• الإثنين , 25 نوفمبر 2024

سجن الحسكة والاستثمار في الرعب… من النظام إلى “قسد”

بشير البكر

العربي الجديد:30/1/2022

يبعد سجن الحسكة المركزي عن بيتنا، أقل من كيلومتر واحد، كنا نسمع الغناء في الليالي يأتي من أحد العنابر التي تطلّ على الوادي الفاصل بين حيّنا وبين السجن، الذي يقع على تلة صغيرة، هي آخر الحدود الغربية لحي غويران الكبير نسبياً.وكان يصل عدد سكان حي غويران في أوائل سبعينيات القرن الماضي، إلى حوالي ألفي عائلة. سكنت الحي في المدينة التي تشكلت في الثلاثينيات حول ضفتي نهر الخابور، وكانت البيوت الأولى فيها تعود إلى عائلات مسيحية قدمت من ماردين بعد إلحاقها بتركيا بموجب اتفاق فرنسي تركي، وإلى بعض شيوخ العشائر الأغنياء، مثل عبد العزيز المسلط وحمود العلي الخليف وحمود العليوي.

عرفنا لاحقاً، أن صاحب الصوت الشجي شاب من ريف الحسكة، سجين محكوم بالمؤبد بسبب جريمة قتل.وحين أخذتنا المدرسة الإعدادية في زيارة للسجن من أجل القيام بنشاطات لمساعدة السجناء، التقينا ذلك الشاب الذي كان قد مضى على وجوده خلف القضبان عدة أعوام، وكان لديه أمل بصدور عفو بعد أن يمضي محكومية الحق العام، وتحصل مصالحة عشائرية مع أهل الضحية، ليخرج ويتزوج ابنة عمه التي تنتظره، وهذا ما حصل.

تتشكل مدينة الحسكة من غالبية عربية من أصول ريفية فلاحية تنتمي إلى قبائل الجبور والبكارة وأولاد الشيخ عيسى وزبيد وشمر وطي، ومكونات أخرى من الأكراد والطوائف المسيحية من السريان والأرمن والآشوريين.

وتطورت المدينة بسرعة بالاعتماد على مواردها، المتمثلة بزراعة الحبوب والقطن، فضلاً عن النفط الذي بدأ استثماره في نهاية الستينيات.وبفضل نسيجها الاجتماعي المتنوع، وازدهار حركة التعليم، كانت بعيدة عن التطرف، واقتصرت الحركات السياسية فيها على البعث والشيوعيين والناصريين.

سجن غويران في الحسكة

وعلى الرغم من أن حي غويران مفتوح من ناحية الشرق على بر المدينة وغير مكتظ بالسكان، فإن فكرة وجود السجن هناك ظلّت تشكل حالة عدم ارتياح، وجرت عدة تحركات أهلية تطالب بنقله إلى خارج المدينة، وتحويل البناء إلى جامعة لمنطقة الجزيرة التي تفتقر إلى مرفق تعليمي من هذا القبيل.

وكونه السجن الوحيد في عموم المحافظة التي تزيد مساحتها (23 ألف كيلومتر مربع) على ضعفي مساحة لبنان، فقد اعتبره النظام أحد الإنجازات التي حصلت خلال الوحدة السورية المصرية، واحتفظ به كما هو من دون أن يقوم بتوسيعه ليواكب النمو السكاني للمدينة.

ولم يُعرف أن السجن استقبل معتقلين سياسيين حتى في أوج حملات الاعتقالات التي شهدتها سورية في الثمانينيات من القرن الماضي، خلال المواجهات بين النظام والإخوان المسلمين، وكانت المدينة بعيدة عنها.

وكي يسهل على النظام نهب منطقة الجزيرة اقتصادياً، بالتوازي مع عدم الاهتمام بتنميتها، فإنه أوجد تهمة جاهزة لكل من يصعب تصنيفه سياسياً، وهي الانتماء إلى حزب البعث الجناح العراقي.

وبذلك، وظّف النظام التقاطعات الاجتماعية والثقافية بين تلك المناطق والعراق سياسياً، واستعملها كسلاح ترهيب، وخصوصاً خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، التي ساند فيها إيران ضد العراق إلى حد تزويدها بالسلاح.بقي سجن الحسكة المركزي رمزاً للخوف، وليس مصادفة اختيار مكان البناء فوق تل يطل على المدينة.

