• الثلاثاء , 24 ديسمبر 2024

فلسطين والوعي العربي وخذلان الفصائل

العقيد عبد الجبار العكيدي/المدن

لعلنا لا نبالغ إذا قلنا ان القضية الفلسطينية قد أسهمت في صياغة الوعي العربي منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي، فعلى مستوى تكوُّن الفكر القومي ترك احتلال إسرائيل لدولة فلسطين أثراً بالغاً، إذْ لم يكن يعني دولة عربية بعينها، بقدر ما كان يعني العرب جميعاً، وهكذا كان من شأن وجود عدو مشترك هو إسرائيل، ان يكون عامل توحيد واستقطاب خاصة وان مرحلة تبلور الفكر القومي (البعث والناصرية) قد جعلت من تحرير فلسطين وتحقيق الوحدة العربية هدفين متلازمين، كما جعلت الموقف من قضية فلسطين معياراً للولاء والإخلاص لفكرة العروبة، بل غدا آنذاك شرف الانتماء لها سلماً للصعود لمراقي الوطنية والقومية، مثلما كان الموقف السلبي منها سبيلاً للانحدار والسقوط، ولعل الجميع يذكر ردة الفعل المجلجلة حين زار الرئيس المصري الراحل أنور السادات القدس عام 1977، وأبرم صلحاً منفرداً مع إسرائيل، وقد كان ذلك تعبيراً عن اعتقاد الكثيرين ان ما قام به السادات هو خذلان لقضية فلسطين.

أما في الفكر الإسلامي فيكاد يتجذر المدلول الرمزي لقضية فلسطين في العمق، فالقدس هي مسرى الرسول وثاني القبلتين، ولإن كان القوميون يرون في إسرائيل كياناً غاصباً لدولة عربية، فان الإسلاميين يرون ان إسرائيل ليست دولة احتلال فحسب بل دولة كفر، فاليهود أعداء الله والحرب عليهم ليست صراعاً حقوقياً، بل وجودياً.

في الحقبة الزمنية التالية لمرحلة الاستقلال استثمرت معظم الأنظمة العربية، وخاصة ذات التوجه الأيديولوجي القومي واليساري، القضية الفلسطينية أيّما استثمار، اذ غالباً ما لجأ الحكام الى إخفاء كل مساوئهم وسقطاتهم وممارساتهم المشينة بحق شعوبهم تحت شعار مقاومة الصهيونية وتحرير فلسطين، كما كانت مواجهة الصهيونية فرصة للهرب والتنصّل من أهم الاستحقاقات التي أخفقت الأنظمة العربية في تحقيق أيٍّ منها، كقضايا التنمية والنهضة وتحقيق مطالب الجماهير في الحرية ونيل الحقوق، بل لعل استثمار الأنظمة الغاشمة لقضية فلسطين قد أتاح لها سبيل الانقضاض على كل صوت مناهض ومحتج على سلوك السلطة بدعوى انه عميل للصهيونية،

وهكذا باتت قضية فلسطين سيفاً تشهره أنظمة الحكم المستبدة ليس في وجه المحتل الإسرائيلي بل في وجوه شعوبها.ما ان استطاعت الثورة الإيرانية إسقاط نظام شاه إيران في العام 1979، حتى سارعت لالتحاف القضية الفلسطينية كشعار لتمكين ثورة الخميني في نفوس العرب والمسلمين، وعلى الرغم من النزوع القومي الواضح للمشروع الإيراني، ألا ان إيران الخمينية استطاعت ان تستثمر في فلسطين، فلا بد من اتخاذ الدين كعامل شحن أيديولوجي وسبيل لاستقطاب الأنصار المؤيدين في كل بقاع العالم.لعل المنجز الأهم لثورات الربيع العربي التي انطلقت متتالية أواخر عام 2010، انها انتزعت القضية الفلسطينية من براثن الأنظمة المستبدة وأعادتها الى سياقها الحقيقي، اذ أكدت ثورات الشعوب ان مبدأ الحريات واحد، وحق الشعوب بالتحرر من الظلم والاستبداد هو واحد أيضاً، وأكدت ان النظام الذي يظلم شعبه ويمارس عليه الهوان والإجرام لا يمكن ان يكون نصيراً لشعب مظلوم آخر، كما أكدت تلك الثورات ان الظالم القاتل لا يمكن ان يكون ظهيراً للحق والعدالة.هكذا بدأ يتبلور وعي جديد لدى الشعوب، وقد بدأت إرهاصات ترجمته تتوضح شيئاً فشيئا، ولعل الترجمة الأكثر وضوحاً لهذا الوعي تؤكد ان نضال الشعوب ضد حكامها المستبدين والطغاة لا يختلف عن النضال من أجل فلسطين، بل ربما ذهب البعض الى ان النضال من أجل تحرير فلسطين مشروط بالتحرّر من سطوة الأنظمة المستبدة أولاً، لان استمرار أولئك الحكام في حكم البلاد هو الكابح الحقيقي لأية عملية تحرير من الكيان الصهيوني.

