“عبدالوهاب بدرخان
دخلت الأزمة السورية مرحلتها الرابعة. في الأولى حاول النظام كسر انتفاضة الشعب. في الثانية ضاعفت إيران تدخلها لإنقاذ النظام بعدما أصبح في خطر. وفي الثالثة، بعد فشل الإيرانيين، جاءت روسيا فأنقذته وصنعت لها وله انتصارات تمثّلت باستعادة النظام سيطرته على مناطق كان خسرها. وفي الرابعة، الحالية، تدور حربٌ اقتصادية ضروس أفرغت كل الانتصارات من مضمونها، وسلّطت الضوء على دور أميركي تبيّن للروس والأسديّين والإيرانيين أنه استطاع، بتدخّل عسكري محدود، أن يضعهم في إرباكات ويخلط أوراق تحالفاتهم، إذ أنهم يهجسون اليوم جميعاً بانعكاسات عقوبات “قانون قيصر” عليهم. وفيما تعتمد حرب الاقتصاد على تسعة أعوام من العقوبات الأميركية والأوروبية، إلا أنها استندت منذ عامين ونيّف الى: 1) الحؤول دون استعادة النظام سيطرة كاملة وحرمانه من استغلال كامل للموارد الطبيعية، 2) انعدام أي دعم خارجي للنظام وتراكم ديونه لطهران التي جعلتها العقوبات تُقصِر تمويلها على ميليشياتها، 3) منع كل دعم مالي يمكن أن يتوفّر للنظام من أي تطبيع عربي معه، 4) وصول روسيا الى وضعية خاسرة في سورية فهي تتولّى منذ خمسة أعوام تكاليف عملياتها العسكرية ولا تبدو الاستثمارات التي تحصّلت عليها كافية ثم أنها تراهن على استثمار النفط السوري الذي أبقاه الاميركيون في أيدي الأكراد.الهلع الاستباقي من تفعيل “قانون قيصر” ظهر خصوصاً في الخلاف الذي تفجّر علناً بين بشار الأسد ورامي مخلوف، وفي الهبوط اليومي لقيمة الليرة السورية، كما في تفاقم الأزمة المعيشية. كل ذلك انعكس على البيئة الموالية، سواء بناسها العاديين أو برجال أعمالها، فهي تحمّل النظام، تحديداً رئيسه، مسؤولية تدهور أحوالها. طوال الحرب لم يشعر النظام ولا بيئته الحاضنة بتداعيات مؤثرة للعقوبات، وعلى رغم أن الاقتصاد راح يسجّل تراجعاً مستمرّاً عاماً بعد عام، ظلّ النظام (وليس الدولة) قادراً على تكديس الأموال، بل استطاع تفريخ عدد من المليارديريين والمليونيريين الذين استفادوا من تسهيلاته وأفادوه بنسبة معتبرة من أرباحهم، لكن هؤلاء وجدوا أنفسهم أخيراً مرغمين على اقتطاع جزء من “أموالهم” لسد حاجات النظام من دون أن يعرفوا أين سقف هذه الحاجات وأين قاعها. أما رامي مخلوف فطولب بجلّ ما “يملك” لأنه “أموال آل الأسد” في الأساس، ويبدو أنه نسي ذلك أو تناساه حين وزّع “أمواله” في الخارج. في أي حال شكّلت المواجهة صدعاً داخل النظام بين الرئيس السياسي ووصيفه الاقتصادي، وشرخاً عائلياً بين بشار ابن العمة ورامي ابن الخال (انعكس أيضاً على الطائفة العَلَوية)، وبالتالي مؤشّراً الى تنامي الضعف في أوصال النظام، وهو ما يفتح مجالاً للاستغلال من جانب الروس (بحماية رامي) والايرانيين (باستتباع ماهر الأسد).