ياسين الحاج صالح
قد يتعذر تجريد وضعٍ أو علاقةٍ أساسية تتكثف فيها ممارسة الشر، وتُشتق أشكال الشر الأخرى منها. لكن التعذيب يصلح منطلقاً لدراسة الشر بقدر يفوق غيره مما يمكن أن نتفق على أنها ممارسات شريرة. هذا لأنه إذا كان الشر هو الإيذاء، إلحاق الأذى بغيرنا، فإن التعذيب شكل متعمّد وصبور من الإيذاء، تتكرس فيه طاقة ووقت وعاطفة لإيلام الغير. لا يحدث التعذيب عفوَ الخاطر، فهو أذى متروى فيه، مُفكَّر به، مُخطط له، إبداعي على ما تسجل عبارة فنون التعذيب، وما يصادق عليه تاريخ التعذيب عبر العصور1. التعذيب شر أساسي من حيث أنه إبداع في الأذى، تخصيص أفضل ما في الإنسان، قدراته الخلاقة، لخدمة أسوأ ما فيه، تحطيم غيره من الناس. القتل أسوأ من التعذيب من حيث أنه غير عكوس، لكن القتل يمكن أن يحدث بأثر «حماوة الدم»، بدون تفكير وتدبُّر، فيما يقتضي التعذيب فكراً من الجلادين و«عذاباً»، ويمكنه أن يكون عملاً مُضنياً. ثم إن القتل، لأنه غير عكوس، لا يمكن أن يكون موضع تذكر ممن يُقتلون، يذهبون وتذهب قصة لحظاتهم الأخيرة معهم. التعذيب لا يحدث تحت وطأة انفعال حاد، تصعب السيطرة عليه. وهو قد ينتهي بالقتل أو لا ينتهي، لكنه في كل حال شغل مرهق على جسد شخص آخر، مقترن بالكره وبتوتر في النفس والجسم. وهو، خلافاً للقتل، موضعُ تَذكُّر لمن تعرضوا له (وليس دوماً لمن أوقعوه، على الأرجح لأنه من ممارساتهم الاعتيادية). أي أن التعذيب يبقى معنا، في النفس وفي المجتمع، وفي العالم. وفي حين لا يزال القتل حكماً قضائياً ممكناً، جزاءاً على بعض الجرائم في دول كثيرة، فإنه لا يبدو أن هناك أحكام قضائية بالتعذيب في أي مكان في العالم المعاصر. وليس التعذيب من وجه آخر أي شكل من العنف الجسدي، صفعة أو لكمة أو ركلة…، مما كان شائعاً في الأُسر والمدارس والمعسكرات، وقد يحدث بدوره بأثر الغضب أو الانفعال، ولا يزال يمارس بمقادير متفاوتة هنا وهناك. في التعذيب هناك وسائل تعذيب، وهناك ترتيب لمسرح تعذيب وفن في ممارسته، وهناك سلطة تقرر التعذيب فتشرِّعه في عين ممارسيه. ليس هناك تعذيب بلا قصد أو بدون نية مسبقة، أو يمارس كـ «أخطاء فردية»، دون قرار أعلى. قد يتحول التعذيب إلى روتين كما في سورية، لكن هناك نية تعذيب أصلية يقوم عليها النظام، وهي مترسخة في بنية تعذيب تتخلل البلد، هي أجهزته الأمنية. تعمل هذه المناقشة على الجمع بين التحليل النظري والتجربة السورية، بين النظر في بنية علاقة التعذيب وبين السياسة التي تقوم عليه في بلدنا، على نحو يؤمل أن «يوضِّع» التحليل أو يدرجه في سياق عيني، ويعمل في الوقت نفسه على إدراج التجربة السورية في سياق إنساني أوسع. التعذيب وأشكاله ما الذي يجري في التعذيب؟ وما التعذيب أصلاً؟ في أبسط صوره، هو عنف متروى فيه، يوقعه شخص أو مجموعة على شخص آخر، ملحقين به الألم، سعياً لتحقيق غرض ما. سيجري لاحقاً اقتراح تصور لـ«تعذيب المجتمع»، لكن التعذيب مبدئيأ ممارسةٌ تُفرِّد، تعزل الفرد عن غيره وتحبسه في جسده أو تختزله إلى جسد. تجري محاصرتنا في جلدنا الذي هو حدود كياننا الفيزيائي، ونقع تحت خطر انهياره وانهيارنا. نفسياً، يتقابل في التعذيب خوف من جهة من يجري تعذيبه، وكراهية من جهة المعذِّبين، تُسهِّل لهم إيلام ضحيتهم وإيذائه. وليس التعذيب عقاباً جسدياً معلوم المقدار سلفاً من قبل من يتعرض له. على أن هناك ممارسات تعذيبية معروفة المقدار، منها «الحدود» في الإسلام، حيث يعاقب من قاموا بفعل معين، شرب الخمر مثلاً، أو «زنا غير المحصنين»، بعدد مقرر سلفاً من الجلدات. هذا تعذيب عقابي، صنف التعذيب الذي يمكن أن يكون محدوداً ومعلوم الحدود. أشكال التعذيب الأخرى التي عرفناها في سورية، الاستجوابي والإذلالي والإبادي 2، ليس لها حد معلوم، وفيها يتحالف الألم الذي يوقعه الجلادون مع الخوف على الحياة الذي يثيره حتماً تعذيب لا يُعرف أين يقف، ولا ما إذا كان سيقف أصلاً. إذ ليس مضموناً بحال أن يقف التعذيب عند حدود الاحتمال الجسدي لمن يجري تعذيبه، والجلاد أخبرُ بهذا الشأن من المجلود بحكم تمرّس الأول بالأجساد المجلودة. في كل حال ليس هناك مقدار معلوم مسبقاً للتعذيب، ولا حد زمني أقصى. عجز المعذَّب عن التنبؤ هو عنصر جوهري في تعذيبنا السوري بكل أشكاله، بما فيها العقابي. ليس هناك «تسعيرة» محددة للمخالفات في سجن تدمر أو أي من السجون السورية (ليس هناك تعريف معلوم لما يمكن أن يكون مخالفة أصلاً). الأمر «عرفي»، مثل «الاعتقال العرفي» ذاته الذي لا يعلم ضحاياه متى قد ينتهي. وهو في النهاية يحيل إلى موازين قوى اجتماعية وسياسية فاحشة الاختلال، تتصرف فيها وكالة التعذيب العامة، الدولة، كمالكة لأجساد وحيوات من يجري تعذيبهم، وعموم السكان. في التعذيب الاستجوابي أو التحقيقي، مثلما نعرفه في سنوات الحكم الأسدي، ربما ينتهي التعذيب بـ«اعتراف» المعذَّب إن اقتنع المُعذِّبون باعترافه. وهو ما يترك الأمر مفتوحاً، لأن اقتناع القائمين بالتعذيب ليس مسألة نقاش حر، بل هو قرار كيفي وأحادي الجانب من طرفهم. هذا لا يلغي حتماً مساحة مناورة متفاوتة الاتساع، يمكن