تناقش هذه الورقة أبعاد أكبر خرق لاتفاق سوتشي المتعلق بمنطقة خفض التصعيد في إدلب، بعدما شنت وحدة مهام خاصة مشتركة من حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني هجوما مباغتا ليل الخميس/ الجمعة الماضي على مواقع تابعة لـ”جيش العزة”، أبرز فصائل الجيش الحر في ريف حماة الشمالي، وتنظر الورقة في أسباب الهجوم الإيراني على المنطقة العازلة بعد إعلان روسيا فتح معبر مورك وتشغيل الأوتستراد الدولي في إطار تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق إدلب، كما تتوقف الورقة عند تداعيات الخرق الإيراني وانعكاساته على “اتفاق إدلب”. وتختم الورقة برؤية استشرافية, مدى تأثير الخرق الإيراني في مجالات التعاون بين شركاء آستانا.
مقدمة:
على ما يبدو أن “اتفاق سوتشي” بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين في 17أيلول/سبتمبر الماضي يدخل في مرحلته الثانية منعطفا خطيرا مع التحركات الإيرانية على الحدود المشاطرة للمنطقة العازلة, والتي من بينها استحداث قواعد عسكرية جديدة في ريفي حلب الجنوبي وإدلب الشرقي, والاستهداف المستمر للمناطق المأهولة بالسكان بقذائف المدفعية وراجمات الصواريخ, مما يشير إلى تصاعد التضارب الاستراتيجي بين حلف آستانا حول إدلب, التي يتغنون بنجاتها من مصير أخواتها غوطة دمشق والجنوب السوري وريف حمص الشمالي, فيما تركز الاستراتيجية الروسية على الجدول الزمني المرفق بالاتفاق المذكور الذي يقضي بإنهاء الوجود المسلح للمعارضة هناك تحت إشراف تركيا، قبل نهاية العام. وهذا ما يجري على الأرض فالمنطقة العازلة باتت بلا سلاح ثقيل وغادرتها أغلبية فصائل المعارضة, ومع انتقال الروس والأتراك لتنفيذ البند التالي للاتفاق المتعلق بفتح المعابر والطرقات الرئيسية برز اللاعب الإيراني الذي وجد نفسه خارج إطار المكاسب بالتعطيل الفعلي للاتفاق من خلال استهداف جيش العزة أكثر الفصائل اعتدالا, فيما لم يتأخر رد الفصائل طويلا حيث قامت هيئة تحرير الشام بهجوم على الميليشيات الإيرانية وتلك التابعة للنظام في نقطة الترابيع شمال حماة، في اليوم الذي تلا الهجوم على جيش العزة، ويبدو أن السكوت التركي على هذا الهجوم بمثابة رد على الاستهتار الروسي على هجوم الميليشيات الإيرانية في الزلاقيات، ليقف الروس والأتراك في مواجهة غير مباشرة تؤسس لنتيجتين: إنقاذ اتفاق إدلب أو انهياره مع ترجيح النتيجة الأولى لأن الظروف الدولية لا تتيح لأطراف الصراع السوري الاتجاه نحو الانفجار الكبير.
وللاقتراب مما يدور بين أطراف “سوتشي” من تشابكات عسكرية وأحيانا سياسية ولتفهُّم طبيعة الشراكة القائمة بين موسكو وأنقرة، ودور المعطّل الإيراني، وما يترتب على ذلك في الأفاق المستقبلية، سنناقش ذلك من خلال مجموعة من المحاور الرئيسة والفرعية، التي تكتمل بها رؤية ما يجري وما يُتوقَّع للاتفاق الغامض في أبرز بنوده.
الخرق الإيراني الكبير.. أسبابه ومنعطفاته التصعيدية
بعد مرور ما يقارب الشهرين على اتفاق إدلب بين بوتين وأردوغان ظهر اللاعب الإيراني على نحو توقع فيه الكثير من المراقبين أن إيران ستحاول إجهاض الاتفاق بوسائل شتى, يظهر ذلك من الاحتقان القائم بين الإيرانيين والروس والأتراك؛ نتيجة استفراد أنقرة وموسكو بمناطق النفوذ الرئيسية في سوريا, وما أحدثته موسكو، أو تحاول إحداثه، من تغييرات في الأبعاد المختلفة للنفوذ الإيراني في سوريا، وعزلها تدريجيا عن نظام الأسد للاستفراد والهيمنة على تلك المناطق، في سياق الصراع الجاري في المنطقة، الذي يحركه التنافس الإسرائيلي-الإيراني، تتداخل معه مصالح الولايات المتحدة التي تعمل على تقليم أظافر إيران من خلال حزمة العقوبات الاقتصادية الأخيرة.