ما كشفه “قانون قيصر”، حتى قبل تطبيقه وبمعزل عمّن وعمّا سيمسّ من كيانات وأفراد، هو حجم النوافذ والثغر التي أبقتها منظومة العقوبات فمكّنت نظام الأسد من اختراقها خصوصاً عبر النظام المالي والاقتصادي اللبناني وبدرجة أقل عبر العراق، ولم يكن هذا الاختراق مجهولاً لدى الدول الغربية بل ساهم بعضٌ منها في تغذيته بذريعة إبقاء قنوات مفتوحة مع النظام طالما أن الأزمة لم تبرز أي “بديل” منه. أما المخاوف التي تعظم اليوم فمردّها الى أن “قانون قيصر” سيعمد الى سد كل النوافذ والثغر، مهما كبرت (دول) أو صغرت (شركات ومصارف وأفراد). ومع أن الاميركيين والأوروبيين يؤكّدون بل يقدمون براهين على أن أي عقوبات لا تشمل تلبية الحاجات الإنسانية، إلا أن أوجاع العقوبات ومفاعيلها تفتك بالشعب وبمعيشته، لأن النظام يستحوذ على أي مساعدات انسانية ليلبي أولاً متطلّبات تسلّطه. هذا ما أظهرته تجارب العقوبات على عراق صدّام وليبيا القذافي وإيران خامنئي وسورية الأسد ويمن الحوثيين، وصولاً الى لبنان “حزب الله”.الهدف الاميركي المعلن لـ “قانون قيصر” وضع جميع داعمي النظام تحت ضغوط جديدة لإرغامهم والأسد على التعاون في انجاز حلّ سياسي، ولإرغامهم على إدراك أن الأزمة بلغت أخيراً مرحلة التنازلات. كانت سياسة الولايات المتحدة ملتبسة تجاه سورية وتحديداً حيال الأسد، ولعلها اعتمدت على التدخل الروسي لجعله ونظامه قابلين لإعادة التأهيل، لكن هذا المسعى فشل، وباستثناء تصريحات فقاعية عابرة لم تعلن واشنطن بوضوح أنها يمكن أن تتعايش مع نظام بات ملفه الاجرامي موثّقاً. مع ذلك استغرق “قانون قيصر” أعواماً طويلة قبل أن يقرّ ليصبح أقوى أدوات السياسة الأميركية رفضاً للأسد ونظامه، ولم يولد القانون إلا بعدما تأكّد أن الروس أخفقوا في ترجمة الحسم العسكري تفعيلاً للحل السياسي، وبعدما تبيّن أن قدرات الإيرانيين على التخريب (بالتنسيق مع النظام) أكبر من قدرة الروس على ضبطهم، كذلك بعدما انكشفت حدود فاعلية تفاهمات موسكو مع واشنطن وإسرائيل في الحدّ من النفوذ الإيراني الذي لا يزال يتنامى معتمداً في بعضٍ منه على بيئات سنّية مستضعفة ويجري ابتزازها بالترهيب والجوع بغية للحصول على تشيّعها.بديهي أنه يصعب الوثوق بأميركا، كما بالنسبة الى روسيا وإيران، فضلاً عن تركيا وإسرائيل، لكن هذا هو الخيار المتاح: قيصر في مقابل الأسد… ولكي تنجو روسيا من عقوبات جديدة تضرب مكتسباتها وشركاتها في سورية سارعت الى تعيين مندوبها السامي ألكسندر يفيموف كمشرف سياسي واستثماري. وإذ حاولت أخيراً التمسّك بأوهامها في لعب “ورقة الأسد” فقد خرجت من اتصالاتها الأخيرة مع الاميركيين والأوروبيين بنتيجة مفادها من جهة أن هذه الورقة افلست واحترقت، ومن جهة أخرى أن على موسكو أن تنسى نهائياً أي دعم غربي، مالي أو سياسي في سورية، إذا أتاحت للأسد الاستمرار بالمماطلة حتى 2021 للحصول على ولاية رئاسية رابعة عبر مهزلة انتخابية جديدة. لذلك تحاول روسيا تعزيز التنسيق مع الولايات المتحدة، مغدقةً الوعود بالتزام القرار 2254 حتى بما ينصّ عليه من “انتقال سياسي”، وبدفع الحلّ السياسي دستوراً وانتخاباتٍ وحتى بضمان “بيئة آمنة ومناسبة” لعودة النازحين الى مواطنهم.قد يكون الروس بلغوا نهاية الطريق من الأسد، بعدما تضاءلت فائدته لمشروعهم، لكنهم بدّدوا وقتاً طويلاً كان يكفي لإنضاج حلّ سياسي متوازن. وقد يكون الهدف المعلن لـ “قانون قيصر” ملبياً طموح الشعب السوري بالتخلص من حكم دكتاتوري لم يعد له مستقبل، لكن شعاره الدعائي وما يرافقه من تطوّرات اقليمية قد يشكّلان نقلة جديدة في المساومات على مستقبل سورية وخريطة المنطقة.