لمن يجري تعذيبه أن يتحرك ضمنها، وربما ينجح في خداع جلاديه. والواقع أن هذا ما يحصل طوال الوقت، فالتعذيب علاقة عدم ثقة جوهرية، والضحية إما يقلل إلى أقصى حد من قول ما لا يعرفه الجلاد، أو يقول ما يريده الجلاد وليس الحقيقة كي يتوقف تعذيبه. وهو ما يكفي للقول إن التعذيب ليس منهج «تحقيق» مثمر. إنه منهج تزوير، تعذيب للحقيقة ذاتها 3. والتعذيب الإبادي هو استباحة كاملة مفتوحة على القتل، وإن لم تنته حتماً به. المهم هنا هو أن موت المعذَّب ليس ذا قيمة، وأن بقاءه على قيد الحياة وموته سيّان. وليس التعذيب الإذلالي من الصنف الذي كان يُمارس في جيلنا في سجن تدمر «مُنزهاً من الغرض» مثل التأمل الجمالي عند كانط، أو هو من صنف «التعذيب للتعذيب»، على ما كان بدا لي في غير تناول سابق 4. فمن أغراضه التحطيم النفسي والسياسي، ومنها أيضاً صنع ذاكرة ومنعكسات مناسبة عند الضحية، تجعله «يتوب» و«يطيع». الغرض باختصار توطين خبرة الذل في نفس من يتعرض لهذا التعذيب على نحو ينهاه عن العصيان. أي أنه تعذيب ردعي. من المهم عند هذه النقطة توضيح أنه في حين أن التعذيب مُذلٌ في كل حال، وأن الإذلال عنصر مكون للتعذيب دوماً، فإنه ليس كل تعذيب من الصنف الإذلالي. ثمة إذلال في التعذيب الاستجوابي والتعذيب الإبادي، وفي التعذيب العقابي كذلك 5، لكن نخص بعبارة التعذيب الإذلالي التعذيب الذي يستهدف صنع ذاكرة أو «تلقين درس لا ينسى». ولعل تأصُّل الصفة المُذلة للتعذيب تشرح قلة وصف التعذيب على يد من تعرضوا له مباشرة، وهذه ملاحظة يوردها بدرايك كني، أستاذ التاريخ الأميركي البولوني، وإن كان بحثه يقترح له تفسيراً استحالة وصف التعذيب 6. أُقدِّرُ أن للصفة المذلة والمؤلمة لهذا التذكر الدور الأكبر. تعافينا النفسي من تجربة الانكشاف، والرضة القاسية التي نخبرها في التعذيب، رهنٌ بأن نعمل على نسيانها أو دفنها في أعماق أنفسنا. قد نتكلم على تعذيب تعرضنا له في سياق بناء قضية عامة ضد وكالة التعذيب، الدولة ومن تشبّه بها، لكن التقرير المفصل يشبه أن ننكأ بأنفسنا جرحاً احتجنا إلى طاقة ووقت كي يندمل.بنية علاقة التعذيب جوهر علاقة التعذيب هو تحطم الرابطة الإنسانية، أو خروج طرفي العلاقة منها. خروج المعذِّب بأن يرتفع فوق مرتبة الإنسان، يوقِع الألم، ويُخرِج جسد المعذب من التماثل مع جسده هو، فيعطل عملية التماهي بينهما، وهو ما يحرره (المعذِّب) حيال المعذَّب، فيكون سيد قراره في أن يتركه حياً أو يقتله. هذا التحكم بالحياة والموت هو أعلى ذرى السيادة، ضرب من التألّه7. ومن جهته ينحدر المعذَّب دون الإنسانية، يفقد التحكم بنفسه التي تجنح في أوقات التعذيب إلى أن تطابق جسده، و«الجسد يساوي الألم الذي يساوي الموت»، بحسب جان آمري 8. يزول التماهي كلما أمعن ممارسو التعذيب في ممارستهم، وكلما ترسخ التعذيب كعلاقة اجتماعية. وكما قد نتوقع، تجنح العلاقات الاجتماعية لأن تصير علاقات سيادة وتبعية حيث يسود التعذيب، ويزول المجتمع بالذات لمصلحة جماعات منغلقة بمقادير متفاوتة. مآل علاقة التعذيب تَقَابُلُ آلهةٍ بأشياء، وليس بشر ببشر. فالشخص المختزَل إلى جسد محاصَر متألم هو موضوع لقوة تعمل على تحويله إلى شيء، حسبما عرّفت سيمون فيل القوة. تقول فيل إن القوة تحوّل من تطاله إلى شيء، وحين تبلغ حدها الأقصى تحول الإنسان إلى شيء بالمعنى الحرفي للكلمة: جثة 9. وبقدر ما إن التعذيب ممارسة للقوة على الأجساد مباشرة، يتجسد فيها زوال التساوي الإنساني المبدئي، والتماهي الذي يقوم عليه، فإنه بهذا بالذات يصلح تعريفاً للشر. نتحدث عن شر أساسي حين تتنقل العلاقة بين الناس إلى علاقة بين بشر ولا بشر، أو بين بشر وأشياء. أو لنقل إنه إذا عَرَّفنا الشر بنزع الإنسانية، على ما فعلت حنه آرندت في أصول التوتاليتارية، فإن التعذيب هو علاقته المُعرِّفة. على أن نُدرِج في نزع الإنسانية نزع إنسانية الجلاد أيضاً، وليس المجلود أو المعذَّب وحده. وإذا قلنا إن الشر هو جعل الإنسان فائضاً أو نافلاً، حسبما قالت آرنت في الكتاب نفسه، فإن التعذيب أيضاً هو ما يمثل هذا النفول من حيث أنه يُشيّء المعذبين، يجعل إنسانيتهم غير لازمة. هذا فيما يُغني المعذِّبين عن الإنسانية، وإن هنا باتجاه قطب السيادة والتأله. ويحفز التعذيبَ في تقديري نازعٌ إلى القدرة أو التحكم، يصل إلى درجة أن يُحيي المعذِّب ويميت. أعذبك لأني أستطيع ولأني لا أخشى عواقب لفعلي، بل في الواقع أنا مسيطر، كلي التحكم، أتحكم بالأمور بصورة تضمن أن أتصرف بجسدك وبحياتك ذاتها دون عواقب. هذا يعطي شعوراً بالقدرة يبدو أن كثيراً من البشر يحتاجونه حيال غيرهم. وقد يكون من أصول الآلهة إرادة خروج بشر من التماثل مع بشر آخرين. التحكم بالحياة والموت، عبر التعذيب الجسدي أساساً، هو ما ينتج الواحد الذي لا يدخل في علاقة مع غيره، إلا أن تكون علاقة عبودية. لكن، وهنا تناقض علاقة التعذيب: لا بد من بشر لتعذيبهم والخروج من التماثل معهم، وينبغي أن يكونوا مثلي كي أخرج بتعذيبهم من المثلية. تعذيب حيوان لا ينفع في ذلك. فالمثلية غائبة أصلاً. التعذيب إنساني جداً من حيث أنه لا يجري بين غير البشر، ولا إنساني جداً من حيث أنه لا يبقى أحد من طرفي العلاقة إنساناً بمحصلتها. وهو، من باب إلغاء الإنسانية هذا، علاقة الشر الأساسية. في المحصلة، ليس التعذيب علاقة قوة تُضاف إلى غيرها، بل هو الشكل النموذجي والأقصى لعلاقة القوة: أنا قوي وأنت ضعيف! أنا جبار وأنت حشرة! أنا الله وأنت لا شيء! وعلى هذا الشكل الأقصى يقوم الحكم الأسدي في سورية. التعذيب كإبادة سياسية ما يقتضيه التعذيب من جهد ووقت، و«عذاب» 10، يعني أن من يجري تعذيبه لا يطيع، لا يتطوع لكشف سريرته، يُقاوم، وأن المطلوب هو كسر مقاومته ليعترف. بماذا؟ بما يخفي من معلومات، وأهم من ذلك لكي يرضخ ويستسلم، «يفرش»، يعترف بالجلاد وتفوقه عليه. وبقدر ما إننا نقاوم الاعتراف ليس فقط لكي لا ندلي بمعلومات عن رفاقنا أو شركائنا، وإنما أساساً صوناً لكرامتنا، ورفضاً للاستسلام لعدو يعمل على احتلالنا، فإن اعتراف المعذَّب بما لديه ليس غاية التعذيب إلا بقدر ما إنه ينطوي على استسلام للجلاد، اعتراف بتفوقه وانتصاره، بأنه السيد. الاعتراف بالجلاد، مفهوماً كقوة تعذيب جمعية لا كفرد عارض، هو ما يسجله ويوثقه الاعتراف للجلاد. رهان الجلاد يتجاوز تفريغ المعذَّب من أسرار يكتمها إلى بلوغ سريرته واحتلالها. السريرة هي موضع الاستقلال (ِAutonomy) والخصوصية المكنون الذي لا يطِّلع عليه أحد، ويؤهل اختلاف سرائرنا لأن نطالب بالندية مع بقاء الواحد منا مختلفاً. فإذا انكشفت سرائرنا فقدنا كل استقلال وكيان شخصي. لم يشعر النازيون بضرورة تعذيب اليهود، نظريتهم العنصرية تقول سلفاً كل ما هو مهم بخصوص سرائر اليهود الشريرة، فتخرجهم من الندية، وتخفض من شأنهم إلى حد أن لا يستحقون حتى جهد التعذيب. لم يُقتَل اليهود في محرقة «مجنونة وعملاقة» بتعبير جيورجيو أغامبين، بل بالضبط «مثل القمل» على ما قال هتلر، أي كمجرد حياة، أو حياة عارية 11.ومن المحتمل أن التكوين التعذيبي للحكم الأسدي مكتوب في رغبته بأن ينال اعترافاً لا يبدو مطمئناً إلى حصوله عليه، أي لتذليل مقاومات وقراءة سرائر من لا يعترفون به. وهو يفتقر إلى نظرية بقوة «العنصرية العلمية» النازية، تقوض التماهي الإنساني قبل التعذيب. الطائفية من جهة أقل قوة «علمية»، حتى أنها ليست عقيدة يُجهَر بها، وإن كانت تفعل فعلها في تحطيم الرابطة الإنسانية (والوطنية)، وتسهل الانخراط في تشييء المعذبين دون وساوس كثيرة. ولعل ما تسهل من أمره الطائفية تحديداً هو خلق مساحة التباس مرغوبة بين فكرة: أعذب لأني قادر، وفكرة: أعذب لأن من أعذبهم سيئون وأشرار، فيظهر التعذيب فعل خير، وليس فعل قوة حصراً. وما يحبط الجلاد، قوة التعذيب الجمعية، هو أن المعتقل لا «يفرش» حتى حين يعترف، لا يتطوع كدليل للجلاد إلى أعماق نفسه، أي أن سريرته تبقى مغلقة دون الجلاد، وتبقى الطاعة غير مضمونة ما دام المعذبون أو المساءة معاملتهم أحياء. ربما يتظاهرون بالخضوع، لكنهم لا يخضعون فعلاً. كل ما يتوفر من تقارير عن سجن تدمر مثلاً، وقد كان معسكر تعذيب، يشير إلى تمسك المعتقلين أكثر بمعتقدهم الديني، بل تصلب أكثرهم فيه، وبممارستهم الصلاة الممنوعة بعيونهم 12. هذا لأن الاختلاف الذي آل بهم إلى الاعتقال والتعذيب، والقتل، يتصل بمعتقدهم، على الأقل في عين جلاديهم الذي يعاقبونهم بمنع تعبيرات الإيمان الطقسية، وهم يتمسكون به لأن فيه تتجسد كرامتهم، والفرق الأكبر بينهم وبين الجلادين. وفي حالتنا نحن المعتقلين اليساريين الذين رأينا الوجه الدكتاتوري للنظام وليس وجهه الإبادي الذي نظر به إلى الإسلاميين، كنا نقاوم «الانسحاب» من أحزابنا رغم أن غير قليل منا غيروا في سريرتهم أفكارهم وانتماءاتهم، وذلك من باب الدفاع عن الكرامة، حماية المساحة التي يُنال منا بسببها. فإذا جرى قتل المعذَّبين للتغلب على كل مقاومة ذهبت سريرتهم معهم، فلم يعد لدى الجلاد من يجلده، ويكرس في عينه الفرق والهوية. يخسر هويته بالذات إن انمحت الفروق، وبخاصة الفارق بين من يَجلد ومن يُجلد. وعلى هذا الفرق يقوم نمط ممارسة السلطة. ولكن ماذا يعني أن رهان التعذيب تجاوز على الدوام في «سورية الأسد» التفريغ من الأسرار إلى تفريغ السريرة؟ يعني أن ينكشف المعذب ولا يبقى له داخل أو ذاتية، يصير مكشوفاً تماماً ومقروءاً، مطواعاً ومطيعاً. يعني بالضبط الإبادة السياسية. ولذلك لا يكفي أن تعترف معتقلات من النساء بأسرار عملهن العام، بل أن يغتصبن، تخترق حدودهن ويلغى استقلالهن، يُمتلَكنَ من قبل جلادين يحوزون بالمقابل شعوراً بالسيادة. يأخذ التفريغ من السريرة هنا معنى فيزيائياً مباشراً: احتلال داخلية المرأة. اغتصاب النساء هو تعذيب وتسيّد، وليس فعلاً جنسياً13. الانتهاكات الجنسية، للنساء والرجال، تجمع بين ميزة أنها إذلالٌ أقصى من جهة، ولا تهدد الحياة مباشرة من جهة ثانية. فكأنها قتل دون قتل، أو إبادة رمزية تعزز الإبادة السياسية. والخلاصة أن هدف التعذيب قد يكون إذلالياً، أو استجوابياً أو إبادياً، أو حتى عقابياً، لكن التعذيب في كل حال، وفي آليته بالذات، يحوّل المعذب إلى موضوع، كائن بلا ذاتية ولا داخل.