قبل ثلاثة أيام بدأت وزارة “التجارة الداخلية وحماية المستهلك” تطبيق آلية جديدة لبيع الخبز عبر البطاقة الالكترونية، وفق نظام الشرائح الذي يحدد لكل أسرة ما ينبغي لها استهلاكه، في جميع مخابز دمشق وريفها واللاذقية. بالتزامن، قررت وزارة النفط تعديل مدة تعبئة البنزين لجميع الآليات، بحيث تم تحديد مدة التعبئة مرةً واحدة كل سبعة أيام للخاصة ومنها الدراجات النارية، ومرة واحدة كل أربعة أيام للآليات العامة. سبق صدور القرارين انتشار صور عن طوابير السيارات التي تمتد لكيلومترات في انتظار التعبئة من محطات الوقود، وانتشار صور أكثر فظاعة للازدحام أمام أفران الخبز، حيث لا تكفي كلمة “طابور” لوصف تلك الأجساد المتراصة والمتسابقة للحصول على ربطة خبز. مشهد الطوابير الطويلة للسيارات هو جديد نسبياً على “سوريا الأسد”، فتقريباً خلال العقود الثلاثة الأولى من حكم الأسدية كان امتلاك السيارة الخاصة امتيازاً لحلقة ضيقة من المسؤولين وكبار شركائهم من الأثرياء. أما مشهد الازدحام أمام الأفران فهو عريق من عُمر الأسدية نفسها، إذ قلّما حصل السوريون على الخبز بكرامة، كما يحصل عليه عموم البشر، وهذه الـ”قلّما” بمعنى الندرة المطلقة، فيكون الاستثناء عابراً زماناً ومكاناً فيما يخص ما يُسمى “الخبز المدعوم”، وقد كان الخبز الوحيد المتاح قبل انفتاح التسعينات الذي أتى بتسمية غريبة هي “الخبز السياحي”، الخبز الذي يشتريه القادرون على الدفع بأسعار لا تناسب مع مداخيل غالبية السوريين. كان وصف “السياحي” هو اجتراح الأسدية الأهم الذي شاع منتصف التسعينات، فصار في وسع السوري شراء ربطة الخبز بعيداً عن الأفران بسعر مرتفع، بوصفه سائحاً، وصار في وسعه أيضاً استئجار سيارة “قبل السماح بامتلاك السيارات” من إحدى شركات الاستثمار السياحي، وصار متاحاً له استئجار مسكن لمدة لا تتجاوز الأشهر قابلة للتجديد بعقد آجار سياحي، بعدما أقلع أصحاب البيوت الفائضة عن تأجيرها بسبب قانون للآجار يمكّن المستأجرين القدامى من البقاء، بل توريث هذا الحق مع بدل إيجار قديم متدنٍّ. صورة السوري القادر على الدفع أو المجبر عليه، السائح في بلده ومكان إقامته، كانت مثار سخرية حتى من إعلام الأسد لما في التسمية من احتيال باسم السياحة على تحول السلطة من اشتراكية مزعومة إلى خصخصة تحت مسمى “اقتصاد اجتماعي”، فلا تدخل كلمة السوق في منتصف التسمية الجديدة إلا للضرورة “العلمية” القصوى. قبل ذلك، طوال عقدين ونصف، كانت السيارة عزيزة المنال حتى للقادرين على شرائها، والغالبية الساحقة من الأطفال نشأت مع عقدة “الموز” الذي يسهل رسمه ويعزّ تذوقه. مع ذلك، حافظ الخبز “بسعره المدعوم” على وضعيته الاستثنائية كسلعة أساسية لم تتأثر كثيراً بتقلبات الأسدية. مع اشتداد أزمة الخبز مؤخراً، صار يُشار على سبيل الشرح إلى أنه الغذاء الأساسي للسوريين الذين أصبح 90% منهم تحت خط الفقر. والحق أنه الغذاء الأساسي بسبب عقود متتالية من الإفقار، فهو أصبح بمثابة عادة غذائية، فوق ما يمليه اشتداد الحاجة أو العوز. والازدحامُ الذي لم ينقطع أمام أفرانه طوال نصف قرن من الأسدية دلالةٌ على هول تحكمها بأبسط مقوّمات العيش، وإصرارها على الإمساك المطلق بلقمة السوري كسبيل للإمساك برقبته.