باسل معراوي
لم يعد خافياً على أحد رغبة تنظيم الجولاني أن يكون “قسد” الشمال الغربي، فهو يعمل على تأسيس تجمّع قوي ونواته الصلبة جبهة النصرة، وهي المتحكم بقراراته كلها ويدور بفلكها أو تحت رعايتها مجموعة حركات أو فصائل تكون بعيدة عن تصنيفات الإرهاب العالمية، ويمكن وصف ممارساتها بـ”اللامسؤولة”، أو غير المنضبطة أو أي مسمى آخر لكن ليست جهادية متطرفة.
سبق لجبهة النصرة عبر تاريخها أن مارست تلك السياسة عبر آليات ضم أو تحالف مع مكونات عسكرية سورية، لمحاولة إخفاء وجهها أو التذاكي على المجتمع المحلي والدولي، وغيّرت أسماءها عدة مرات، بعدها إمّا فككت تلك الفصائل أو أبقتها ضعيفة وتدور في فلكها.
لا يبدو خيار غزة وارداً عندها كما يظن البعض، حيث لا تتبنى عملياً سياسة عداء لأي دولة، واعتاد جمهورها على خطاب يوجّه لهم لتبرير أفعالها على الأرض، وليس بعيداً رفضها العلني لكل مخرجات أستانا وتطبيقها العملي لكل قراراتها.
أغلب الظن أنَّها تنظر إلى ما تسمّى بـ”قوات سوريا الديمقراطية” على اعتبار أنَّ نواة تلك القوات الصلبة حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، وهو الحزب المصنف إرهابياً على لوائح دول كثيرة أهمها الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي.
ونظراً لحاجة الولايات المتحدة لحليف سوري محلي على الأرض يكون ذراعاً أرضياً لقوة التحالف الجوية لمحاربة الإرهاب والإمساك بالأرض لتثبيت النفوذ الأمريكي، حيث لجأت الولايات المتحدة لضم قوى عربية من بقايا الجيش الحر أو أبناء العشائر لإخفاء الوجه القبيح للقوّة الرئيسية المتحكمة بمفاصل القرار، وبفضل موارد المنطقة والدعم الغربي واستئصال أي قوى منافسة “سواء عسكرية او سياسية”، فمن الطبيعي أن تتشكل إدارة مناطق موحدة بجهاز إداري هرمي يؤمن نجاحاً نسبياً أو استقراراً أكثر من تعدد أشكال الإدارة ومرجعياتها.
وهو ما تمكن تنظيم الجولاني من فعله ويتباهى به، حيث إنَّه كان أكثر طموحاً من “قسد” التي أسمت ذراعها المدني بـ”الإدارة الذاتية”، فأصر على مسمى “حكومة الإنقاذ”، ليعبّر عن طموحه بإدارة مدنية وسياسية، نظراً للمهام المفترضة التي تتمتع بها الحكومات. ويقدّم تنظيم الجولاني “أو يبيع” كل الخدمات المطلوبة منه لكل من يطلبها، ابتداءً من ضبط المنطقة وإدارة شؤون السكان والتعاون بملفات أمنية مهمة على مستوى تصفية قيادات جهادية مهمة إضافة لامتلاكه قوة متماسكة جاهزة للإيجار، كما تفعل “قسد” الآن بمحاربة تنظيم “داعش”، وقد يطلب منها مستقبلاً محاربة ميليشيا لفصائل تتبع لإيران أو نظام الأسد مقابل تمكينها على الأرض. قد تكون تلك التجربة تراها هيئة تحرير الشام جديرة بالاقتداء بها، وهذا ما يفسر كثيراً من المشاهد التي تقوم بها الهيئة والجولاني بالذات من تليين الخطاب العام وتقديم نفسه كحامي للأغلبية المضطهدة، وبنفس الوقت للأقليات الأخرى كما حدث مؤخراً مع افتتاح كنائس جديدة بإدلب أو بالرعاية التي حاول إسباغها على السكان الدروز بالمنطقة. أو قد تكون الهيئة تسعى لأن تكون “طالبان سورية” بأجندة دينية محلية غير عابرة للحدود ولم تنفذ عمليات ضد رعايا أو قوات غربية، وبالتالي ليس صعباً كما تظن أن تلقى نفس القبول بأمر واقع له مهام يؤديها ولا يخرج عن السيطرة.
من وجهة نظري لا أعتقد أنَّ أحداَ أو حتى الولايات المتحدة نفسها قادرة أو راغبة برفع تنظيم القاعدة وفروعه عن لوائح الإرهاب الأممية وإن قبلت بالتعاون المستتر معه، وخاصة أنَّ دماء أيمن الظواهري لم تجف بعد.