وإنما بهذه الدلالة يصلح التعذيب لأن يكون نظاماً سياسياً قائماً على الإبادة. «بحب عرفكم على حالي، أنا عزرائيل، أو ليش عزرائيل، أنا الله، ستذهبون معي إلى ديار الحق، لكن باعتبار أنني الله سأطيل بأعماركم بضعة أيام». هذه الكلمات التي دونتها الغائبة رزان زيتونة في أيلول 2013، في نطاق توثيقها لشهادة خمسة معتقلين هربوا من الاعتقال في قصة نادرة 14 تكثف بصورة ممتازة التعذيب كنزع إنسانية متقابل، تألّه مقابل تشييء. الضابط القصير الملتحي، على ما وصفه الناجون الخمسة، يكثف بكلمات قليلة علاقة التعذيب، ليس فقط أنه إله المعتقلين المعذبين، ولكنه يمهل ولا يهمل كذلك، ليس مستعجلاً على تحويل ضحاياه إلى أشياء لأنه قادر على ذلك في كل وقت، ولأن لهم استخدام نافع قبل ذلك (كانوا يحفرون خنادق لقوات النظام المحاصِرة للغوطة). أربط بين التعذيب والإبادة، رغم أنه ليس كل التعذيب إبادياً، للقول إن كل التعذيب مبيد سياسياً، وهذا مثلما أن التعذيب مُذل بكل أشكاله رغم أنه ليس كل التعذيب إذلالياً. وإنما لذلك التعذيب منهج حكم أساسي، فإبادة المحكومين سياسياً تعني خفضهم إلى أتباع، أي إلى ما دون بناء مجموعات سياسية، وما دون الحقوق والمواطنة والمطالبات العامة. ليس هناك دول أو متحدات سياسية تجمع بين التعذيب وحياة سياسية قائمة على التعدد، وليس هناك دول أو متحدات تتساهل في ممارسة التعذيب دون أن ينذر ذلك بمخاطر تتهدد تعددها السياسي الذي هو مرادف للحياة السياسية. لكن هل ينجح التعذيب في الإبادة السياسية؟ الواقع أنه إذا فكرنا في التعذيب ضمن مركب من التعذيب والحبس المديد، فإنه يبدو ناجحاً بقدر لافت. لقد تم تحطيم المنظمات السياسية السورية المعارضة والمستقلة في عقود حكم حافظ الأسد، وغذيت نزعات التدمير الذاتي والغيري في أوساطها بفعل الفشل في حماية نفسها وفقدان عوامل الحيوية، كما جنح قطاع من الضحايا إلى عنف إرهابي أعشى. التعذيب كمنهج تقليل وتكثير سياسيلا يقتصر أمر علاقة التعذيب على ما تقدمت الإشارة إليه من فعل مُفرِّد، يفصل المعذَّب عن غيره ويرده إلى جسد متألم، بل يتعدى ذلك إلى واقع مطرد: أن المعذبين كثرة مسلحة. في كل واقعة تعذيب، يجري تفريق المعذب عن أي جماعة يحتمل أنه يرتبط بها (عائلة، منظمة، روابط صداقة أو عمل…)، ليصير وحيداً ضعيفاً، بما يسهل من كسر مقاومته. ثم إنه يشتغل على الجسد الواحد أكثر من جلاد واحد، ورشة من الجلادين. التعذيب هو النواة الأولى لسياسة فرق تسد، تفريق المرء عن جماعته المحتملة، قبل تفريقه عن نفسه، تفريق جسده المكشوف عن سريرته المحجوبة، أو أخذ جسده رهينة مقابل تسليم محتوى سريرته وخيانة قناعاته العليا، تفريقُ كيانه الفيزيقي عن كيانه الميتافيزيقي بلغة آمري 15. وبالمقابل، تكثير وتوحيد الجلادين في مواجهته للوصول إلى هدفهم في هزيمته واحتلاله والسيادة عليه. يحتمل لمن يجري تعذيبهم أن يكونوا كثيرين جداً كمجموع، لكنهم يُفرَّقون عن بعضه ويُفرَّدون قبل عملية التعذيب ذاتها من أجل إضعافهم، ثم إن عملية التعذيب ذاتها تضعفهم أكثر. فبعد تقليل الواقعين تحت التعذيب إلى أصغر الأقليات، فرد وحيد، يعمل على تقليل هذا القليل بدوره إلى أجزاء أقل من واحد. وفي هذا ما يجعل التعذيب المنهج الأنسب للطغيان. «تشريفة» سجن تدمر مثال نموذجي على صنع الأقلية والأكثرية بالعنف التعذيبي: «تتحاوف» المجلود الواحد مجموعة، يتناوب اثنان منها على الأقل على جلده، بينما يراقب العمل رئيسهم، ويحضر احتياطي من جلادين آخرين، وهذا مع رقابة من أسطح المهاجع من قبل الحرس الخارجي المسلح. المعذب عار الجسم أو شبه عار، في حالة انكشاف قصوى، أقل من نفسه. عبر التفريد والتفريق، علاقة التعذيب عكس علاقة السلطة حيث قلّة تحكم كثرة، إنها كثرة تعذب قلة، وإن تكن القلة هذه مصنوعة من كثرة عبر عملية فرز وفصل وتفريق مستمرة، محمية بالسلاح بطبيعة الحال، وإن تكن الكثرة المُعذِّبة مصنوعة بالجمع والضم والتطويع، وبالإقناع والخوف كذلك. لعله كان في سجن تدمر ألوف المعتقلين أو فوق عشرة آلاف في أوقات من ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته، والأرجح أن مجموع عناصر السجن كانوا في مرتبة مئات فقط. هذا على أن لا ننسى أن لمصنع السلطة هذا عمق استراتيجي يتمثل في الدولة الأسدية. وإن اقتضى الأمر، أو لم يقتض، يمكن أن تأتي قوة كوماندوس وتقتل المعتقلين في زنازينهم، مثلما جرى يوم 26 حزيران عام 1980. المعذِّبون قوة جمعية حتى حين يشتغل واحد منهم فقط على الجسد الواحد في الوقت الواحد. بعد قليل يأتي من يؤازره أو بديل عنه ليرتاح هو من «عذاب» التعذيب. تعذيب المعتقل المعرض للتعذيب للجلاد الذي يعذبه، أي مقاومته للتحول إلى شيء، هي ما يعمل التعذيب للتغلب عليها، وما يقتضي أن يكون القائمون بالتعذيب كثرة، أكثرية، مقابل المعذبين المفرّقين. وتقديري أنه في كل وقت كان المجموع الكلي للقائمين بالتعذيب والقتل في سورية أكبر من مجموع المعتقلين في هذا الوقت، فوق تمكنهم من تقنيات العزل، ثم فوق تفوق السلاح، وفوق الموارد المتفوقة بدورها. وبينما يبدو أن حاكمي أي بلد قلة، وأن الحكم يقتضي ضرباً من «العبودية المختارة»، حسب نظرية إتيين دو لا بوسيه، فإن نظرة عن قرب ربما تظهر أنه في كل وقت محدد تكون قوة التعذيب الممكنة، أو قوة التحكم والإكراه المنظمة عموماً، أكبر من القوة المقاومة لها المنظمة كثيراً أو قليلاً. ولعل النظم السياسية تنهار حين تتوازن القوى أو ترجح قوة المقاومين.