمريكية اليزابيت. ف. تومسون في كتابها بعنوان «كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب» الصادر عام 2020.وبذلك تم القضاء على مشروع ديمقراطي حقيقي في سورية الكبرى، وقامت تلك الدولتان بفرض الانتداب الاستعماري على الدول العربية وتطبيق اتفاقية سايكس – بيكو سيئة الصيت ونفذتا وعد بلفور بإقامة كيان صهيوني في قلب العالم العربي.
وتحول مشروع الأمير فيصل التوحيدي بين العلمانيين والإسلاميين الديمقراطيين إلى مشروع انقسام قطفت ثماره النخب العسكرية الديكتاتورية التي حكمت معظم دول المنطقة منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى اليوم
وتشير المؤرخة الأمريكية تومسون إلى أن احتلال فرنسا لسوريا أدى إلى تشويه سمعة الليبرالية في العالم العربي، وفي ظل هذه الظروف، انفصلت النخب العلمانية والإسلامية عن بعضها بعضا وانقسمت، ما رسخ استقطاباً سياسياً حاداً بين الإسلاميين والليبراليين استمر في إضعاف النضال ضد الدكتاتورية بعد قرن من الزمان في زمن الربيع العربي وما بعده.
وتحولت قضية الديمقراطية في العالم العربي إلى قضية دولية وكأنها لا تخص الشعوب بقدر ما تهم الأجندات الجيوسياسية الدولية والإقليمية.فلا الحكومات الغربية تريد الديمقراطية لشعوبنا ولا أنظمة الاستبداد الشرقية تريد ذلك ولا الدول الإقليمية.
وبالتالي بقيت شعوبنا لوحدها تصارع ليس فقط أنظمتها المستبدة الفاسدة في نطاق بلدانها وإنما فرضت على الشعوب معادلة صعبة وهي مقاومة مشاريع جيوسياسية وجيواستراتيجية مثل مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي تقع في مركز اهتمامه مصلحة دولة الكيان الصهيوني وتفتيت الشعوب العربية والإسلامية لكي تبقى متخلفة جاهلة تسيّرها أنظمة تابعة للخارج، وتتحكم بثروات المنطقة الشركات والقوى الكبرى والإقليمية الفاعلة.
9- ما العمل؟
تعلمنا ثورات الربيع العربي بأن القوى السياسية ذات الأيديولوجيا والنظريات الإسلامية والقومية واليسارية فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق أحلام الشعوب، خاصة أننا جربنا القوميين (الناصريين – البعثيين – القذافي) لعقود في الحكم، وجربنا الإسلاميين خلال الثورات العربية (مصر- تونس).
أما القوى الديمقراطية صاحبة المصلحة الكبرى في انتصار ثورات الربيع العربي فكانت متأخرة جداً عن لعب الدور التنويري والريادي المنشود الذي كانت تنتظره شعوبنا، ولم تتمكن تلك القوى من توحيد صفوفها، وبعضها وضع يده بيد الإسلاميين وفشلا معاً، وبعضهم اعتبر أن الثورة قد هيمن عليها الإسلاميون لذلك انسحبوا من المشهد – كما يقول الدكتور برهان غليون – ولو أنهم انخرطوا بالثورة والعمل السياسي الثوري لكانوا احتلوا مكاناً مؤثراً في الثورة وقيادتها.
لقد فشلت القوى والنخب القومية والإسلامية واليسارية وحتى التي تسمي نفسها ديمقراطية، لأنها كانت مشبعة بروح العمل الحزبي والأيديولوجي وغياب روح العمل الجماعي وعدم ممارسة الديمقراطية في العمل، وانتشار النرجسية وبروز الأنا الشخصية والأنا السياسية.
واليوم من واجبنا تشجيع أي حراك وطني ديمقراطي لتجميع صفوف النخب المثقفة الديمقراطية في سورية والمنطقة العربية، لان المعركة واحدة وهناك تشابك واضح بين أدوار للاعبين الدوليين والإقليميين في هذه المنطقة.
كما تعرضت الثورة السورية لعدة أنواع من الدواعش: داعش الإسلامية وداعش اليسارية وداعش القومية وداعش المتعشعشة في قيادات بعض القوى التي تسمي نفسها ديمقراطية.
وكلهم حملوا مشاريع خدمت مباشرة أو بشكل غير مباشر أعمال قوى مضادة للثورات بدعم من بعض الدول العربية والإقليمية والدولية.
وبرأيي فإن الأولوية اليوم لشعار التحرر الوطني والاستقلال من الاحتلالات التي تعج بالمنطقة. ففي سوريا لوحدها يوجد 5 احتلالات وهكذا.
ولا يمكن بناء دولة مدنية ديمقراطية في ظل الاحتلال ولكن معركتي التحرر الوطني والديمقراطية متشابكتين ولا يمكن الفصل بينهما.فمرحلة التحرر الوطني التي خاضتها القوى الوطنية القومية في الخمسينيات لم تكتمل بمرحلة تحرر اجتماعي وسياسي ديمقراطي، لذلك فشلت كل تلك الأنظمة وتحولت إلى أنظمة استبدادية فاسدة تخدم عائلات أو فئات أو طوائف وفقدت بذلك شرعيتها الثورية وأصبحت معادية لشعوبها.