في آخر لقاء لنا قال لي إننا لن نلتقي قريباً لأنه سيُعتقل، من المرجح أن يكون هذا قد حدث في شهر آب 2008، فبعد أسبوع تلقيت خبر اعتقاله. يومها كنت قد صادفت مشعل أمام فندق الفورسيزنز في دمشق، كان كلّ منا مشغولاً بموعد قريب فمشينا معاً حتى شارع العابد وتبادلنا الحديث عن أوضاع المعارضة الآخذة بالتراجع آنذاك. بيقين واطمئنان أخبرني بنبأ اعتقاله القادم وأوصاني بالحرص والانتباه بسبب مقالاتي الحادة المضادة للنظام، لكنه ما لبث أن تراجع عن توصيته لأن الحرص ليس من شيمه. ابتسم لي وأنا أنتقد بؤس المعارضة وتشتتها، ولم يشاركني انتقاداتي للجان المجتمع المدني التي كان ينشط فيها، فقط حافظ على ابتسامته الموحية بتفهم لي وتفهم لظروف المعارضة. افترقنا بمرح؛ من جهتي بإصرار على لقاء قريب، ومن جهته بتأكيد على أنه لن يكون قريباً كما أظن.
حينها كان مضى على معرفتي بمشعل حوالي خمس سنوات، الحدث الأبرز الذي تخللها تمثّل في الانتفاضة الكردية في آذار 2004، وأعتقد أنه كان لمشعل الفضلُ في تعريف بعض من شخصيات المعارضة بالوضع الكردي في تلك المناسبة. فبعد أسبوع من انطلاقتها كان مشعل قد رتّب استقبال حوالي ثلاثين شخصية عربية في القامشلي الواقعة تحت ما يشبه منع التجول بسبب الانتشار الكثيف للجيش والأجهزة الأمنية، وكان المدينة تشهد احتقاناً بين العرب والأكراد بتشجيع من الأجهزة الأمنية، وثمة مخاوف حقيقية من اندلاع أعمال عنف بين الطرفين، الأمر الذي حصل فعلاً في حيّ من أحياء الحسكة.
بالنسبة إلي لم تكن تلك الزيارة الأولى للقامشلي، لكنها كانت كذلك بالنسبة إلى بعض الزائرين، ومنهم شخصيات أتحفظ عن ذكرها بسبب تسلمها مناصب في المعارضة السورية الآن، لكن الأمانة توجب عليّ الإشارة إلى الحضور اليقظ للصديق ياسين الحاج صالح، وإلى انهماك الناشطة الحقوقية رزان زيتونة في توثيق الانتهاكات الأمنية من قتل واعتقال واعتداءات شاهدنا آثارها بأعيننا. ثلاثة أيام رتّب لها مشعل مسبقاً جدولاً حافلاً من اللقاءات، وبحيث تشمل الطيف الاجتماعي والسياسي الواسع للجزيرة السورية. لم تستثنِ تلك اللقاءات أحداً من رؤساء الأحزاب الذين ربما ليس على وفاق معهم، أو من رؤساء العشائر العربية والكردية، وأيضاً من المستقلين والمثقفين الأكراد. كتبت إثر تلك الزيارة عن ذلك المثقف الذي صرخ بنا: “لماذا أتيتم؟! أكان ينبغي أن تسيل دماؤنا لنراكم هنا؟”. ربما لا تزال تلك الصرخة مناسبة لوضع السوريين حتى الآن، فالعالم لم يشعر بوجودهم ومعاناتهم إلا عندما بدأت دماؤهم تصبغ الشاشات بلونها.
حسب علمي كانت سابقة من نوعها أن يذهب ناشطون ومثقفون عرب ليلتقوا بممثلين عن المجتمع الأهلي الكردي، الأمر الذي يُسجّل لمشعل حصراً، مع التنويه بأن تلك المبادرة فتحت الباب أمام زيارات أخرى ولقاءات وحوارات استمرت في أماكن مختلفة، ما أتاح لمختلف الأطراف التعارف وتبديد سوء الفهم الناجم عن الجهل بواقع الآخر. لكن ذلك كان ممنوعاً بشدة من قبل النظام، ولم تكن أجهزته الأمنية لتغفر للسوريين أي تقارب فيما بينهم؛ الأجهزة التي لا تخفي محاولاتها تقسيم المجتمع، فكان ضباطها في أثناء التحقيقات يخوّفون الناشطين العرب من المحاولات الانفصالية للأكراد، ويقولون للناشطين الأكراد إن المعارضة العربية لن تكون أرحم لهم إذا أتيح لها استلام السلطة. على ذلك كان مشعل يتخطى المحظورات بمحاولة مدّ الجسور بين طرفين ينبغي أن يكونا واحداً، وكان ذلك مفهوماً من قبله ومن قبل الذين تشاركوا معه شرف المحاولة.