أكثر من القول إن التعذيب علاقة سياسية أو قاعدة دعم نظام سياسي قائم على السيادة والتبعية، أريد مما تقدم القول إن «الأكثرية السياسية» تبنى في التعذيب. أعني بالأكثرية السياسية في هذا المقام من يحكمون ويقررون للعموم، وبالأقلية المحكومين المُفرَّقين. أو لنقل إن التعذيب هو عملية أساسية لصنع أكثرية وأقلية. من يجري تعذيبهم يُقلّلون مهما تكن كثرتهم، ومن يقومون بالتعذيب يكثرون مهما يكونوا قلة. المعذَّب يصير أقل من نفسه، والمعذِّب أكثر من نفسه. وبقدر ما أن التعذيب يفرق المرء عن غيره، ويفرقه عن نفسه، فإن له فاعلية تقليلية مضمونة. وبالعكس، من يقُم بالتعذيب، يجد نفسه قوياً وسيداً، وكثيراً. وهو ما ينبغي أن يدفع إلى التفكير بعمليات التكثير والتقليل السياسية في مقابل الكلام على أقليات وأكثريات اجتماعية ثابتة. التعذيب منهج تقليل، يقلل الفرد الواحد إلى كائن منكمش، خائف، فاقد للثقة والمبادرة، هذا حين لا يجري تحويله إلى شيء، أي جثة، ويقلل المجموعة إلى أفراد متناثرين منكفئين على بعضهم، والمجتمع إلى مجموعات تدير ظهرها لبعض، تخاف من بعضها ولا تثق ببعضها. وهو من وجه آخر منهج تكثير، حين يتيح لمن يعذبون أن يظهروا ويعمّوا، ويهيمنوا، أن يصير الواحد أكثر من واحد، والمجموعة أكبر من نفسها. ltdhyb-web.jpgفي سورية هذا واقع أساسي. يعتمد الحكم الأسدي في بقائه على التعذيب وأجهزته من أجل تكثير نفسه وتقليل محكوميه16. ومثلما تقدم القول، يندرج التعذيب هنا في إقامة نظام للسيادة والتبعية وليس للمواطنة. أعني بالسيادة في هذا المقام امتزاج الحكم بالملك، وفق النموذج السلطاني، ما يقتضيه ذلك من عصمة المالك وعلوه، ومن تصرفه بملكه كيفما يشاء، بما في ذلك القتل. انقلاب سورية إلى ملك أسس لتوريث الحكم في عام 2000. ومثال السيادة هذا يُخرِج السيد من أن يكون فرداً، ليصير معادلاً عاماً للبلد بكل ما فيه. السيد لا يدخل في علاقة، إنه فوق الجميع، أكثر من كل أكثرية ومن الكل. على أن السيد لا يبقى سيداً دون تعذيب، ما يعني أنه ليس داخلاً في علاقة فقط، وليس معوزاً لعلاقة فقط، بل أنه لا يكمل عوزه بغير إيلام وإذلال محكوميه. أي أن السيد تابع للأتباع، لا يوجد من دون تحطيمهم المستمر كي لا يخلعوا طوق التبعية. دمار سورية الحالي مكتوب في هذه العلاقة. على ضوء ما تقدم يظهر للتعذيب وجهان، وجه نوعي يتمثل في فصم الرابطة الإنسانية وتشييء المعذب/ المعذبين أو تخفيض مرتبته/م الوجودية، ووجه كَمّي يتمثل في تقليل المعذب/ المعذبين وبعثرتهم. تعذيب المجتمعتعذيب المجتمع لا يتبع منطقاً مختلفاً. يمكن التفكير في الحصار كمنهج لتفريق مجتمع محلي محاصر عن غيره، مثلما جرى في حماه عام 1982، ومثلما تكرر حدوثه في حمص وداريا والغوطة الشرقية ومخيم اليرموك ومضايا وحلب الشرقية وغيرها في سنوات الثورة. وغير الحصار، يجري قصف المناطق المحاصرة بالبراميل والقنابل العنقودية والفوسفورية، مع الحرص على استهداف المشافي والأسواق مثلما تكرر حدوثه في المناطق المحاصرة. الحصار والقصف مناهج تقليل مثل التعذيب، مناهج لإنتاج أقليات. وليس فقط عبر كون التعذيب علاقة سياسية يمكن الكلام على تعذيب المجتمع. في سورية اقترن تعذيب الأفراد بأشكال من الإذلال و«المرمرة» وتنكيد العيش طالت أهالي المعتقلين أو مدناً أو مناطق استهدفت بالتمييز: حماه مثلاً أو حلب، أو منطقة الجزيرة. التمييز الذي يحميه التعذيب هو تمييز اجتماعي عام، حيال من يرتاب النظام بما تكنّه سرائرهم. ثم أن الأمر أخذ يتجاوز بعد الثورة التمييز إلى العزل والحصار، وإلى التجويع، والقصف والمجازر. المجزرة هي تعذيب للمجتمع، ضحيتها ليس من قتلوا حصراً وإنما مجتمعهم كذلك، الأهل والقرابة والجوار، البيئة الاجتماعية ككل. وبخاصة أنه يغلب أن يتبع المجزرة تهجير، أو أن ترتكب أصلاً بغرض التهجير. يدرك مديرو المجازر أن تهجير البعض من الحياة يقود إلى تهجير الآخرين من بيئة حياتهم. ومعلوم أنه سارت عمليات الحصار والمجازر والتهجير يداً بيد في سورية في سنوات ما بعد الثورة. وكان سبق أن جرى الشيء نفسه بخصوص المجتمع الفلسطيني في النكبة. ثم إنه في غير مجزرة في سورية اقترن القتل بالاغتصاب، كما في كرم الزيتون والحولة عام 2012. الاغتصاب في سياقنا ليس انتهاكاً يُفرِّد، إنه اعتداء على جماعة المغتصبة. أي مرة أخرى تعذيب للمجتمع.