تواصل تركيا عمليتها العسكرية في عفرين ضد مقاتلي حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في سورية (PKK)، الذي تعتبره الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي (PYD)، وسط خلافات وتجاذبات على المستوى الداخلي وعلى المستويين الإقليمي والدولي. وتطمح أنقرة إلى توسيع عملياتها العسكرية بدعم من بعض فصائل الجيش السوري الحر لتصل إلى مدينة منبج وما بعدها.
على مستوى الداخل التركي، تحظى العمليات بدعم قطاعات شعبية واسعة، خصوصاً في أوساط حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الحركة القومية الذي يعتبر «وحدات حماية الشعب» الكردية (YPG) خطراً يتهدد أمن البلاد، وأنها مجرد ميليشيات تستخدمها الولايات المتحدة الأميركية. وقام أنصار الحزبين بفاعليات ونشاطات داعمة للجيش في مختلف المدن التركية. كما تحظى العملية التركية بدعم أحزاب أخرى مثل الحزب الجيد أو حزب الخير (İyi Party)، الذي أسسته حديثاً شخصيات سياسية منشقة عن حزب الحركة القومية، ويمتلك خمسة مقاعد في البرلمان. ويدعمها كذلك حزب السعادة الإسلامي، وحزب الوطن الذي يصنف قومياً يسارياً متشدداً، في حين أن أوساط حزب الشعب الجمهوري المعارض تقف عموماً إلى جانب العملية وتعتبر «لجوء الدولة إلى عملية غصن الزيتون ضرورة حتمية»، وفق ما قال كمال كيليتشدار أوغلو زعيم الحزب، إلا أن سيزغين تانري كولو أحد نواب رئيس هذا الحزب لم يخفِ معارضته العملية.
وفي مقابل الدعم الواسع للعملية في عفرين، يقف ضدها حزب الشعوب الديموقراطي، ثالت الأحزاب التركية الممثلة في البرلمان، الذي اعتبرها «محاولة غزو»، وتشاطره الرأي بقية الأحزاب اليسارية التركية الصغيرة، التي تعلن موقفاً أخلاقياً مناهضاً للحرب، فضلاً عن اعتبارها أن عملية عفرين ستلحق ضرراً بجهود حل المسألة الكردية في تركيا. وهو موقف عبر عنه أيضاً بيان وقع عليه 170 مثقفاً وسياسياً وفناناً تركياً.
وتحرص أنقرة على التأكيد أن عمليتها العسكرية في منطقة عفرين لا تستهدف الأكراد في سورية، بل عناصر حزبي العمال الكردستاني والاتحاد الديموقراطي والميليشيات التابعة لهما، وتحاول قدر المستطاع الحدّ من استفزازهم، وتقديم تبريرات لعمليتها، لذلك اعتبر الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن أن «تحرُّكات تركيا تهدف إلى حماية أمنها القومي، وليست موجهَّة بالتأكيد ضد الأكراد السوريين».
أما في المستوى الإقليمي والدولي، فإن عملية «غصن الزيتون» التي بدأت في 20 كانون الثاني (يناير) الماضي، ما زالت تثير مواقف متباينة، حيث تمّت بالتفاهم بين الساسة الأتراك ونظرائهم الروس، مع صمت من ساسة نظام الملالي الإيراني، يكاد يخفي معارضتهم إياها. لكن الأهم هو أن العملية اقترنت بتصاعد الخلاف التركي- الأميركي، الذي استدعى إرسال الإدارة الأميركية إلى أنقرة كلاً من مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر ووزير الخارجية ريكس تيلرسون للتخفيف من حدة الخلافات ومحاولة إعادة الثقة بين الحليفين الأطلسيين، خصوصاً أن واشنطن تشعر بأن الروس أرادوا من عملية عفرين توريط الأتراك في عملية قد تصبح متدحرجة لتطاول النفوذ الأميركي في سورية، إذا ما وصلت إلى مناطق نفوذهم في منبج، لذلك يحاول المسؤولون الأميركيون طمأنة نظرائهم الأتراك حول مخاوفهم الأمنية، وبدأوا يتحدثون عن المنطقة الآمنة بعمق 30 كيلومتراً داخل سورية، التي طالما طالبت أنقرة بإنشائها على حدودها الجنوبية مع سورية.
مختصر خلافات
وتختصر العملية العسكرية التركية في عفرين عمق الخلافات بين الساسة الأتراك والأميركيين، إذ يصر الأتراك على أن قواتهم وفصائل الجيش السوري الحر ستتوجه إلى منبج بعد السيطرة على عفرين، الأمر الذي تعارضه إدارة الرئيس دونالد ترامب، وتطالب أنقرة بأن تكون عمليتها محدودة في الزمان والمكان، لكن رد الساسة الأتراك برفض هذا التحديد برمته، بالتالي فإن خطر الصدام بين القوات التركية والقوات الأميركية في منبج يبدو قائماً كاحتمال في ظل المعطيات الحالية، ونستبعد دخول الإدارة الأميركية في صدام عسكري مع تركيا سواء داخل سورية أم خارجها، لذلك تلجأ حيناً إلى تدوير الخلاف معها وأحياناً تحاول إرضاءها، وفي الوقت ذاته لن تتخلى الولايات المتحدة في مطلق الأحوال عن سياسة دعم ميليشيات وحدات الحماية الكردية عسكرياً في سورية، وذلك لتثبيت نفوذها القائم هناك.
