هؤلاء الذين لا ينتمون إلى أكثرية، ولكن لا يرون أنفسهم أقلية، وهؤلاء المظلومون الذين تحرّروا من السياجات المنهجية للمظلومية، فتمكّنوا من التفكير خارج أسوارها، وهؤلاء القلقون الذين يبحثون عن الطمأنينة في الوطن، وفي المشاركة الفعالة في ابتكاره، فلا يحتاجون إلى من يُطمئنهم، وهؤلاء الذين ما زالوا يُولُون التفكيرَ أهميتَه، فيتعبون في إنتاج آليات ومعارف ومنهجيات سابقة على القول والفعل، وهؤلاء الذين لا يحتاجون إلى الانتظار إلى آخر النهار، ليقولوا لأطفالهم إن الشمس تغيب في الغرب، هؤلاء كلهم لن يجدوا في هذا المقال ما يرضيهم وما يضيف لهم جديدًا. وإلى غير هؤلاء يتوجه هذا المقال.أذكر أن سياسيًا سوريًا كرديًا أراد مجاملتي، بعدما أعجبته وجهة نظري في ندوةٍ حول القضية الكردية أقيمت السنة الماضية، فاقترب وقال بحماسةٍ إنه يحترم الدروز. رأيت في كلامه توددًا واضحًا، ولكنني شعرت بالاستياء من سوء طريقة تعبيره وطريقة تفكيره، ولكنني لم أحاول بخس مساعيه في المجاملة وفق فهمه، ولم أجد من المناسب نسف طريقة بنائه هذه المجاملة، على الرغم من سهولة ذلك، واكتفيت بابتسامة.. ولكنه أضاف إنه يؤيد “حق الدروز في تقرير مصيرهم أيضًا”. وكانت كلمة “أيضًا” تفيد ضمنيًا بتأييده حق السوريين الأكراد في تقرير مصيرهم بديهيًا. والحقيقة لا يمكن أن نكون مؤمنين بالديمقراطية إلا إذا قبلنا بمبدأ حق تقرير المصير، ولكن صاحبنا بدا أنه مُفرطٌ في ديمقراطيته، إفراطٌ قاده إلى رؤية مصيرين مختلفين، ومن ثم تأييد حق تقرير المصيريْن الاثنين كل على حدة، فلكلٍ من الجماعتين السوريتين، وفق فرضيته، مصيرٌ مختلف عن الأخرى. ومن الممكن تتبع بعض الأصوات الانعزالية في السويداء التي تشبه مقاربة صاحبنا، ومنها مثلًا خطاب “النأي بالنفس” عما يدور في سورية، ومبدأ حماية الجماعة وعدم التدخل في السياسة، وصولًا إلى طروحاتٍ غريبةٍ عجيبة، منها استقلال السويداء مثلًا. الإيمان بأن مصير السوريين واحد مشترك هو آلية التفكير ومنطق العقل السليم في بناء آلية تقريرٍ لمصيرٍ آمن وسعيديمكن للمرء أن يتفق مع هؤلاء جميعًا على مبدأ تقرير المصير، ولكن لنتركه جانبًا، ونتكلم عن قليلٍ يسيرٍ من التفكير قبل تقرير المصير: أي نضع الآلية التي يتم بموجبها تقرير هذا المصير موضع تفكيرٍ ومقاربة .. بجملةٍ أخرى، نضع السؤال الآتي، قبل الكلام في تقرير المصير: كيف يُقَرَّر المصير، وما هي آليات التفكير اللازمة للوصول إلى التقرير السليم؟ وفي سبيل ذلك، يُساق هنا مثالان أنموذجيان لمصيرين قد تقرّرا وتحددا سلفًا، على أمل أن تعيهما الزمرة التي يخاطبها هذا المقال، وتجد فيهما شيئًا من العبرة التي تحتاجها، وهي تقرّر لمستقبلها كما تتمنى. المثال الأول لضابطٍ شابٍ درزي في الجيش الإسرائيلي اسمه شادي زيدان، وهو شخص حسم خياره في خدمة المعتدي، صاحب الأيديولوجية الدينية اليهودية، وكان يقول إنه يعتبر إسرائيل وطنه. كان شادي يفخر بحالته هذه، كما يفخر الشبيح السوري بسلاحٍ إيراني، وظلت هذه الحاله مصدر فخره، وربما توازنه الذاتي أيضًا، حتى مصادقة الكنيست الإسرائيلي على قانون القومية اليهودية في 18/07/2018، وهو قانون كرَّس يهودية الدولة، ومنح اليهود وحدهم حق تقرير المصير في إسرائيل. وبموجب القانون، فإن “الهجرة التي تؤدي إلى المواطنة المباشرة هي لليهود فقط”، و”تنفتح الدولة أمام قدوم اليهود ولم الشتات”، و”تفقد اللغة العربية مكانتها الرسمية”. وعندها أعلن شادي التوقف عن تحية علم دولة إسرائيل اعتراضًا على هذا القانون، وكتب على “تويتر” تغريدة: “إلى اليوم وقفت أمام علم الدولة بفخرٍ وحييته، إلى اليوم كنت متأكدًا أن هذا الوطن هو وطني، وأنني متساوٍ مع الآخرين، أعطيت الدولة كل شيء. وفي النهاية، أصبحت مواطنًا من الدرجة الثانية”. أي خيبةٍ وحسرة وندم، واكتشاف لحجم الكارثة في أن يقدّم المرء روحه ودمه فداءً لمن يَنظر إليه “مواطنًا من الدرجة الثانية؟”.