ويظهر الاغتصاب كتدمير للمجتمع بجلاء لا مزيد عليه في كتاب الفتاة الأخيرة لنادية مراد، «السبيّة» الإيزيدية عند داعش بعد استيلائها على الموصل في صيف 2014، وعلى قريتها كوجو في سنجار في العراق. كان سبي النساء واغتصابهن، والمتاجرة بهن أحد وجهين لتحطيم المجتمع الإيزيدي، ثانيهما هو قتل الرجال الذين «أنبتوا». والوجهان معاً يشكلان الإبادة أو الجينوسايد الإيزيدي. نادية تعرضت لاغتصاب متعدد من دواعش قبل أن تتمكن من الهرب لتجد أنها فقدت أمها والعديد من إخوتها وأخواتها 17. كان اغتصاب ما قد يتجاوز 100 ألف امرأة ألمانية من قبل «الجيش الأحمر» وقت احتلال برلين في نهاية الحرب العالمية الثانية 18 إذلالاً جمعياً، لا يحتمل أن يكون دون توجيه مركزي، سوغ نفسه على الأرجح بالصفة الجمعية للحرب والإبادة النازيين. تعذيب المجتمع يظهر بوضوح أكبر في الحصار والتجويع الذي طور له النظام شعار «الجوع أو الركوع»، الذي ينسخ البنية العدمية لـ«المساومة» التي تجري مع السجناء («تتعاون»، أي تصير مخبراً، وإلا تبقى في السجن)، وكذلك بنية الدستور الباطن للنظام: الأسد أو لا أحد! رهان الحصار هو الطاعة وكسر الإرادة مثل السجن المديد الذي هو استمرار للتعذيب. تقارن سميرة الخليل بين الحصار والسجن في يومياتها المكتوبة في دوما في صيف وخريف 2013. قالت سميرة إن السجن الذي خبرته شخصياً في دوما مزحة قياساً إلى الحصار الذي خبرته في دوما نفسها 19. فإذا أضيف القصف إلى الحصار، نحصل على مجتمع مقيد بالحصار ومجلود عبر القصف، مُقلّل ومُفرّد. ويمكن أن نفكر في البراميل المتفجرة تحديداً كأداة تعذيب اجتماعي، ليس من حيث أنها تتسبب بقتل وتدمير واسعين فقط، لكن من حيث أنها تدمر بيئة الحياة، وتبدو لذلك مصممة للتهجير. البرميل يصلح رمزاً للحاكمية أو السيادة الأسدية على المستوى الجمعي مثلما الكبل الرباعي رمز لها على مستوى تعذيب الأفراد. التعذيب والسجنفي سورية لا يكاد يكون بين من هم في السجون من لم يمروا بالتعذيب أولاً. التعذيب هنا بنيوي، ونسقي، وليس شيئاً يصادف أن يمارس. ما يعني أيضاً أن الإذلال بنيوي ونسقي. ومن السمات البارزة للحقبة الأسدية، بعد التعذيب، المدد الماراثونية التي قضاها سوريون كثيرون في السجون، تتجاوز مدة الحكم النازي كله. هذه النقطة جديرة بالتوقف عندها قليلاً لأهميتها التحليلية. في سنوات اعتقالنا في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين كان مما يحضر في تداولنا المقابلة بين مقدار التعذيب ومدة الاعتقال. لم يتبلور بيننا تفضيل واضح لأن نعذب أقل مقابل وقت أطول في السجن، أو للاحتمال المعاكس، أي أن نعذب أكثر مقابل تقليل مدة السجن. لم يكن ثمة «سعر تحويل» ثابت يترجم العلاقة بين التعذيب ومدة الاعتقال، يوم تعذيب مقابل سنة سجن مثلاً، ولم نكن نقدر المدد التي قضيناها في سجون النظام، وكانت أطول من أسوأ تقديراتنا جميعاً. الواقع أن المقابلة بين مقدار التعذيب ومدة الاعتقال تولدت بالضبط كتمرين ذهني عن طول المدة. كان في حضور هذا التمرين ما يشير إلى استمرارية بين مقدار التعذيب ومدة الاعتقال، أو ما يظهر أن طول المدة هو ضرب من التعذيب المختلف، وأننا في الواقع لم ننج من التعذيب حين توقف بإحالتنا إلى السجون، ما دام السجن استمراراً مغايراً له. وهذا على كل حال ليس مسألة استنتاج. في تجربتنا في سجن عدرا، أُحلنا إلى معسكر التعذيب في تدمر بعد سنوات طويلة في السجن، شارفت 15 عاماً في حالات كثيرة، وجاوزتها بأسابيع قليلة في حالتي. وهذا بعد أن كنا أُحلنا إلى محكمة أمن الدولة ونلنا أحكاماً كان سقفها 15 عاماً. كان ذلك مثل اعتقال جديد، وبدأ بتعذيب جديد، وبحبس عرفي لم نكن نعرف متى يمكن أن ينتهي، وتجاوز في معظم الحالات حكم المحكمة. يجمع بين الاثنين، التعذيب والسجن، فقدان التحكم بالحياة أو تحولنا إلى مواضيع لسلطة تحتكر لنفسها الذاتية والمبادرة والتفكير والقرار. على أن شروط الحياة في السجن يمكن أن تسمح بأشكال من المقاومة والحرية تلغي مفعول السجن بمقدار، الأمر المتعذر كلياً بخصوص التعذيب. في التعذيب، فضلاً عن الألم الجسدي المبرح، نحن نَخبَر الموضعة القصوى، الانكشاف والوقوع، أننا لم نعد ملك أنفسنا وسادة أنفسنا، أننا مملوكين لغيرنا يسودنا بمشيئته. إذ نكون على قرب من الموت في التعذيب، فإننا نخبر فيه زوال الحرية بالمعنى الوجودي، وليس الحقوق والسياسي فقط. الهلع الذي نشعر به أثناء التعذيب يجمع بين الشيئين: الألم والانكشاف أو الاستباحة. لقد سبق القول إن الاغتصاب تعذيب. العكس صحيح كذلك في تصوري: التعذيب اغتصاب. ليس هناك كلمة تُكثف الانكشاف والرعب والانتهاك، مشاعرنا تحت التعذيب، أكثر من كلمة اغتصاب. وفي هذا ما يدعم فكرة أننا لا نتكلم على التعذيب بالتفصيل لأن التجربة مذلة، فالأمر يشبه استحضار تجربة اغتصاب. مستويات التعذيب السوريةتأسيساً على ما سبق، من الممكن التمييز في الإطار السوري بين ثلاثة مستويات من التعذيب. التعذيب كعمل أو كعلاقة مباشرة، والتعذيب كمعمل وإدارة، ثم التعذيب كدولة ونظام سياسي. أو بعبارات أخرى، التعذيب كفعل جلادين، ثم التعذيب كمؤسسة أو جهاز تسمى في سورية فرع الأمن أو المخابرات، وهو الوحدة الأمنية التي قد تكون ضخمة، كالأجهزة المركزية في دمشق، أو أصغر كمفرزة الأمن العسكري في الرقة، لكنها في كل الأحوال الجهة التي تتولى الاعتقال والتعذيب، ثم في المقام الثالث