• الجمعة , 27 ديسمبر 2024

تاريخ مدينة رأس العين وأسماءها عبر التاريخ ( مقال أكاديمي )

الباحث الأثري داني عبو

تقع مدينة رأس العين في الجهة الشمالية الشرقية للجمهورية العربية السورية على الحدود السورية التركية وتتبع لمحافظة الحسكة وتبعد عن مركز المحافظة مسافة 85 كم ويبلغ تعداد سكانها 80 ألف نسمة تقريباً وهي ذات موقع جغرافي مهم كون أن نهر الخابور يدخل الأراضي السورية عبر هذه المدينة، إضافة إلى احتوائها لأكثر من 300 نبع في أراضيها أهمها نبع الكبريت، وهو ما يفسر تسميتها بهذا الاسم. هذا وتعتبر مدينة رأس العين أساس الحضارة البشرية في منطقة الجزيرة وذلك من خلال موقعها الجغرافي المهم وتاريخها الموغل في القدم، فمن خلال التنقيبات الأثرية التي جرت في تل الفخيرية وتل حلف القريبين من رأس العين، تم الوصول إلى النتائج الأثرية التالية: إن أقدم استيطان في رأس العين يعود إلى نهاية الألف الثامن قبل الميلاد وبداية الألف السابع قبل الميلاد في الفترة التي تسمى بعلم الآثار بالعصر الحجري الحديث ما قبل الفخار، أي أن المدينة عمرها أكثر من تسعة آلاف عام وهو رقم مثبت وفق نتائج التنقيبات الأثرية الأخيرة. لكن الاستيطان المهم في تلك المدينة بدأ مع العصر الحلفي الذهبي والذي أخذ اسمه من تل حلف الشهير (اسم تل حلف اسم حديث لا يرقى لأكثر من مئة عام فقط ولكن التل أعطى الاسم لهذه الثقافة ” ثقافة حلف ” لأن الكتابة في تلك الفترة كانت غير موجودة)، فقد وصل المنقبون في تل حلف إلى السوية العذراء في التل وكشفوا النقاب عن ثقافة تعود إلى 6000 سنة قبل الميلاد أطلق عليها لاحقاً اسم ثقافة حلف نسبة إلى اسم التل. وقد تميزت الثقافة الحلفية بتصنيع الفخار الحلفي الجميل والملوّن والذي يعتبر من أجمل وأرقى الصناعات الفخارية على مستوى العالم في ذلك الزمان، إضافة إلى الهندسة المعمارية للبيوت الحلفية والتي تشبه بيوت سكان الإسكيمو، إضافة إلى أن تل حلف نفسه كان عبارة عن ميناء صغير على نهر الخابور في تل الفترة. أما في فترة الألف الثاني قبل الميلاد فقد عثر على استيطان يعود للفترة الميتانية 1500 ق.م، والفترة الآشورية الوسيطة حوالي 1300 قبل الميلاد في عهد الملك الآشوري أدد نيراري الأول، وتذكر النقوش الآشورية مدينة باسم (آشوكاني) عند منابع الخابور وهي عاصمة الدولة الميتانية لكن لم يتم العثور عليها بعد، وفي النقوش الحثية تأتي بصيغة (واشوغاني) لكن يبقى افتراض لحين اكتشاف المدينة المذكورة في النقوش القديمة. أما الاستيطان الأهم فكان مع بداية الألف الأول قبل الميلاد حيث قامت قبيلة بيت بخياني الآرامية بتأسيس مملكة قوية وكانت عاصمتها في تل حلف الحالي، ومن خلال التمثال الذي اكتشف مصادفة في تل الفخيرية عام 1979 والذي يعود للملك الآرامي هدد يسعي يقول بأن المدينة (أي رأس العين) اسمها (ج – و – ز – ن) والنقش الآشوري لنفس التمثال يذكر كلمة غوزانا (كان تمثال الملك هدد يسعي يحمل نقش بلغتين مختلفتين الآرامية القديمة والآشورية المسمارية)، أي أن اسم مدينة رأس العين في الفترة الآرامية هو (جوزن) وفي الفترة الآشورية الحديثة التي تلتها هو (غوزانا). أما حاكم المملكة والذي قام ببناء القصر الآرامي في تل حلف (العاصمة جوزن) فهوالملك (كابارا بن خاديانو). هذا وقد استمر الحكم الأرامي 300 عام في رأس العين، حكم خلالها سبعة ملوك آراميين مدينة رأس العين وهم : من الأقدم (1- بخياني 2 – خاديانو 3- كابارا 4- أبي سلامو 5 – شمشي نوري 6- هدد يسعي 7 – زدنت) ليسطر الآشوريون عليها مرة أخرى في