لم يعد مجدياً تشريح أسباب الانهيار الذي يعيشه لبنان ولم يعد مجدياً تبادل التهم ورمي المسؤوليات، وبات الأهم اليوم البحث عن المخارج المتاحة لإنقاذه. ومع التأكد أن الحلول لانتشاله من هذا القعر السحيق لن تأتي من الداخل المشلع من جهة والمرتهن من جهة أخرى، أصبح ضرورياً التبصر في إشاحة نظر العالم عنه بدوله الغربية والعربية ورفضه حتى الاستماع إليه، في موقف غير مسبوق في تاريخ علاقاته الخارجية، ومحاولة فهم الأسباب التي تدفع بأصدقائه التاريخيين لمثل هذا السلوك، وربما… ربما محاولة الانكباب على معالجتها. ويتصدر لائحة هذه الأسباب علتان: التذاكي اللبناني والتكاذب اللبناني.منذ الاستقلال ولبنان يتعرض إلى خضات مصدر بعضها خارجي ومصدر الكثير منها داخلي، وشهد ثورات وحرباً أهلية وعاش تحت نير احتلالات ووصايات. وخلال عمره الفتي نسبياً في تاريخ الدول، تميّز شعبه ومسؤولوه بقدرتهم على التذاكي على العالم وإقناعه بجملة من الوقائع المزيفة وبيعه تسويات ما هي إلا تغليف للأزمات وتعليب لها، والأنكى، أنهم انتهوا بتصديق هذه التسويات على أنها حقائق وركائز وطنية وطيدة وأنهم توصلوا إلى حلول دائمة لمشاكلهم، فيما الواقع المفجع يقول أنْ لا تسويات حصلت ولا مشاكل حلت وكل ما جرى وما زال يجري هو بيع أوهام وعملية كذب وتكاذب متبادل. فاللبنانيون بارعون في «ترقيع» الأمور عبر تسويات غير ناضجة، يجترعونها لتحل المشكلة آنياً، وغالباً ما تُرحلها إلى زمن لاحق من منطق أن المستقبل قد يمكّن فريقاً ما من نقض تعهده والانقضاض على الآخر.وبلغ زهو التذاكي اللبناني بقدراته حداً جعله يستجلب الاحتلالات ويرتدي قبعاتها المتتالية معتقداً بخفة أنه يستطيع استخدامها لمصالحه الآنية وكأنها مرتزقة، ومؤمناً بنرجسية أن بمقدوره متى يشاء التخلص منها، متجاهلاً كل ما تستتبعه سلوكيات وذهنيات كهذه من تهشيم لمصالح البلاد العليا وسيادتها. وبفعل هذا التذاكي، قبل اللبناني بتسويات ظرفية هشة مبنية على موازين قوى سواء كانت محلية أو إقليمية أو دولية، ليعود لاحقاً وينقلب عليها.مسلسل الكذب والتكاذب بدأ مع شعارات تأسيسية كالعيش المشترك بين طوائفه وسمو الوحدة الوطنية بين مكوناته وقدسية الحرية والسيادة والنظام الجمهوري البرلماني الفريد من نوعه في المنطقة وسياسة لا شرق ولا غرب في علاقاته الخارجية. أثبت الواقع والتاريخ أن الفسيفساء الطائفية التي تغنى بها كنموذج يحتذى في انصهار مجموعاتها ضمن بوتقة الانتماء الوطني، ليست سوى وهم قائم على التكاذب. فالتعددية بقيت تعددية والطوائف بقيت طوائف، كل منها يغني على ليلاه وعلى أهبة الاستعداد للانقضاض على الآخر والاقتناص من حقوقه ومحاولة إلغائه، وبقي الوطن مسرحاً لحروب من فوق الطاولة أو من تحتها ضمن جماعات عجزت عن أن تصبح شعباً يكون انتماؤه الأسمى للوطن. وعن تقديس الحرية نستعيد قول رئيس الوزراء السابق سليم الحص: «في لبنان الكثير من الحريات والقليل من الديمقراطية»، بمعنى أن في لبنان فوضى عارمة سميناها حريات وفي لبنان ارتهانات خارجية بررناها بالطوق إلى الحرية. وصدقنا أن نظامنا جمهوري برلماني ليبرالي يختلف عن الأنظمة الاستبدادية المحيطة بنا، فيما الواقع يقول إنه بدلاً من مستبد واحد، عاثت في الأرض فساداً مجموعة من المستبدين يتربع كل منهم على عرش طائفته، ضاربين بعرض الحائط مفاهيم الجمهوري والبرلماني والليبرالي. أما لا شرق ولا غرب، فهنا الكذبة الكبرى وهنا يكمن مربط الفرس الذي منع قيام وطن ومواطنة، لأن اللبنانيين كانوا وما يزالون منقسمين حتى العظم بين انتماء غربي نُزعت عنه الحداثة الفكرية التي ميزت الغرب، وانتماء شرقي جذوره في أمجاد غاربة.