أبرز الأسباب الراهنة، التي تقف خلف “الخرق الإيراني الكبير”، انكشاف نوايا إيران اتجاه الروس والأتراك, وهذه المرة يأتي الخرق بموافقة روسيا التي ترى في التقارب التركي-الأميركي تهديدا حقيقيا لاستراتيجيتها في سوريا.
إلى ذلك، تدلل العملية الإيرانية التي قامت بها ضد “جيش العزّة” في المنطقة العازلة كشكلّ من أشكال التصعيد أو بابا للخلاف مع الروس والأتراك وذلك للأسباب التالية:
- إثارة إيران للمشاكل اعتراضا على اتفاق سوتشي بشكل عام بهدف الابتزاز السياسي للأتراك والروس.
- تذكير طرفي سوتشي أن موافقتها على الاتفاق لا يعني استبعادها من المنطقة العازلة لذلك كونت قواعد عسكرية جديدة, ومعسكرات تجنيد وتدريب للمقاتلين على أطراف تلك المنطقة باعتبارها القوة الضاربة في معسكر حلفاء النظام.
- تعطيل التفاهم حول الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق المتعلق بفتح الطرق الدولية، دون إشراكها بمراقبة الطريق الاستراتيجي الواصل بين عينتاب التركية والعاصمة دمشق.
فيما تتوافق روسيا مع الخرق الإيراني الأخير باعتباره لا يخلّ بالشراكة القائمة بينهما, ومن ذلك ما يلي:
- بقاء الميليشيات الإيرانية كقوة موازية للقوة الروسية تستخدمها في العمليات القذرة كالهجوم الأخير على “جيش العزّة”, ولولا الضوء الأخضر الروسي, والدعم اللوجستي للعملية لما تمكنت الميليشيات من الإغارة على موقع عسكري داخل المنطقة العازلة التي يحميها اتفاق إدلب.
- خشية الروس من التقارب التركي-الأميركي الأخير فيما يتعلق بالتفاهمات الجارية بينهما في شرق الفرات, وإمكانية استدارة تركيا باتجاه مصالحها التقليدية الشاملة مع الحليف الأميركي، ما دفعهم لتشجيع الميليشيات الإيرانية للانقضاض على الاتفاق في الزلاقيات بريف حماة الشمالي.
المنطقة العازلة
شنت وحدة عسكرية خاصة مشتركة من حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني هجوما مباغتا ليل الخميس/ الجمعة الماضي على مواقع تابعة لـ”جيش العزة”، أبرز فصائل الجيش الحر العاملة في ريف حماة الشمالي، وتحديدا في نقاط الرباط المواجهة لقرية الزلاقيات التابعة لبلدة اللطامنة.
وأكدّ العقيد الطيار مصطفى بكور القيادي بجيش العزّة في تصريح مسجل لبلدي نيوز: أنّه “قامت مجموعات من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله مزودة بأجهزة رؤية ليلية بالتسلل إلى إحدى نقاط رباط جيش العزة في منطقة الزلاقيات مستغلة انعدام الرؤية بسبب الضباب الكثيف وقامت بمهاجمة عناصر النقطة من الخلف، وقتلتهم واحتلت النقطة لفترة زمنية قصيرة. اكتشفت قيادة جيش العزة الأمر فوجهت مجموعات من عناصرها إلى المنطقة واشتبكت مع القوة المهاجمة ودارت مواجهات عنيفة بكافة أنواع الأسلحة، لتتمكن قوات العزة من استعادة السيطرة على النقطة التي تقدمت إليها المجموعات وكبدتها عددا من القتلى والجرحى، وخسر جيش العزة عددا من الشهداء والجرحى وعاد الوضع إلى ما كان عليه قبل العملية”.