مع أنه بدأ حياته السياسية في أحد الأحزاب التقليدية الكردية إلا أنه لم ابناً باراً لها، مرن من غير مهادنة؛ هكذا كان مشعل. مرن فيما يخص القضايا الوطنية موضع الخلاف في صفوف المعارضة، وغير مهادن إزاء النظام؛ مع الأسف بوسعنا قول العكس عن بعض الكوادر الكردية والعربية المرنة تجاه النظام وغير المهادنة إزاء بعضها. لذا لم يتوقف مشعل عن أن ينذر بالخطر، أولاً للنظام الذي ارتاح طويلاً لأداء القيادات التقليدية الكردية وانفصالها المطرد عن الواقع العربي، ومن ثم عن الواقع الكردي، وثانياً للقيادات إياها التي راحت حيوية مشعل تسحب البساط من تحت أدائها الرتيب المتهالك. أخشى القول بأنه صار خصماً غير مرغوب به من الطرفين.
مع انطلاق الثورة كان مشعل لا يزال قيد الاعتقال؛ تأخرت المشاركة الكردية قليلاً عن نظيرتها العربية، وحينها ثارت تساؤلات في الأوساط السورية عن أسباب تأخر الجهة التي يُفترض أنها أكثر تنظيماً سياسياً من بين السوريين. في ذلك الوقت كانت تصلني على بريدي الإلكتروني رسائل في غاية الحماسة تحرّض الشباب الأكراد على الخروج من معطف الأحزاب التقليدية، وعلى المشاركة الحثيثة في الثورة؛ رسائل لا يقصّر مرسلها في تفنيد الحالة السياسية الكردية والوطنية، ولا يقصّر في إرسالها إلى جميع العناوين الموجودة على بريده. كانت الرسائل من فارس التمو الذي لم ألتقِ به منذ سنوات طويلة، كنت أقرؤها بعناية خاصة، وبسرور أيضاً لأن صاحبها بقي على مواقفه مع إحساس بالتحدي تجاه النظام.
سيكون من الغبن القول بأن تلك الرسائل ذكرتني دائماً بمشعل، مع أن هذا حدث حقاً، ففارس ليس نسخة عن أبيه، وأعلم بحكم نلاقاً، وبانحياز قد يكون شخصياً جداً أقول لنفسي إن الساحة الكردية تحتاج إلى مشعل، فوحده القادر على استقطاب وتفعيل الحالة الثورية المتحفزة بين صفوف الشباب، ووحده القادر على تبديد الارتباك الفكري لدى بعضهم بين كونه كردياً وكونه سورياً.
من شاهد خطاب مشعل الأول بعد خروجه من السجن يدرك بلا شك أهمية وجوده مع الشباب الكردي الثائر، ويعرف مقدار تعطش أولئك الشباب إلى قيادة غير تقليدية، وإلى قيادة لا تفرمل اندفاعهم وتعيدهم إلى بيوت الطاعة، أو إلى المقولات الجامدة التي ساهم النظام في تكريسها كقناعات أبدية. لا أخفي أن مشعل هو الأقرب لي عاطفياً من بين الذين التقيتهم من قيادات كردية، لكن هذا غير كافٍ ليجعلني أجزم بأن الثورة كانت ستأخذ مساراً مختلفاً في الأوساط الكردية لو لم يتم اغتياله بعد وقت قصير من إطلاق سراحه، فالواقع أن الزخم الوطني الذي أثاره مشعل، وكان بوسعه الحفاظ عليه، شهد تشتتاً فيما بعد، وأظن أن الشباب الكردي الذي رأى في ثورته الأولى انتفاضة حتى على الأطر التقليدية الكردية قد اضطر إلى بعض التراجع بسبب رسوخ تلك التنظيمات وغياب البديل المقبول. أعتقد أيضاً أن تغييب مشعل قد أثر بشكل ملموس على إمكانية الالتقاء بين المعارضة السورية بشقيها العربي والكردي، ولست أبالغ بالقول إن اغتياله أتى بمثابة ضربة وقائية من النظام في صميم العمل الوطني السوري، ولا أستبعد أن تكون هذه الضربة قد أراحت بعض المتطرفين من كل الجهات، وبخاصة من أولئك الذين نظروا بتوجس إلى تحفز الشباب الكردي وسايروه قليلاً مرغمين ليس إلا.
مع الأسف لم ألتقِ بمشعل بعد اللقاء الذي أشرت إليه بداية، لذا أفضّل الظن بأنه لا يزال قيد الاعتقال، وبأنه لا يزال من مكان خفيّ يؤرّق هؤلاء المستفيدين من غيابه.
صديقي مشعل: لن أضع شاهدة فوقك بذلك النوع من الرثاء البائس الحزين