التعذيب كنظام حكم. وهو ما تركز عليه هذه الفقرة. ليس التعذيب شيء يمارسه الحكم الأسدي روتينياً فقط، وإنما هو شيء يكونه 20، تماماً مثلما أن الحرب هي شيء تكونه التيارات السلفية الجهادية وليست شيئاً يحدث أن تفعله. سورية دولة تعذيب بما هي دولة أمنية أو دولة تقوم على مركزية دور الأجهزة الأمنية في ترويع السكان وكسر عزيمتهم. وما يقوله جان آمري من أن التعذيب هو جوهر الاشتراكية القومية (النازية) 21أشد انطباقاً على «سورية الأسد». الواقع أن التعذيب والإبادة ذاتهما تابعان للحرب والتوسع في ألمانيا النازية، فيما حروب النظام الأسدي بعد عام 1973 تعذييبة، تستهدف الأضعف منه، ومُسخّرة لدوام سلطته. مبدأ حفظ السلطة يقتضي التفكير في المحكومين كمصدر خطر، أي كعدو، والعمل على استئصال هذا الخطر باستمرار. التعذيب ضروري، وتاريخ الحكم الأسدي خلال نصف قرن يدلل على ذلك بقدر كاف. وبقدر ما إن التعذيب جانب من وظيفة مركب جهازي، جانبه الآخر هو صنع المخبرين، أي تدريب المحكومين على الخيانة، خيانة أنفسهم ورفاقهم، وخيانة مواطنيهم، فإن جوهر الأسدية يظهر في هذا الضوء كخيانة مسلحة مستمرة. بل إن ممارسة هذا المزيج من التعذيب والإذلال والخيانة طوال نصف قرن تظهر الحكم الأسدي كقوة استعمار أجنبي تتحكم بسكان أصليين، أو بالأحرى تطابق نموذج استعمارية السلطة (Coloniality of power) الذي تتكلم عليه النظرية النقدية الأميركية اللاتينية 22. يقوم المستوى الثالث، الدولة، على المستوى الثاني، المخابرات، الذي يقوم بدوره على التعذيب كفعل مباشر. النواة السياسية للحكم الأسدي هي علاقة التعذيب، لا يقوم بغيرها ولا يُفهم من دونها. ولعل من الأوجَه بخصوص سورية تحديداً أن نتكلم على مستوى رابع: التعذيب كعالم. ليس فقط لكثرة الفاعلين العالميين في سورية، ولا لأن نظام العالم القائم على الدولة السيدة كان دوماً أقرب بكثير إلى ضمان نجاة دولة التعذيب الأسدية منه إلى نجاة من تقوم بتعذيبهم، إلى درجة تعبير هيلاري كلينتون، وقت كانت وزيرة للخارجية الأميركية، عن حرصها على «البنية التحتية الأمنية» في الحكم الأسدي الذي كانت تشمئز منه، ولكن كذلك لأن ما جعل هذه النجاة ممكنة هو ما اقترن بعودة التعذيب ومساحات استثناء يمارس فيها التعذيب إلى دول كانت تَعِظُ ضد التعذيب قبل زمن لمّا يسقط من الذاكرة بعد: أعني «الحرب ضد الإرهاب». ليست هذه حرباً عالمية، وإنما هي تعريف للعالم كعالم حربي. إذ تنقلب الجيوش إلى مخابرات في مواجهة «الإرهاب»، ينفتح الباب لإلحاق الحرب بالتعذيب. خلاصات سياسيةعملت هذه المناقشة على إظهار بنية التعذيب وتعدد أشكاله وأوجهه ومستوياته: تعذيب استجوابي وتعذيب عقابي وتعذيب إذلالي وتعذيب إبادي، تعذيب الأفراد وتعذيب المجتمع، التعذيب كعمل مباشر والتعذيب كمؤسسة والتعذيب كدولة والتعذيب كعالم. بالاستناد إلى هذا التحليل، المستند بدوره إلى التجربة السورية في نصف القرن الأسدي، يظهر أن المصنع السري/ العلني للسياسة هو فرع المخابرات، وأن التعذيب هو العلاقة السياسية الأساسية، وأن علاقات التعذيب السياسية هي المدخل إلى فهم الحاكمية أو السيادة الأسدية خلال نصف قرن. يُحاكي الاستمرار بين التعذيب والسلطة الاستمرار بين العمل والسلعة في نظرية القيمة عند ماركس، بما يتيح التفكير في قوة العمل كسلعة من نوع خاص، وفي السلعة كعمل محقق. في ثنائية التعذيب والسلطة لدينا بدل العمال جلادون، وبدل المواد الأولية لدينا مجلودون، ونتاج التعذيب الذي هو السلطة مفصول عن منتجيه أو عماله المباشرين، الجلادين، مثلما السلعة مفصولة عن المنتجين المباشرين في الرأسمالية. يمكن أن نسمي نمط إنتاج السلطة في سورية في الحقبة الأسدية بالنمط السيادي الذي يقوم على التعذيب وإنتاج التبعية. وهو ما يعني أن كل كلام في السياسة في سورية ينبغي أن يبدأ من هنا، من بنى وعلاقات التعذيب السياسية. ومن هنا أيضاً نعرف ما يمكن أن تكون سياسة تحررية بأنها جملة الممارسات والقواعد والمؤسسات المصممة لمنع تعذيب الأفراد والمجتمع، ومن باب أولى القتل والإبادة. هذا لأن التعذيب نازع لاجتماعية المجتمع بالذات، وكذلك لسياسية الدولة. وهو ما يقتضي ألا تكون الدولة احتكاراً للعنف الشرعي، بحسب تعريف ماكس فيبر لها، إلا على أرضية تحريم التعذيب، لأنه ليس هناك تعذيب شرعي. حين ينكر بشار الأسد ممارسة التعذيب في دولته فإنه يكذب كما يعلم الجميع، لكن كذبه بالذات هو بمثابة إقرار بلا شرعية التعذيب. فإذا مورس هذا العنف غير الشرعي من قبل الدولة، وهو ممارس على نحو واسع ومترسخ، كان محتملاً بقدر كبير أن يمارس العنف غير الشرعي من قبل المجتمع في صورة الإرهاب أو الجريمة أو العدوانية العامة. والسوق السوداء للعنف التي يروج فيها شكل من اللاشرعية يروج فيها كل شكل آخر، واللاشرعية الدولتية تفتح أبواب اللاشرعية كلها، الإرهاب والجريمة واللاقانونية العامة، أو الأنومي بعبارة دوركهايم، وهي باب للجنوح والانتحار والعنف. وما يُبنى على ذلك هو أن الحرب ضد الإرهاب دون حرب ضد التعذيب غير مثمرة وغير عادلة، فوق أنها تجنح لأن