وتواصل مسلسل التكاذب مع الحرب الأهلية التي سماها اللبنانيون حرب الآخرين على أرضه فيما هي حرب أهلية طائفية شكل القتل على الهوية سمتها المرعبة الأساس. واستمر مع وهم انتهائها ونحن اليوم بعد 25 عاماً على سكوت أصوات المدافع، لم تحصل أي مصالحة ومصارحة حقيقية ما يجعلها كامنة تتحين الفرصة لتنقض مجدداً. وتواصل مع اتفاق الطائف الذي بعناه للعالم على أنه الأساس الدستوري الذي سيبنى عليه الوطن الجديد وبعدها فعلنا كل شيء بالعلن وبالسر لعدم تطبيقه. بعنا للعالم حكومات الوحدة الوطنية وهي لم تكن سوى حكومات محاصصة، قلنا إننا سنعتمد سياسة النأي بالنفس عن النزاعات الإقليمية لا سيما النزاع السوري، لننغمس فيه بعد ذلك حتى أخمص قدمينا. رفعنا رايات الإصلاح وذهبنا بها إلى مؤتمرات دولية آخرها مؤتمر سيدر، ونحن ندرك أننا عاجزون عن الإصلاح لأنه لا توجد إرادة سياسية لإطلاقه، فكان هدفنا استدرار المال ليس إلا وتأخير الانهيار المحتوم. بعنا للعالم أننا مغلوبون على أمرنا بسلاح حزب الله «المقاوم» وأنه لا بد من أخذ وضعنا الاستثنائي بعين الاعتبار، ليتبين فيما بعد أن بعضنا ارتهن لهذا السلاح لتحقيق مصالحه مقدماً بذلك البلاد برمتها إلى الحزب ومحوره الإقليمي على طبق من ذهب. الحزب نفسه سوّق لنا وللعالم العربي أجمع أن سلاحه هو سلاح مقاومة وطنية مشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي ليتضح لاحقاً أنه سلاح إقليمي لتنفيذ أجندات إقليمية، ألقي ضد الاحتلال ورُفع في الداخل المحلي والداخل الإقليمي ذوداً عنها.وإذا كانت الكذبة الكبيرة هي في تسويق وجود سلطة مستقلة، فالكذبة الأكبر هي في تسويق وجود معارضة. فالموجود هو معارضات منقسمة على شاكلة المساحة الجغرافية التي نسميها الوطن، لعل الصراع بينها في هذه المرحلة المصيرية أشد إيلاماً من سوء السلطة وحزبها الحاكم. حتى انتفاضة 17 تشرين تبين أن توصيف شعبية كبير عليها كما توصيف أنها عابرة للطوائف والمناطق، كما شعار «كلن يعني كلن». فحتى الانتفاضة تراوغ وتعتمد نهج التكاذب عندما تصر على عدم وضع الإصبع على الجرح وتختبئ تحت مظلة الاحتجاج المطلبي.كذبنا كثيراً وصدقَنا العالم الغربي والعربي كثيراً وصبر علينا كثيراً ومد لنا يد العون كثيراً، حتى تعب منا ومن مراوغاتنا. نخطئ إذا اعتقدنا اليوم أنه بإمكاننا الذهاب إلى الغرب وصندوق النقد الدولي والدول العربية طلباً للمساعدة ونحن مقتنعون أنهم سيصدقون مرة أخرى أننا نملك رؤى ومشاريع وحلولاً وتسويات حقيقية، أو أن الحكومة هي حقاً مستقلة كما السيادة ناجزة والحدود مصونة. في البلد قوى سياسية رئيسية مقتنعة أنها قادرة على المضي في التكاذب والابتسامات البلهاء، والمراهنة على تسويات فاسدة وفاقدة الصلاحية. وإيقافاً لمسلسل التكاذب هذا، نترفع عن الإشارة إلى أن لبنان بحاجة اليوم إلى محاور جدي يتمتع بصدقية يحمل إلى المحافل الدولية حلولاً يمليها الضمير الوطني.ما تشهده الساحة اللبنانية اليوم من تشلع في صفوف السلطة الحاكمة وفي صفوف المعارضة وفي صفوف المنتفضين، يكشف علناً للعالم ما حاولنا لعقود ستره وهو أننا لم ننجح يوماً في بناء وطن. العالم يشيح نظره عنا ولا يرانا لأننا ببساطة جعلنا من أنفسنا كذبة كبيرة، والكذبة بتعريفها هي اللاموجود. لكل ذلك بتنا وحدنا، وقد يكون تراكم خيبات الدول من أدائنا ووعودنا غير المحققة وتخلفنا عن ترجمة أقوالنا أفعالاً أفقدانا طوق النجاة المنتظر.