وهو عبارة عن ثلاثة طوابق بخمسة اتجاهات، تضم كل زنزانة من زنازينه 39 سريراً، كل ثلاثة منها مكدسة فوق بعضها، ومزوّد بكاميرات للمراقبة.وعلى الرغم من أن النظام لم يستخدمه لاحتجاز الخطرين من أعدائه الذين كان ينقلهم إلى دمشق، فإنه جعله يحتفظ بحضوره الرمزي، فهو أول بناء حديث يتكوّن من طوابق في المدينة، ويفوق الثكنة العسكرية حجماً وتجهيزاً.ويتجاوز عدد عناصر الأمن المرابطين في السجن، عدد قوات الجيش المكلفة بحراسة المدينة، التي تشكل مثلث الحدود السورية العراقية التركية، ولا تبعد عن الحدود السورية التركية أكثر من 60 كيلومتراً.

وكان أول استخدام سياسي لسجن الحسكة على نحو واسع، هو لاحتجاز المعتقلين الأكراد في التسعينيات، ومن ثمّ في الانتفاضة الكردية ضد النظام عام 2004.انتقال السجن من النظام السوري إلى “قسد”وانتزع الأكراد السجن من يد النظام في عام 2011، وسيطر عليه تنظيم “داعش” عام 2015، وبعدها انتزعته “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) في 2016، لتحوله إلى مقر احتجاز خاص بعناصر التنظيم.

وحين فاض عدد المعتقلين عن طاقته الاستيعابية، قامت “قسد” بإضافة المدرسة الصناعية القريبة، التي أصبح اسمها “فرع سجن الحسكة المركزي”، لتستخدمها اعتباراً من عام 2018، كمركز احتجاز لمعتقلي تنظيم “داعش” من السوريين، وقد قدمت الولايات المتحدة 750 ألف دولار لتجديده، ليضم ألف معتقل.ونقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن مأمور السجن، عدنان علي، في يوليو/ تموز 2018، قوله إنه لا يريد أن يكون سجن الحسكة “مدرسة للإرهابيين”.

ووعد بأنه سيعامل المساجين كـ”بشر”، على عكس سجون “داعش” والنظام السوري، وسيسمح لهم بارتداء الملابس العادية، وسيحصلون على الكتب وسيشاهدون التلفزيون، وبإمكان عائلات السجناء السوريين زيارتهم.

ولكن بعد توجيه الضربة القاضية لـ”داعش” في بلدة الباغوز، في مارس/آذار 2019، واستسلام الآلاف من مقاتلي التنظيم، تحوّل “سجن الصناعة” إلى واحد من عدة سجون أهلتها “قسد” بالتفاهم مع الولايات المتحدة لاستقبال مقاتلي “داعش”، وقد ضم حوالي 5 آلاف سجين، العدد الأكبر منهم من المقاتلين الأجانب من الدرجة الثالثة.وسرعان ما برزت أهم مشكلة في هذا السجن، وهي عدم قدرة “قسد” على ضبط ومراقبة الوضع، في بناء مغلق الأبواب والممرات.

وتكمن الخطورة في تجميع العشرات وأحياناً المئات من عناصر التنظيم داخل المهجع الواحد، ما يتيح لهم إعادة ترتيب أوضاعهم.وتبيّن أن ضعف البنى التحتية للسجون في المنطقة عموماً، يشكّل خطراً لناحية كيفية السيطرة على عناصر التنظيم، كونهم محتجزين على شكل كتل كبيرة وضخمة، سواء في مخيم الهول أو في السجون التي هي بالأساس مدارس تم تحويلها إلى مراكز احتجاز.استثمار “قسد” لملف معتقلي “داعش”وبدت المشكلة مركبة في حينه؛ “قسد” تعمل على الاستثمار السياسي في ملف عناصر التنظيم المعتقلين لديها، وهم بالآلاف من السوريين والأجانب، بينما تتهرب معظم الدول، وبالأخص الأوروبية، من استرداد مواطنيها المحتجزين.

وقد جرى طرح المحاكمة كحل، ولكنها استثنت الأجانب وتركزت على العناصر السوريين، المقدر عددهم في حينه بتسعة آلاف.وكان في وسع “قسد” فرض أحكام على هؤلاء، ومعالجة قضاياهم وفق القوانين السورية، وقوانين ما يسمى بالعقد الاجتماعي لـ”الإدارة الذاتية” الذي جرى النظر إليه كباب من أجل تقليل عدد المعتقلين لديها والتخلص من الاكتظاظ.