القرن الثامن قبل الميلاد، حيث قاموا بتحويلها إلى محافظة آشورية مع الإبقاء على اسمها، لكن مع تعيين محافظ آشوري كان يدعى (مانّوكي مات آشور). في الفترة التي تلتها تعرضت المدينة للغزو الفارسي ليتم الاستيطان فيها في الفترة الهلنستية حوالي القرن الثاني قبل الميلاد (لا يوجد كتابات مكتشفة تذكر اسم المدينة في تلك الحقبة). بعدها أصبحت قرية رومانية في القرن الثاني بعد الميلاد حيث كان يدعوها الرومان باسم ( فونس شابوريه) أي نبع الخابور، أما سكان المنطقة فقد كانوا يدعوها باسم آخر هو (ريسانيا). “حيث روي عن المؤرخ اليوناني “يوحنا مالالاس” أنه رُقيت في سنة 380م القرية ريسانيا (رأس العين) إلى مرتبة مدينة، وتغير اسمها فأصبحت تعرف بـ”ثيودوسيوس بوليس. وهذا ما أكدته المكتشفات واللقى الأثرية، ففي القرن الرابع الميلادي تحولت رأس العين إلى مدينة بيزنطية وأسقفية وأصبح اسمها (ثيودوسيوس بوليس) نسبة إلى القيصر ثيودوسيوس (حكم 379 – 395م). في الفترة ما بين القرن الخامس والثامن الميلادي، لمع اسم رأس العين في الأوساط السريانية كونها أنجبت العديد من الأطباء والفلاسفة السريان العظماء أمثال شيخ الأطباء والفيلسوف (سرجيس الرأس العيني) والقديس مار آحو وغيرهم، وتذكر الكتابات بأن مدينة رأس العين كانت تحتوي على أكثر من عشرين دير ومدرسة لتعليم العلوم العامة باللغة السريانية واليونانية في تلك الفترة، وهو مايدل على أهميتها العلمية في تلك الفترة وكانت تدعى في تلك الفترة (ريش عينو) بالسريانية أي رأس العين. نذكر من هذه المدارس والأديار السريانية ( 1- دير اسفولس الشهير الذي انجب بطريركين و11 اسقفاً وأصبح أبرشية للسريان الأرثوذكس فيما بعد 2- ودير قيدار 3- ودير قرقفتا 4- ودير العمود 5- ودير أثنوس 6- ودير البيض 7- ودير مار زكى 8- ودير كفرتوث 9- ودير تير …الخ
بعد هذه الفترة ظهر لدينا استيطان في الفترة الإسلامية ابتداء من الفترة العباسية المتأخرة حيث كانت مركزاً تجارية مهماً في تلك الفترة، ثم الفترة الحمدانية والأيوبية وحتى القرن الثاني عشر الميلادي، وذلك من خلال النقود المكتشفة في المدينة، وهي المدينة التي أسرت خالد بن الوليد. وقد ذكرها العديد من الرحالة والمؤرخين خلال تلك الفترة أمثال ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان، والإدريسي في كتابه نزهة المشتاق. هذا وقد دمرت على أيدي المغول والتتر في القرن الثاني عشر للميلاد وهجرت أرضها حتى منتصف القرن التاسع عشر، حيث بدأ التخطيط العمراني الذي نراه في الوقت الحالي، وكان يطلق عليها أحياناً في تلك الفترة اسم ” قطف الزهور” ولهذا الاسم ايضاً قصة لا مجال لذكرها الآن.
إن مدينة الشمس ( رأس العين) ومن خلال ما تقدم، يمكن اعتبارها عاصمة الحضارة للجزيرة السورية وهذا ما أكدته التنقيبات الأثرية ابتداء من الألماني ماكس فون أوبنهايم عام 1899 وغيره وحتى عام 2010م حيث توقفت التنيقيبات الأثرية. وجميع هذه المعلومات التي وردت هي موثقة بشكل علمي من قبل الباحثين والآثاريين، وجميع الأسماء التي ذكرت يوجد لها نقوش وكتابات تدل على صحتها، وقد تم الاستناد في ذلك على نتائج التنقيبات الأثرية خلال أكثر من مئة عام وبناء على بعض المراجع العلمية الموثوقة والمذكورة أدناه. عدا ذلك كل ما يأتي من أسماء وتحوير للأسماء في الانترنت أو من قبل بعض الهواة فهو غير صحيح. إن الغاية من هذا المقال الأكاديمي المختصر بشكل كبير هو التعريف عن تاريخ هذه المدينة العريقة عبر التاريخ وإعطائها حقها دون زيادة أو نقصان.
دمتم بخير