تسيطر السلطة على كافة مراحل الوصول إلى الرغيف، المؤسسة العامة للبذار هي التي توزع البذار للمزارعين، والمؤسسة العامة للحبوب هي التي تحتكر شراء القمح منهم، والمؤسسة العامة للمطاحن هي التي تبيع الدقيق للأفران الخاصة والعامة. السعر “المدعوم” للخبز يمرّ قبل وصوله خط النهاية بعمليات احتكار لا تخلو من الأرباح، وأشهرها تصدير القمح السوري القاسي بأسعار جيدة وشراء القمح الطري بأسعار زهيدة ليكون على موائد السوريين، مع تذكيرهم المستمر بـ”مكرمة” السلطة التي تخسر لتقدمه لهم بسعر معقول وكأنها تخسر من جيبها لا من الأموال العامة، ومن دون احتساب كراماتهم المهدورة أمام الأفران. للأسدية ثأر مع خبز السوريين. لم تغيّر أطوار الأسدية من هذه الوضعية، فلا فورة المساعدات الخليجية بعد حرب تشرين أثرت إيجاباً على توفير هذه السلعة الأساسية، ولا الخصخصة التي تلت مشاريع الاستثمار السياحي المزعومة أصابت احتكار السلطة مراحل إنتاج القمح وتسويقه. في أحسن الأحوال، كان تقلّص الازدحام أمام الأفران هو الاستثناء الذي لا يمكن الاطمئنان إليه كواقع مستدام. وقولنا أن للأسدية ثأراً مع خبز السوريين ينطوي على مخاطرة، إذ سبق لغاضبين من انقلاب البعث قول ما يشبهه في وصف أولئك “الريفيين الجوعى” الذين قاموا بالانقلاب، يحركهم الانتقام من كل كفايةٍ ومدنية، وسبق أيضاً قولُ ما يشبهه من قبل الذين قرأوا الانقلاب بوصفه طائفياً ليكون مشروع انتقام أقلوي “وعلى نحو خاص علَوي” من شبع ومدنية السُنة. لقد صار دارجاً، بما يتنافى مع الواقع، فهم كلمة ريفي على محمل طائفي، وكذلك وصف “الفقر” الذي لم يكن بطبيعة الحال يميز بين ضحاياه. ما هو دارج أعاق دائماً الحديث والاتفاق على الأسدية وأساليبها، بما أن حساسيات الدارج تتسرب طوال الوقت من شقوق الكلام. للمفارقة، قد يسعفنا منشور لرامي مخلوف قبل ثلاثة أيام أيضاً “يا للمصادفة!”، يشكر فيه من عزّاه بوفاة أبيه، ويشير إلى جده الذي كان من أكبر مُلّاك الساحل السوري، واشتُهر آنذاك “أيام السفربرلك” بفتح بيته للمحتاجين، منوّهاً بفتح دار آل مخلوف مجدداً للمحتاجين لتناول الطعام كل يوم جمعة على مدار السنة. غاية منشور رامي الأساسية نفي تهمة الفساد عن أبيه وعنه، إلا أن ما كتبه لا يخلو من تذكير خفي بالفقر الأصلي لعائلة الأسد، إذ يتوقف تحديداً عند ما يدعوه افتراءً على أبيه في مجال السيطرة على النفط الذي هو حصراً في حوزة “الدولة السورية”، وتعبير الدولة السورية سبق له استخدامه للإشارة إلى عائلة الأسد التي هي الدولة بقناعته وقناعة كثر سواه.ما لا يُعزى إلى المصادفة بالتأكيد أن واحداً من أشهر الشعارات الأسدية ضد المناطق الثائرة على الأسد كان “الجوع أو الركوع”، فهذا الشعار الذي ليس طارئاً عليها يوضح ثأر الأسدية مع لقمة السوريين، ومقايضتها إمساكها تلك اللقمة بالولاء التام. من الخطأ التساهل وردّ هذا الشعار إلى سلطة متحللة تماماً من قوانين الحرب أو القليل جداً من فروسية المتحاربين، هو استمرار للازدحام أمام الأفران الذي لم ينقطع طوال أربعة عقود قبل الثورة، والازدحام الذي تضخم الآن مع تحديد ما ينبغي لكل عائلة استهلاكه من الخبز هو صياغة ملطّفة للشعار. نعم، للأسد ثأر مع خبز السوريين، ثأر يجد وجهاً للتفسير بأن سلطةً استثنائية بتحكمها لا توفر السيطرة على أبسط مقومات العيش، لكن أوجهاً أخرى للتفسير تبقى جائزة، الأوجه التي تتقصى حوافز الحقد والانتقام الخاصة بالحلقة العائلية الضيقة.