تكون تعذيباً وإرهاباً هي ذاتها. فإذا صح ما قيل في المتن من أن سورية الأسد دولة تعذيب، وليس مجرد دولة يحدث أن يمارس فيها تعذيب، فإن إعادة بناء المتحد السياسي السوري يمر حتماً باجتثاث وكالات التعذيب الأسدية. اجتثاث المخابرات، «البنية التحتية الأمنية»، وليس اجتثاث البعث مثلاً، ولا حل الدولة، هو المدخل إلى سورية جديدة قابلة للسياسة. التعذيب والتفكير، والشرالتحليل الوارد هنا يتعارض مع نظرية حنة آرنت في الشر المبتذل، الذي ينشأ من عدم التفكير مثلما ميزته عند أدولف آيخمان. لكن بينما قد يوافق المرء مؤلفة آيخمان في القدس على أن الشر ليس فعل أشرار ساديين ذوي أعماق سوداء، وأن الواحد منا يمارس الشر ويكرر ممارسته فيصير شريراً، وليس العكس، وهو ما يعني أن في الأمر تأهيل وتمرس، وقبل ذلك اجتماع وسياسة، فإن التعذيب من بين صنوف الشر أقلها بَقرَطَةً وأكثرها شخصية، ومن الأكثر اقتضاء لجهد الذهن والجسد. يبدو التفكير ممتنعاً من قبل القائم بالتعذيب أكثر من امتناعه من طرف من يقع عليه التعذيب. هذا يبحث عن مخرج ينهي عذابه. وما لم يكن التعذيب إبادياً فإنه لا يمحو كل استقلال ومبادرة من طرفه. لقد سبق القول إن ما يجعل شخصاً يعذب شخصاً آخر هو ما يحتمل أن يمنحه إياه التعذيب من شعور بالقدرة والتحكم، من شبه صراع يخرج منه منتصراً. لا صراع في واقع الأمر، وانتصار الجلاد مضمون سلفاً، مع «صفر خسائر» يتكبدها. لكن في الحالة القصوى حين يجري تشييء المُعذَّب وتَسيُّدُ المعذِّب، يتكشف السيد عن قوة تعذيب محض لا معنى لها، بينما يصير من تشيّأ «شهيداً»، غنياً بالمعنى. تنقلب العلاقة فيصير «الإله» عبداً لقوته الفالتة، ويصير «الشيء» رمزاً لقضية وصراع تحرر 23. فيما دون هذه الحالة القصوى، هناك جهد عضلي بلا تفكير من قبل الجلاد، وهناك مساحة للحيلة والتفكير من قبل من يقع عليه التعذيب. قد ينجح في خداع جلاده، فينتصر عليه بالحيلة، أي بالسياسة. يمثل الواقع تحت التعذيب سياسة أخرى، السياسة التي معناها الحرية في مواجهة السياسة (بل السيادة) التي معناها الموت. ثم إنه قد يواتيه الحظ ويستطيع أن يهرب إلى الحرية حتى من عزرائيل، المُقدَّم معن، مثلما روت الغائبة رزان زيتونة في تقريرها المتقدم ذكره. في ألمانيا النازية، مرجع آرنت الواقعي للتفكير في الشر، لم يغب التعذيب، لكن معظم من جرت إبادتهم أبيدوا ليس لشيء فعلوه ولكن لكونهم هم من هم: يهود أو غجر أو سلاف أو مصابون بأمراض خلقية….، وإن يكن جرى تعريف من يكونون، تصنيفهم وتمييزهم وفصلهم عن غيرهم، كأحد وجوه عملية الإبادة. وتأملات آرنت عن الشر تولدت عن محاكمة آيخمان الذي كان مسؤولاً عن نقل اليهود إلى معسكرات الاعتقال النازية. لو كانت تتناول مسؤولاً في الغستابو أو في قوات الصاعقة النازية (SS)، لكان محتملاً أن تقول شيئاً مغايراً. لِجان آمري الذي تقدمت الإشارة إليه غير مرة تعليق مرير على نظرية آرنت يفيد أنها «تعرف عدو الإنسان من القيل والقال، رأته فقط من وراء قفص زجاجي»24. أَميلُ في المحصلة إلى أنه ينطبق على التعذيب تعريف الشر الجذري الذي استعارته آرنت من كانط، واستخدمته في أصول التوتاليتارية، الشر الذي يصدر عن نية شريرة ومقصد شرير. فإذا عدنا إلى مستويات التعذيب السورية، الفعل والجهاز والدولة، فإن مستوى الدولة هو مستوى التفكير والقرار، بيده تقرير الاعتقال والتعذيب والسجن والإعدام، فيما الجهاز هو إدارة، تنظم عمليات الاعتقال والتعذيب والسجن والإعدام، وتترجم التفكير إلى عمل يقوم به المستوى الثالث، جيش التعذيب العامل. وبنية فرع الأمن الأسدي تحمل هذه الثلاثية: مكتب فخم لرئيس الفرع الذي يقود العمليات وتلتقي عنده المعلومات، مكاتب إدارية لضباط ومحققين وموثِّقين، ثم غرف للعناصر أقرب إلى أقبية التعذيب. الشر يتركز في الرأس في الحالين. وأختم بما يبدو تمثيلاً لانقلاب جدلي بين الجلاد والمجلود. الأول يخرج من الإنسانية نحو السيادة والتأله، لكن كذلك نحو الصمت. ليس لدى الجلاد ما يقوله عن عمله، ليس لديه قصة، حكاية مختلفة تروى لمهتمين، وتنطوي على مثال أو عِبرة. أما المعذَّب الذي يُرد إلى جسد، الذي يُقلَّل ويُشيأ، فلديه قصة إن لم يمت، قصة نضال ومخاطرة من أجل الحرية، الشخصية والعامة، وهو إن مات صار رمزاً ومعنى، قصة يرويها من يأتون بعده.وفي هذا الشأن لا يسجل الجلاد الرمزي اختلافاً حاسماً 25. ففضلاً عن افتقاره إلى أجساد يجلدها، خلافاً لنظيره الجسدي، ليس لديه قصة يرويها. يثابر على الجلد الرمزي لخصوم دولة التعذيب، يكرر الشيء نفسه مرة تلو المرة لأنه ليس لديه قصة. استخلاصعملت هذه المقالة على إظهار أن التعذيب علاقة شر أساسية، إن لم تكن الأساسية. عملت كذلك على إظهار أن سورية في الحقبة الأسدية دولة تعذيب، ما يعني أننا عشنا في شر عميم طوال نحو نصف قرن، وأن الذرى التي عرفناها خلال ما يقترب من عقد هي استمرار في شروط مغايرة لشر مُمأسس، مترسخ في نظام حكم. ما تقوله خبرة السنوات المنقضية هو أن «سورية الأسد» دولة تعذيب، وأنه لا يمكن لسورية بدون تعذيب إلا أن تكون سورية لا أسدية.