لقد كشفت جولة العدوان الإسرائيلي الأخيرة على قطاع غزة عن حقائق جديدة تعكس كيفية تفاعل الشعوب العربية وحتى الشعب الفلسطيني نفسه مع هذا العدوان، ومن أولى تلك الحقائق انخفاض منسوب تفاعل تلك الشعوب مع فصائل المقاومة، وتحديداً حركة الجهاد الإسلامي التي انفردت في مواجهة هذا العدوان، فلم نشهد أي تظاهرات أو اعتصامات أو وقفات شعبية في معظم العواصم العربية للتنديد واستنكار الهجمات الإسرائيلية على المدنيين في قطاع غزة خلافاً لما شهدناه خلال المواجهات السابقة بين أذرع إيران والكيان الصهيوني.وكان من المستغرب أيضاً عدم قيام أبناء المخيمات الفلسطينية في لبنان ومن تبقى في سوريا وفي مختلف أماكن اللجوء الفلسطيني بأي تحركات تضامنية مع اخوتهم في غزة، ومن تلك الحقائق التي برزت أيضاً وجود آراء ومواقف في الشارع العربي تضع اللوم على قادة المقاومة في غزة باستثمار تضحيات ومعاناة الشعب الفلسطيني في أعقاب كل معركة مع الاحتلال الصهيوني وإهداء انتصارات وصمود المقاومة الى القيادات الإيرانية التي كان لها الدور الأساسي في استباحة العواصم العربية والتنكيل بثوراتها وقمع شعوبها وقتل الملايين من أبنائها في سوريا واليمن والعراق ولبنان.

لا يبدو ان مثل هذه التحولات الجديدة في مواقف الشعوب العربية تجسّد انزياحاً سياسياً وعاطفياً عن القضية المركزية للأمة، بل ربما جسّدت منعطفات أخرى في الوعي، لعل أبرزها:

أولاً: شكلت محطات الثورة السورية الاختبار الأكبر لمواقف العديد من الفصائل الفلسطينية وقياداتها التي تبدلت مواقفها، من التزام الحياد والنأي بالنفس الذي تبنته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في بداية الثورة، خلافاً لموقف حركة حماس التي أعلنت انحيازها لمطالب الشعب السوري، ثم ما لبثت الأخيرة ان بدلت مواقفها في السنوات اللاحقة الى مربع استرضاء إيران والأسد على حساب دماء السوريين الذين كانوا من أكثر الشعوب العربية اسناداً للقضية الفلسطينية ودعماً لها.كما ان الأدوار التشبيحية التي مارستها الفصائل الفلسطينية الموالية للنظام (الجبهة الشعبية القيادة العامة، فتح الانتفاضة، جبهة النضال الشعبي، الصاعقة، ميليشيات فلسطينية أخرى تم تأسيسها خلال زمن الثورة من قبل أجهزة النظام مثل لواء القدس، حركة فلسطين حرة)، أثارت غضب السوريين منها لا سيما مع إعادة تطبيع قيادة منظمة التحرير لعلاقاتها مع الأسد.

ثانياً: شعور جزء كبير من الشعب السوري والشعوب العربية بالخذلان من تخلي الفصائل الفلسطينية في زمن الثورات والانتفاضات العربية عن الشعوب ذاتها التي دعمت حق الشعب الفلسطيني في التحرر من الصهاينة، وقدمت التضحيات الجسام من أجل ذلك، وهو ما تتحمل مسؤوليته الوطنية والأخلاقية طبقة القيادات الفلسطينية التي آثرت مصالحها الشخصية والحزبية وعلاقتها مع أنظمة القمع دون أدنى إحساس بمعاناة الملايين من ضحايا النظام السوري وحلفائه.

ثالثاً: وقوع حالة من الالتباس لدى جمهور عربي عريض ما بين عدالة القضية الفلسطينية وما صنعته تلك الفصائل والقيادات من تشويه لصورة فلسطين في أذهان الشعوب، غذ لم يكن مقبولاً سماع تلك التصريحات التي تصدر بين الفينة والأخرى عن قيادات فلسطينية بارزة تمجد رموز القتل والإبادة كحسن نصر الله وقاسم سليماني.

مجمل تلك الأسباب جعلت المخاوف تتزايد من قيام قيادات المقاومة الفلسطينية بتجيير كل تضحيات الشعب الفلسطيني لصالح مشاريع إيران وأذرعها في المنطقة،

فاللافت أن هذا التحول في مزاج الشعوب العربية ألقى بظلاله على الفلسطينيين أنفسهم بعدم التفاعل والتضامن مع حرب غزة الأخيرة، وكان لعدم وجود موقف موحد لفصائل المقاومة حيال العدوان الإسرائيلي وترك حركة الجهاد الإسلامي وحيدة في مواجهة ذلك العدوان اثرٌ سلبي كبير في نفوسهم.ما سبق يتطلب فض جوانب التعقيد والالتباس الناجمة عن تعميم الصورة السلبية للفصائل والقيادات الفلسطينية على الشعب الفلسطيني، لا سيما ان التضحيات التي يبذلها هذا الشعب على مذبح حريته هي أكبر وأقدس من المواقف الانتهازية الرخيصة التي تبنتها تلك القيادات دون خجل أو وجل من دماء وتضحيات الشعب السوري وغيره من الشعوب العربية التي يستهدفها المشروع الإيراني.

مقالات ذات صلة

USA