وتشير الخلافات والتجاذبات، التي رافقت عملية عفرين، بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وإيران وتركيا، إلى أن الصراع في سورية تحول إلى مرحلة جديدة، يحاول كل طرف استكمال وتثبيت نفوذه فيها، إذ تسعى الولايات المتحدة إلى تثبيت نفوذها بعد إعلان استراتيجيتها الجديدة، الهادفة إلى إنشاء ما يشبه دويلة أو كياناً انفصالياً في منطقة الجزيرة السورية، عبر إعلانها العمل على تشكيل جيش مؤلف من 30 ألف مقاتل، قوامه الأساسي عناصر ميليشيات «وحدات الحماية الكردية»، مهمته الانتشار على طول الحدود مع تركيا والعراق وعلى الضفة الشرقية لنهر الفرات، إلى جانب تأمينها ودعمها قاعدة «التنف» في الجنوب الشرقي من سورية، التي تضاف إلى عدد من القواعد والمطارات العسكرية في شمالها. بينما تحاول روسيا تأمين سيطرتها على منطقة الساحل السوري، بدءاً من اللاذقية وصولاً إلى مدينتي حمص ودمشق، بعد أن أقامت قواعد عسكرية بحرية وبرية ومطارات، وثبتت وجودها العسكري باتفاقية مديدة ومذلة مع النظام السوري، تقرّ بتحول القوات العسكرية الروسية إلى قوة احتلال شبه دائم.
أما طهران فلم تستطع إخفاء تحفظها على العملية التركية، على رغم أنها ضمنت الطريق الممتد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق، وثبتت نفوذها في البوكمال في البادية السورية وفي المنطقة الممتدة من دمشق إلى بيروت، حيث تنشر أكثر من 70 ألفاً من ميليشيات «حزب الله» اللبناني والميليشيات العراقية والأفغانية الموالية لها، فضلاً عن قواعد ومصانع أسلحة، وضباط ومقاتلين من الحرس الثوري الإيراني. والأهم هو أن ساسة نظام الملالي الإيراني لا يريدون أن تطلق يد تركيا في شمال سورية، تخوفاً من تأثير الدور التركي في مشروعهم التوسعي في سورية والمنطقة العربية، إضافة إلى سعيهم لأن يكونوا أصحاب اليد الطليقة في الوضع السوري بالتعاون والتنسيق مع روسيا.
ولعل التحفظات الإيرانية على العملية التركية ظهرت إلى العلن، من خلال دعوة الخارجية الإيرانية إلى وقف العملية التركية، وترافقت بتصعيد ميداني عبر الهجوم الكبير الذي تقوده الميليشيات التابعة لها مع قوات النظام السوري في ريفي حلب وإدلب، وسماح النظام السوري لمجموعات من ميليشيات الحماية الكردية بالعبور نحو عفرين. وبات موقف ساسة نظام الملالي أقرب إلى موقف النظام السوري، سواء على المستوى الإعلامي الداعم لحزب الاتحاد الديموقراطي أم على المستويين الديبلوماسي والعسكري، ووصل الأمر إلى توجيه الميليشيات التابعة لهم ضربات عسكرية لنقاط مراقبة خفض التصعيد التركية التي أنشئت في محافظة إدلب، ونشر نظام الأسد وحدات دفاع جوي وصواريخ مضادة للطائرات في الخطوط الأمامية في ريفي حلب وإدلب.
وتريد تركيا من عملية «غصن الزيتون» أن تستكمل ما بدأته في عملية «درع الفرات» التي توقفت عند أبواب منبج، حيث بقيت تركيا الطرف الإقليمي الذي لم يرضَ بما حصل عليه في صراع تقاسم النفوذ على سورية، إذ اكتفت مرغمة بمنطقة محدودة، تمتد من مدينة جرابلس إلى بلدة الراعي وصولاً إلى مدينة الباب، مع أنها تشعر بأنها أكثر الدول المعنية بالملف السوري، إذ منعها كل من الأميركيين والروس من التقدم باتجاه منبج عندما أطلقت عملية «درع الفرات» في 24 آب (أغسطس) 2016. وأرغم ذلك المنع الساسة الأتراك على تغيير وجهتهم الغربية باتجاه التفاهم والتنسيق مع الروس والإيرانيين حيال الوضع في سورية.
وامتدت تفاعلات العملية العسكرية في عفرين إلى ظهور خلافات بين كل من روسيا وتركيا وإيران، الدول الضامنة والراعية لاتفاقات مناطق خفض التصعيد في سورية، في الوقت الذي نشهد تصعيداً من روسيا وإيران لعمليات النظام السوري في محافظة إدلب وغوطة دمشق الشرقية، واستدعت هذه الخلافات الدعوة إلى قمة ثلاثية أخرى بين بوتين وأردوغان وروحاني في إسطنبول لترتيب الأوضاع وتسوية التفاهمات والتباينات من جديد.
وبصرف النظر عن حجم الخلافات الإقليمية والدولية حول العملية العسكرية التركية في عفرين، فالمتضرر الوحيد من ذلك كله هم المدنيون السوريون، عرباً وأكراداً وتركماناً وسواهم، الذين دفعوا ثمناً غالياً خلال السنوات السبع الماضية، ولكن، في الصراع الدولي القائم على ما تبقى من سورية، لا يؤخذ الدم السوري بالحسبان بتاتاً. ويبقى أن السيناريو الأفضل هو التفاهم بين الولايات المتحدة وتركيا وروسيا حول ترتيب انسحاب مقاتلي ميليشيات الوحدات الكردية وسواهم من عفرين، وهو أمر لا يبدو سهلاً، لأن المنتسبين إلى حزبي العمال الكردستاني والاتحاد الديموقراطي يسيطرون على هذه المدينة منذ سنوات، والقاطنين فيها أشبه برهائن.