تتطابق هذه الحسرة في قلب هذا الجندي، أو هذه الحقيقة التجريبية التي وصل إليها، مع الحقيقة النظرية التي تفيد بأن إرضاء القلق الأقلوي بالاستقواء بالأجنبي غباءٌ لا يوصِل إلا إلى مصير شادي: أي خيبةٍ وحسرة وندم، واكتشاف لحجم الكارثة في أن يقدّم المرء روحه ودمه فداءً لمن يَنظر إليه “مواطنًا من الدرجة الثانية”. وكأننا اليوم في سورية أمام جيش أفراده كلهم على شاكلة شادي، يحرقون البلد ويقاتلون و”يشبّحون” مع نظام الطغمة الذي بات يعمل لخدمة الأجنبي، الإيراني والروسي وإلى ما هنالك. ويكفي أن ننظر في وجوه شبّيحة السويداء الذين اعتدوا بالضرب المبرّح على تظاهرات السويداء أخيرا على سبيل المثال، لنعرف الخيبة والحسرة التي تنتظرهم. يكفي أن ننظر إلى مجموعات الزعران تستقوي بالسلاح على الحواجز، وتخطف وتسرق وتنهب بيوت المعارضين، كما سرقت إسرائيل بيوت الفلسطينيين، لندرك أنهم يسيرون إلى خيبة وانحدار وحسرة وندم. وبالمناسبة مصير شادي هذا هو أفضل المصائر الممكنة. والمثال الثاني معاكسٌ لمثال شادي شكلًا، ومتطابقٌ معه جوهرًا، فلقد أراد الفدائي سمير القنطار أن يستمر في المقاومة بعد تحريره من سجنه في إسرائيل، فقرّر أن يصبح جنديًا تقوده قوة إيرانية أجنبية أيضًا، ويقاتل مع النظام وإيران في سورية ضد السوريين، ولكنه لم يندم، ولم يختبر مشاعر الخيبة والحسرة مثل شادي، بل مات في مهمّة يسمونها “جهادا مقدّسا”، وهي في سورية وليست في إسرائيل.إن لم تكن آلية التقرير مستندةً إلى الخيار الوطني العقلاني، بوصفه البوصلة والطريق الضامن للبقاء، والخيار النفعي الذي يحقق الرفاه والسلام والسعادة، ستكون طريقًا مُجرّبةً إلى الخيبة والندم في أحسن الأحوال، وبين حسرة شادي وموت سمير مساحةٌ كافية للتفكير، والهدوء، والتمعّن في منزلةٍ أخلاقية بين المنزلتين، وفي خيارٍ بين الخيارين، ففي النهايتين، درسٌ أنموذجي في آلية التفكير قبل تقرير المصير، فإن لم تكن آلية التقرير مستندةً إلى الخيار الوطني العقلاني، بوصفه البوصلة والطريق الضامن للبقاء، والخيار النفعي الذي يحقق الرفاه والسلام والسعادة، ستكون طريقًا مُجرّبةً إلى الخيبة والندم في أحسن الأحوال، وإلى الموت قبل الأوان في غالبية الأحوال. لذلك، وببساطة، من يقاتل مع إيران، أو مع روسيا، أو مع أميركا، أو مع تركيا، أو مع قنديل (أكراد حزب العمال الكردستاني)، أو من يراهن على أي أجنبي لن يهتدي إلى طريقةٍ لتقرير مصيرٍ آمنٍ وسعيد، كائنًا من كان هذا المقاتل أو السياسي (لأن السياسةَ نوعٌ فتَّاكُ من القتال أيضًا)، وأيًا كان انتماؤه: درزيًا أو علويًا أو سنيًا أو كرديًا أو أي انتماء، يمكن أن نقول له: ليس عليك الانتظار إلى آخر النهار لتدرك أين ستغيب شمسك، ولتدرك بئس المصير. فقد ضاع شادي ومات سمير، وكانا مثاليْن أنموذجيْن فاقعيْن للمصير البائس الواضح والمُجرّب والمحقق لمن يرى ويعتبر. وكان بين ضياع الأول وموت الثاني خيار آخر للسكينة والجمال والحياة، كان خيار الأحرار؛ فمن يقاوم هم الأحرار، وهم من يتعبون ليجدوا لأنفسهم موضعًا في فضاءٍ وطني، فيُنجزوا بموجبه شرط الكرامة والسعادة، ومن ثم شرط الإنسانية.واليوم، وبعد كل الذي كان، يبقى الإيمان بأن مصير السوريين واحد مشترك هو آلية التفكير ومنطق العقل السليم في بناء آلية تقريرٍ لمصيرٍ آمن وسعيد. ويبقى مصير كل الجماعات مرتبطا بمصير السوريين المشترك، فلا يبدأ تقرير مصير أي جماعةٍ إلا بعد تقرير هذا المصير المشترك، ويومها فقط يستوي الكلام فيه، لأن شرطه الموضوعي يكون قد تحقق. هذا بالطبع إن بقي له من يؤيده من هذه الجماعة عند تحقق هذا الشرط، فتحقق هذا الشرط سيكون ضمانًا للجميع. من دون القناعة بالوطن، والاستقواء به، تبقى الجماعات مُضطربة، والمضطربون غير مؤهلين لتقرير مصير آمنٍ يرضيهم ويضمن السعادة لأولادهم من بعدهم، لذلك ليهدأوا ولتطمئن قلوبهم ولنبني سورية ديمقراطية للجميع، وبعدها ليكن لكل حادثٍ حديث