قائمة المصادر والمراجع العلمية
1-Bordreuil, P./Millard, A.R./Abou-Assaf, A. 1981: La statue de Tell Fekheryé, La première inscription assyro-araméenne [1979]. CRAI 125, No. 4, 640-655.
2-Bonatz, D./Bartl, P. 2008: Preliminary Report of the excavations at Tell Fekheriye in 2006 and 2007, in: Chronique Archéologique en Syrie, 175-185.
3-CURVERS,H,H. (1990). The Balikh drainage in the Bronze Age. Tell Fakhariah. Phd dissertation, university of Amsterdam.
Mc EWAN, SOUNDINGS AT TELL FAKHARIYAH, CHICAGO, 1958, P 19-2 4- 5-PRUSSA,A. BAGHDO, A. (2002) TELL FACHRIYE. Bericht Uber Die Erste Kampagne Der Duetsch – Syrischen Ausgrabungen. 2001, M D OG Zu BERLIN, Nummer 134, BERLIN 2002.

1) ابن حوقل: صورة الأرض، مطبعة بريل، ليدن، ط 2، القسم الأول، 1937.
2) ابن خرداذبة: المسالك والممالك، مطبعة بريل، دار صادر، بيروت، 1889م.
3) أبو عساف، علي: دمية الملك هدد يسعي ملك جوزن، مجلة الحوليات الأثرية العربية السورية،
المجلد 32 ، 1982.
4) أثناسيو، متري هاجي: موسوعة بطريركية انطاكية، المجلد الثاني، دمشق، 1997.
5) أنطون، مورتغات: تقرير مؤقت عن الحفريات في (تل الفخيرية)، تعريب: كامل عيد، مجلة
الحوليات الأثرية العربية السورية، المجلد 6، 1956
6) الأصطخري، ابراهيم: المسالك والممالك، تحقيق: محمد جابر الحينى، وزارة الثقافة
والإرشاد القومي، 1961م.
7) الحموي، ياقوت: معجم البلدان، الجزء الثاني، دار صادر، بيروت، 1977.
2002.
8) ألكسندر بروس، عبد المسيح بغدو: تل الفخيرية تقرير حول الموسم الأول لأعمال
التنقيب الألمانية – السورية 2001، مجلة الحوليات الأثرية العربية السورية،
المجلدان 47- 48، 2004- 2005.
9) باقر ، طه: مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، دار الوراق، 2009.
10) بغدو، عبد المسيح: مائة وخمسون عاماً من البحث الأثري في الجزيرة السورية،
مطبعة الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2009، ص 79.
11) بيغوليفسكايا، نينا: ثقافة السريان في العصور الوسطى، ترجمة خلف الجراد،
دار الحصاد، دمشق، 1990.
12) حنون، نائل: واشوكاني، الموسوعة العربية، إعداد هيئة الموسوعة العربية،
المجلد 22 ، دمشق، 2008، ص 101- 103.
13) كامل، مراد: تاريخ الأدب السرياني، دار الثقافة، القاهرة، 1974.
14) مورتغات، أنطون: تنقيبات أثرية لمؤسسة (فون أوبنهايم) في شمال بلاد الرافدين،
مجلة الحوليات الأثرية العربية السورية، المجلد السابع، 1956.
15) ميخائيل الكبير: تاريخ ميخائيل السرياني الكبير، ترجمة غريغوريوس صليبا
شمعون، المجلد 3، دار ماردين، الطبعة الأولى، حلب، 1996، ص 752 – 759.

مقالات ذات صلة

USA