لماذا إيران؟
الملاحظ أنه عقب عملية استهداف جيش العزة مباشرة، جرى اتهام الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني، بوقوفهما وراء ذلك، وهو ما يتفق مع سوابق تخريبية لأي رؤية تفضي لحل سياسي لا تأخذ المصلحة الإيرانية بالحسبان, ولعل ما يدفع إلى التأكيد أكثر بضلوع الإيرانيين في الهجوم ضد جيش العزة ما أثبته التالي:
ــ حصول ” جيش العزة” على معلومات من داخل المناطق الموالية عن وصول مجموعات من الحرس الثوري وحزب الله الى مدينة محردة وعقد اجتماع لهم مع الروس في المركز الثقافي قبل العملية بــ ٤٨ ساعة، ثم توجههم الى حواجز نظام الأسد المواجهة لنقاط الرباط التي تم استهدافها, وبعد العملية العسكرية تكرر الاجتماع بنفس المكان لتحليل ودراسة نتائجها, بحسب القيادي بجيش العزة العقيد مصطفى بكور.
ـــ وقوع عملية التسلل بالقرب من نقطة المراقبة الإيرانية المتمركزة في قرية معرزاف وهو ما يحمل إيران مسؤولية خرق اتفاقي خفض التصعيد وسوتشي معاً، فلا يمكن حصول التسلل أمام نقطة مراقبتها دون علمها.
ــ امتلاك الحرس الثوري الإيراني وميليشيا حزب الله اللبناني تقنيات لوجستية عسكرية أميركية حصلت عليها من الحشد الشعبي العراقي, وأخرى روسيا, إضافة إلى الإعداد القتالي والبدني العاليين, والتكتيك العسكري الذي تختص به عمن سواها من الميليشيات التابعة لنظام الأسد.
الدعم الروسي للخرق
قد تفسَّر المشاركة الروسية في عملية الخرق في المنطقة العازلة على أنها انتقام موسكو من جيش العزة الذي رفض اتفاق سوتشي, لأنه لا يثق بالتعهدات الروسية منذ بداية الاتفاق بحسب العقيد الطيار مصطفى بكور، المتحدث باسم جيش العزة، في حديث له مع “بلدي نيوز” بأن القوات الروسية قامت بالتغطية على العملية التي نفّذتها ميليشيات تابعة للحرس الثوري الإيراني ولحزب الله، وأن روسيا سيّرت طائرة أنتونوف لمسح المواقع الجغرافية الخاضعة لفصيل جيش العزة بشكل دقيق، وذلك قبل يوم واحد فقط من عملية التسلل, وكذلك ما تم تسريبه من الروس أنفسهم بأنه تم تجريب بعض التقنيات العسكرية الحديثة أثناء العملية والمتعارف عليه من يجرب السلاح هو من صنعه وهذا يدل على أن الخبراء والجنود الروس كانوا موجودين ضمن العملية, إضافة إلى هدف تكتيكي عسكري روسي على شكل رسالة لجيش العزة بأن التحصينات التي انشأها لن تكون قادرة على حمايته.
توقيت الخرق ودلالاته
لم تخْفِ إيران توجسها من الجلبة الكبيرة، التي رافقت قيام “روسيا وتركيا” بالتحضير لبدء المرحلة الثانية من اتفاق إدلب وذلك بفتح معبر مورك وتشغيل الطريق الدولي حلب-دمشق؛ دون إشراكها بمراقبة الطريق، فاستبقت التوافق المحتمل لتكون موجودة على الطرق الدولية وحاضرة بقوة على الشرايين الرئيسية للاقتصاد السوري.
وقد عزَّز شكوك تركيا، توقيت العدوان على نقاط جيش العزة في المنطقة العازلة، الذي بدا كما لو أنه غطاء لانقلاب وشيك على الشراكة، لاسيما تعزيز إيران لقواعدها العسكرية في ريف حلب الجنوبي المعقل الكبير لميليشياتها, كما ساءت ظنون إيران حول توقيت تماهي روسيا مع الدعوات الغربية الساعية لإقناعها بالتخلي التدريجي عن إيران وقد عزَّز هذه الظنون رغم نفي الروس لها التوصل مع إسرائيل لرفع الحظر عن طيرانها الذي غاب بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية “ايل 20” عن استهداف الميليشيات الإيرانية, لذلك جاء عدوان إيران لخلط الأوراق بين الشركاء والتذكير بأنها الأقوى عسكريا في الحلف المساند للأسد.