فائض القوة الذي يملكه تنظيم الجولاني، وتشرذم الخارطة الفصائلية وعدم انسجامها أو تنازعها “على الرغم من كل العمليات التي جرت لتوحيدها تحت مسمى الجيش الوطني” عند جيرانه بل اجتيازها مراحل المنافسة والصراع إلى الاقتتال العسكري أغراه لنجدة فصائل معرضة للهزيمة والاضمحلال خوفاً من نواة مشروع يمكن أن ينجح مع منافس له في الشمال السوري ويجهض أحلامه بأن يكون “قسد” الشمال الغربي كله. لا يغيب التأثير أو التحكم التركي بكل حيثيات المشهد ورسم حدود مناطق السيطرة بين الفصائل المدعومة منها أو التي تحظى برعايتها، إذ إنَّ القرار التركي هو القرار النهائي في مناطق الشمال الغربي كله، لكنه كثيراً ما يترك هوامش أو مساحات للحركة، وقد يرى أن بعض الفصائل مشاغبة أو متمردة على الانصياع الكامل وتعتدّ بمشروعها وحاضنتها وتجذّرها في المنطقة، فيلجأ لمعاقبتها أو الضغط عليها.
ودون الخوض في تفاصيل ما حدث ، وللتعامل مع إحدى نتائجه الآن والتي جسّدتها الغارات الروسية التي شهدها الشمال صبيحة يوم السبت الماضي، فإن تمدد سيطرة هيئة تحرير الشام إلى منطقة غصن الزيتون، ولو بشكل قامت به بسحب أجزاء كبيرة من آلياتها وجنودها وإبقاء جهازها الأمني منتشراً ببعض المناطق مع ترويج أخبار أو ادعاءات عن مشاركتها بإدارة المنطقة والتدخل أو الإشراف على الملفات الأمنية والعسكرية والاقتصادية وغيرها، فإن هذا الأمر سيستدعي “وفقاً للتفاهمات الروسية التركية” أن تتحول منطقة غصن الزيتون الخاضعة حالياً لوقف إطلاق نار معقول نسبياً إلى منطقة خفض تصعيد كما هو حال منطقة إدلب والتي تتيح للطائرات الروسية والميليشيات الأسدية وذات التابعية الإيرانية من استهدافها متى شاءت تحت ذرائع محاربة الإرهاب.
وقد يتبادر للذهن أنَّ الطيران الروسي لا يحتاج لحجج لقصف مناطق تقع في غصن الزيتون ودرع الفرات وقد فعلها عدة مرات سابقاً، ولكن تلك الحالات أولاً قليلة، وثانياً هي في طور توجيه رسائل لتركيا بمسائل أو ملفات معينة، وقد تكون تلك الملفات الخلافية بين البلدان خارج سوريا.
لن يتوان الروسي المأزوم أو المهزوم في حربه بأوكرانيا عن توجيه ضربات جوية سهلة في أماكن بعيدة عن روسيا وتحاول أن تثبت بذلك أنَّها دولة عظمى وذات شأن وتتدخل بإدارة ملفات دولية بل وتملك الذراع الطولى فيها، وهذا يتم تصديره للرأي العام الداخلي الروسي ولا بأس من تصديره خارجياً.
طبعاً لن يؤثر ذلك على أي خارطة لتوزع خطوط القتال الخالية في سوريا، فالجميع له مصلحة بعدم انزياحها بالقوة، ونعلم جميعاً المصالح الهائلة التي تجمع تركيا وروسيا بملفات عديدة، وأنَّه من الصعب جداً أن يسمحوا للملف السوري بتأثيره عليها، لكن لا ضير في توجيه وخزات بالإبر الروسية للصديق التركي وتسجيل نقاط عليه.
والمطلوب الآن من القيادة التركية أن تدفع بهيئة تحرير الشام إلى أماكنها التي انطلقت منها قبل الأحداث الأخيرة، وتعلن انسحابها الكامل من مناطق عفرين كلها انسحاباً فعلياً وعلى الأرض وإجراء ترتيبات معينة على الأرض تخدم الخطة أو الرؤية التركية للمنطقة بإبعاد الفصائل العسكرية عن التجمعات السكانية، وكف يدها عن التدخل بأيّ ملف أمني أو إداري، وتفعيل سلطة الحكومة المؤقتة بأذرعها الأمنية والخدمية لإبطال التصنيف التي تحاول روسيا إسباغه على منطقة عفرين بأنّها توسيع لمنطقة خفض التصعيد الرابعة في إدلب.
المصدر: داماس بوست .