المدن:29/6/2020أثار اعتقال النظام لعدد من ضباط الاستخبارات، بينهم مسؤول كبير مقرب من بشار الأسد، تكهّنات واسعة حول أسباب هذه الخطوة، خاصة وأن هؤلاء الضباط مسؤولون عن ملف الاتصالات في مؤسسات النظام العسكرية والأمنية، ما دفع للاعتقاد بأن الأمر مرتبط بقضية الاغتيالات التي طالت عدداً من القادة الإيرانيين والفلسطينيين في سوريا.وشهدت البلاد مقتل عدد من قادة الفصائل الفلسطينية المرتبطة بالنظام وإيران في دمشق خلال السنوات الأخيرة، أغلبهم من حركة الجهاد الإسلامي”، إلا أن التطور الأبرز كان اغتيال قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، بالقرب من مطار بغداد بعد وصوله قادماً من سوريا في كانون الثاني/يناير الماضي.وعلى الرغم من فرضية وجود جاسوس يعمل لصالح الاستخبارات الأميركية والاسرائيلية داخل النظام، ما يسهّل عمليات الاغتيال هذه، بالإضافة إلى تحديد المواقع التي يتم استهدافها بالغارات الجوية المتتالية التي تشن ضد مواقع عسكرية داخل سوريا، وعلى الرغم من المعلومات التي تحدثت عن القاء القبض على شخص متهم بالتجسس بعيد اغتيال سليماني، إلا أن الأمر ظل مجرد تكهنات غير موثوقة.لكن هذه التكهنات ارتقت لتقترب من درجة الحقائق خلال الأيام الأخيرة الماضية، مع اعتقال النظام اللواء معن حسين، مدير إدارة الاتصالات في جهاز أمن الدولة الذي يقوده اللواء علي مملوك، والحجز على أمواله.قرار الحجز على أموال اللواء معن حسينورغم أن قرار مصادرة أموال اللواء حسين الذي تم التمديد له رغم تقاعده منذ خمس سنوات بقرار من رئيس النظام شخصياً، والذي نشرت مواقع إعلامية معارضة نصه، لم يحدد السبب الذي دفع لاتخاذ هذا القرار، إلا أن المواقع التي كان يشغلها هذا الضابط والمهام المنوطة بالإدارة التي كان يرأسها، تعتبر مؤشراً قوياً في هذا الاتجاه.وحسب المعلومات المتداولة، فإن إدارة الاتصالات التي تم إحداثها في نهاية العام 2010، وهي إدارة مستقلة تتبع تنظيمياً لوزير الدفاع، وترتبط من جهة أخرى مع مكتب الأمن الوطني، أنشئت بهدف ضم الفروع الأمنية التي تعنى بشؤون الاتصالات والتتبع والتجسس ضمن مؤسسة واحدة.وحسب هذه المعلومات، فإن مهمة الإدارة هي مراقبة ورصد كافة الاتصالات الهاتفية الأرضية والخليوية، والإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، والبرامج التلفزيونية والإذاعية، والاتصالات اللاسلكية، وتشكيل بنك معلوماتي حول هذه الاتصالات.وبالإضافة إلى ما سبق، كان على الإدارة إجراء الفحص الدوري لمكاتب كبار القادة والأماكن الحساسة في احتمال وجود أجهزة تجسس، وفحص ومراقبة كافة أجهزة الاتصال التي يتم استيرادها من الخارج، كما كلفت بدراسة منح التراخيص الخاصة باستيراد الأجهزة التقنية وملحقاتها.ويرى الصحافي أيمن عبد النور، مدير منصة “كلنا شركاء” التي كانت أول من نشر نص قرار الحجز على أموال اللواء حسين، أن الجزء الأخير من المهام التي كانت إدارة الاتصالات مكلفة بها هو السبب الرئيسي لاعتقاله.وقال عبد النور ل”المدن”: “بسبب الضائقة المالية التي يمر بها النظام، تم الإيعاز إلى الأجهزة الأمنية ومختلف المؤسسات ذات الصلاحيات الواسعة، بالعمل على تدبر واردات خاصة تؤمن رواتب ومصاريف هذه الأجهزة والمؤسسات، فكان أن وجدت إدارة الاتصالات مع هذا التوجيه، فرصاً كبيرة للحصول على موارد ضخمة للمؤسسة وللمسؤولين فيها شخصياً، من دون أي اعتبار لمخاطر وحساسية الأعمال التي يستثمرون فيها”.