تأثير الخرق الإيراني في مجالات التعاون بين الشركاء
كشفت الخلافات الحادة بين “شركاء آستانة”، أن التعاون القائم بينهم، ليس بمستوى المطامح، التي أثارها الاتفاق السياسي المبرم بين “روسيا وتركيا” في 17/سبتمبر أيلول الماضي، سواء كان ذلك التعاون في إدارة المنطقة العازلة، أو ضبط المواجهة العسكرية المتواصلة بين فصائل الثورة وميليشيات إيران وتلك التابعة لنظام الأسد التي تتحمل فيها إيران الخروقات التي تستهدف من خلالها المنطقة العازلة وما يمثله ذلك من تحدٍّ للروس والأتراك باعتبار أنهما يتقاسمان مناصفة إدارة المنطقة العازلة, إلا أن إيران المستنفرة بميليشياتها على الحدود الشطرية للمنطقة العازلة تعمل بكل طاقتها على تخريب الاتفاق بهدف أن يتحمل الأتراك وحدهم مسؤولية الفشل بوصفهم سلطة الأمر الواقع في هذه المنطقة.
مع ذلك, لا تزال تركيا وروسيا، تتعاملان بشيء من الحرص والمراوغة للحفاظ على الاتفاق السياسي الجامع لهما. أما ما يحدث من مواجهات مسلحة، فإنها لا تعدو بحسب إعلام الطرفين أن تكون تصرفات خارجة عن إرادة الراعي الروسي والشريك التركي، وقد تحدث أحيانا تحت إملاء الضرورة، وفي حدود المسموح به، التي تقتضيها حسابات الطرف الروسي. وفي ضوء كل ما أُثير سابقًا، يمكن تصور مستقبل اتفاق إدلب في إطار السيناريوهين التاليين:
السيناريو الأول: استمرار الاتفاق
يفترض هذا السيناريو بقاء الاتفاق ساريا بين الجانبين الروسي والتركي، انطلاقًا من شراكتهما حول غاية واحدة، هي التمسك بالتهدئة في محافظة إدلب، وأيًّا كانت دوافع هذه الغاية. وفي ظل هذا الاتفاق تلعب الولايات المتحدة ومن خلفها دول أوربا الدور الأبرز في سريان الاتفاق، إضافة إلى النفعية المشتركة الروسية – التركية من الاتفاق، وبناء على ما سبق, في المدى المنظور يتضح أن أيًّا من طرفي الاتفاق، غير قادر على الاستغناء عن شريكه، للاستفراد بالمنطقة, وبالتالي فإن استمرار الشراكة في ظل تصلب الموقف الإيراني الرافض ضمنا للاتفاق, وإصراره على إشراكه في الترتيبات الأمنية والعسكرية المتعلقة بمراقبة وجود الفصائل “الراديكالية” في المنطقة العازلة، وإشراكه بمراقبة الطريق الدولي والمعابر سيعيد ترتيب التفاهمات في اتفاق سوتشي.
السيناريو الثاني: انهيار الاتفاق
يفترض هذا السيناريو انهيار الاتفاق وانفضاض الشراكة بين الجانبين التركي والروسي، بعد التحول المتوقع للموقف الإيراني تجاه المنطقة العازلة وفق تفاهم روسي إيراني ضد المصالح التركية التي ستجد أن مكاسبها في بقاء الاتفاق عديمة الجدوى, ولكن انفضاض الشراكة وانهيار الاتفاق قد يكون عنيفا حيث ستلجأ روسيا إلى فرض إرادتها على تركيا بالقوة. وبالتالي فإن ذلك قد يؤدي إلى انفجار المنطقة التي ستشهد تحالفات جديدة تطيل من أمد الصراع في سوريا.
وبالنتيجة, لا يبدو في الظروف الراهنة ما يؤشر إلى أن السيناريو الثاني أرجح من الأول؛ لأن شركاء الاتفاق يعملون للتوصل إلى تسوية لتقاسم النفوذ ولو إلى حين وهذا ما سيبحثه بوتين مع أردوغان في زيارته المقررة إلى اسطنبول يوم الأحد القادم.
المصدر: بلدي نيوز