ومن أجل تخفيف الاحتقان الاجتماعي في المنطقة، قامت “قسد” بإطلاق سراح المئات من عناصر التنظيم من السوريين من محافظات شمال شرق سورية، بناءً على تدخل شخصيات عشائرية في أغلب الحالات.أما بالنسبة لعناصر التنظيم الأجانب، والبالغ عددهم ما يقارب ثلاثة آلاف عنصر، فقد ظلّ من المستبعد محاكمتهم من طرف “الإدارة الذاتية”، لأسباب عدة، منها الإبقاء على وضعهم معلقاً للاستفادة منهم في أي عملية تسليم مستقبلية.

والاستفادة في أغلب الأحيان تتمثّل بشكل من أشكال الاعتراف بـ”الادارة الذاتية”، وقد تجلى هذا في الثناء الذي لاقته “قسد” بعد تصديها للتمرد الأخير في سجن الصناعة.وعلى الرغم من وقوع عدد كبير من الضحايا في صفوف الطرفين، فإن قمع تحرك سجناء “داعش” هو الذي أخذته الولايات المتحدة ودول أوروبا بعين الاعتبار.وساهم في إبقاء هؤلاء السجناء كورقة ضغط بيد “قسد”، تعذر محاكمتهم لأنهم مواطنو دول في أغلبها أوروبية. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، استفادت “قسد” من هذه الورقة حين فرّت مجموعات من هؤلاء من سجن تابع لها في منطقة “عين عيسى” خلال عملية “نبع السلام” التركية.

وإلى اليوم، لم تستعد سوى بضع دول بعض مواطنيها من مقاتلي التنظيم أو منتسبيه وعوائلهم، ومنها أوزبكستان وكازاخستان والولايات المتحدة الأميركية وروسيا وبلجيكا وفرنسا وهولندا.في الأثناء، احتفظت “قسد” بالسرية حول سجونها، واكتفت بالترويج لاتباعها “المعايير الإنسانية” في مراكزها ومخيماتها، مشيرة إلى العبء الكبير الذي تمثله الأعداد الكبيرة للمحتجزين، التي باتت تتراوح ما بين 10 إلى 12 ألفاً، بينهم نحو ألفي سجين أجنبي من نحو 50 دولة مختلفة، وأربعة آلاف سجين عراقي، بينما أودعت عائلات التنظيم في عشرة مخيمات، ضمن أوضاع إنسانية متردية، أثارت انتقاد هيئات حقوقية وإنسانية عدة.

ومن هذه المخيمات، مخيم الهول في ريف الحسكة، الذي يضم الكتلة الأكبر من عوائل التنظيم، ويوجد فيه نحو 12 ألف شخص من نحو 50 دولة في العالم، يتوزعون بين ثمانية آلاف طفل يشكلون قنبلة موقوتة، وأربعة آلاف امرأة، وفق تصريحات سابقة لكمال عاكف، المتحدث الرسمي باسم مكتب العلاقات الخارجية في “الإدارة الذاتية”، التي تدير شؤون المخيم.وبلغ عدد الأطفال والنساء الذين سُلّموا إلى دولهم نسبة 3 في المائة من العدد الكلي للموجودين.

هناك وضع متفجر في غالبية السجون وأماكن الاحتجاز الواقعة تحت سيطرة “قسد”، وقد شهد سجن الحسكة في السابق تحركات تمردية عدة كانت أبرزها تلك التي جرت نهاية مارس 2020، والتي سبقتها ثلاث محاولات استعصاء في الشهر الذي سبقه.

ولكن الهبة الأخيرة في العشرين من الشهر الحالي، تظلّ الأخطر، لجهة النتائج المباشرة والتداعيات السياسية، خصوصاً مع وجود هذه السجون المكتظة بالإرهابيين في وسط أحياء سكانية ذات أغلبية عربية، تدفع الثمن كلما تحصل حركة تمرد.وهو ما جرى خلال أسبوع الاشتباكات في الأحياء المحيطة بسجن الصناعة، ما ألحق دماراً كبيراً بالبيوت، ونزوح عدة آلاف وسقوط ضحايا بين المدنيين، وحصول تجاوزات من مقاتلي “قسد”.

مقالات ذات صلة

USA