وتابع: “عمدت المؤسسة إلى منح تراخيص بيع خطوط اتصالات من فئة (VOIP) ذات المواصفات التقنية الخاصة، والسماح باستيراد الأجهزة التقنية التي تحتاجها وتركيبها دون قيود، طالما أن من يحصل على الترخيص يدفع الأموال بشكل رسمي لإدارة الاتصالات، وكذلك على شكل رشاوى بمبالغ ضخمة للمسؤوليين فيها، وعلى رأسهم اللواء معن حسين، الأمر الذي وفّر دخلاً كبيراً للمؤسسة ولمديرها وبعض الضباط فيها ممن أثروا بشكل كبير بسبب ذلك”.لا يستطيع أحد حتى الآن الجزم في ما إذا كان اعتقال هذا الضابط الكبير وعدد آخر من المسؤولين عن إدارة الاتصالات سببه التجسس المباشر بالفعل، لكن المؤكد أن الأجهزة التي تم استيرادها وتركيبها لخدمة خطوط (VOIP)، وهي أجهزة أميركية الصنع، لا بد وأن تكون مخترقة، وعليه فإن احتمال استفادة الولايات المتحدة منها في الحصول على معلومات حساسة في سوريا يبدو كبيراً جداً.لذلك، يرى عبد النور أن حملة الاعتقال الأخيرة التي نفذها النظام يقف خلفها دافعان اثنان. الأول، هو الفساد والتكسّب الذي مارسه المسؤولون الصغار في إدارة الاتصالات من عملية ترخيص واستثمار هذه الخطوط، وهو من نوع الفساد الاقتصادي. والثاني، هو الفساد السياسي لدى واحد أو اثنين على الاقل من مسؤولي الإدارة الكبار، واللواء معن حسين سيكون المتهم الرئيسي بطبيعة الحال، إلا أن التحقيق ما يزال جارياً داخل النظام لتحديد ما إذا كان حسين على علم مسبق بمخاطر هذه الأجهزة بالفعل وسمح مع ذلك بإدخالها وترخيص استعمالها لتقرير ما إذا كان سيُتهم بالتجسس أو بالفساد أم لا.وينفي عبد النور إمكانية أن يكون هذا الضابط مرتبطاً برجل الأعمال رامي مخلوف الذي شن النظام حملة واسعة ضد كبار موظفيه والمقربين منه في مؤسسات النظام مؤخراً، عقب الخلاف الذي تفجر بين الطرفين خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وأدت إلى الحجز على أموال مخلوف وسحب إدارة شركة الاتصالات منه لصالح الحرس القضائي.ويرى عبد النور أن هذه الفرضية، التي تحدثت عنها أوساط سياسية وإعلامية في المعارضة، مستبعدة جداً، ويؤكد أنه لو كان لدى النظام أدنى شك بارتباط اللواء حسين بمخلوف، لما تردد في تصفيته فوراً، كما حصل مع اللواء محمد خلوف مدير كلية الإشارة العسكرية الذي تمت تصفيته في مقر عمله قبل أسبوعين، بسبب إتصاله مع رامي مخلوف للاطمئنان عليه، إثر انتشار شائعات تتحدث عن مقتل الأخير.يتداخل الفساد الاقتصادي والسياسي في ملفات النظام، وهي ظاهرة ليست وليدة السنوات الأخيرة في سوريا طبعاً، بل صفة لازمت العمل في مؤسسات الدولة منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، لكنها تنامت خلال الأعوام الماضية بشكل غير مسبوق، لدرجة أسهمت حتى في التأثير على نجاح جهود حلفاء النظام، وخاصة روسيا وإيران، لإنقاذه، وهو الأمر الذي كثيراً ما اشتكت منه طهران وموسكو، اللتان يُعتقد أنهما تقفان خلف الكشف عن ملف إدارة الاتصالات والضغط من أجل معالجة الأضرار التي تسبب بها لهما، سواء على الصعيد العسكري أو الاقتصادي.