بعد ثماني سنوات، تساوي الدهر، عاشها الشعب السوري وما زال يعاني آثارها، سنوات مليئة بالقتل والدمار، مقابل تضحيات عظيمة وصمود أسطوري لشعب أعزل بلا قبطان، يعيش الحدث يومًا بيوم وساعة بساعة؛ تكشفت حقائق كثيرة لم نكن نعرفها أو نُدرك أهميتها، ولكننا اليوم صرنا نفهم جيدًا لماذا جرى كل ذلك، بهذه الطريقة الوحشية المقترنة بصمت وتخاذل دولي وعربي وإقليمي.دافع السوريون عن حرية السوريين والعرب، في وجه نظام أسدي طائفي مدعوم من ملالي إيران والميليشيات الطائفية التي جمعوها من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان، لقتل الثورة وتثبيت مشروع صفوي طائفي مقيت، ومع الأسف، كنا نعتقد أن دولة علمانية كروسيا لن تقبل بالتوسع الإيراني الطائفي، وكنا نعتقد بأن جرائم النظام المتزايدة، كمًا ونوعًا، ستجبر المجتمع الدولي على إيقافه عند حده، لكننا شهدنا صفقة قذرة تم فيها سحب السلاح الكيمياوي، وإطلاق يد الطاغية لقتل السوريين بوسائل القتل كافة حتى بالغاز السام.اكتشف السوريون حقائق كثيرة تخصّ قوى المعارضة والثورة وكذلك العالم، وبعض هذه الحقائق مريع ويصعب فهمه:– لم نكن متأكدين في البداية أن “أمن إسرائيل وأمن النظام الأسدي” مترابطان استراتيجيًا، كيف لا وقد خدم النظام “إسرائيل” وحافظ على أمنها 40 سنة، من دون أن تُطلَق رصاصة واحدة على حدودها مع سورية، وهذه نقطة جوهرية ألقت بظلالها على كل المشهد السوري بشكل غير مباشر. كنا نتوقع أن العالم الغربي الذي ينادي بقيم الديمقراطية والحرية والعدالة لن يسمح بوقوع جرائم إبادة ضد السوريين وبالتهجير والتغيير الديموغرافي، في القرن الواحد والعشرين، لكننا اقتنعنا بأن العالم الغربي منافق ومتخاذل، فهو يعتبر أن تلك القيم حكر على شعوبه، وأن الشعوب الأخرى -ومنها الشعب السوري- لم تنضج بعد لتعيش حياة إنسانية عصرية.– ساهمت الولايات المتحدة في تدمير الثورة، من خلال مبدأ “إدارة الأزمة” وليس حلها، وكانت تُعرقل أي تقدم حقيقي للثورة، ولم ترغب الإدارات الأميركية المتعاقبة في تغيير نظام الأسد، على الرغم من التصريحات الهزيلة ضده، التي كان يتم التراجع عنها سريعًا. وكل ما قامت به أميركا وروسيا وإيران يخدم المشروع الإسرائيلي في تدمير الجيش السوري، وفي تدمير البنية التحتية، وتفتيت المجتمع، وتقسيم سورية، وتحويلها الى دولة فاشلة.– وضعنا آمالًا على الدول العربية، وعلى شعوبها التي تعاطفت معنا في البداية، إذ جمدت عضوية نظام الأسد في الجامعة العربية، لكنها لم تقدّم للثورة دعمًا حقيقيًا، ثم تخلت عنها تمامًا في وقت متأخر.– الفصائل المسلحة الإسلامية جاءت وبالًا على الثورة، لأنها بدأت بضرب (الجيش السوري الحر)، ولاحقًا باعت الثورة وسلمت للنظام الأسلحة الثقيلة ومستودعات مليئة بالأسلحة والمواد الغذائية، بينما كان من المفروض أن يستخدموا تلك الأسلحة ضد النظام أو يتلفوها، وأن يُقدموا كل ما في مستودعات الأغذية للمدنيين المحتاجين إلى ذلك، وهذا دليل على المستوى المتدني لتلك الفصائل وقادتها وشرعييها المنافقين.– الثورة السورية هي ثورة شعب أراد ان يعيش بكرامته وينال حقوقه، لكن ما حدث تشيب له الولدان. فجأة ظهرت (داعش) و(جبهة النصرة) وكان هدفهما الأساسي هو إجهاض الثورة، تحت شعارات دينية مثل تأسيس دولة الخلافة الإسلامية ونصرة أهل الشام، فلعبوا لعبة قذرة أساءت إلى الثورة أكثر من النظام . وفهمنا اليوم أن (داعش) و(جبهة النصرة) كلاهما مشاريع استخباراتية عالمية، استخدمت لإرهاب الشعوب وقتل أي طموح للتغيير في المنطقة، وهذا ينسجم مع المشاريع الدولية الاستراتيجية (أميركا وإسرائيل ومن يدور في فلكهم) التي تقضي بقمع الشعوب، وتفكيك الدول وفرض أبشع طرق العولمة المتوحشة، حيث تداس القيم الإنسانية وحقوق الناس في خضم صراع الأجندات الدولية والإقليمية الاقتصادية والجيوسياسية والعسكرية.تبيّن لنا أن إيران تُشكل خطرًا على شعوبنا العربية والإسلامية، ليس أقلّ من خطر “إسرائيل” التي اغتصبَت فلسطين، فها هي بعد أن اغتصبت العراق ولبنان، تهيمن على النظام في دمشق وأجزاء من اليمن، وقامت بكل ذلك على مرأى من الغرب وأميركا، الذين يشتمون إيران ويهددونها، لكنهم يغضون النظر عن توسعها واستخدامها لميليشيات مأجورة طائفية في تنفيذ مشاريعها، والمصيبة أن الدول العربية التي كنا نأمل بدعمها للشعب السوري الذي يقاوم ايران، وهم يشتكون من إيران وتدخلها في الشؤون الداخلية، يتناسون ذلك، ويهرعون لتقديم الولاء والطاعة والتوبة أمام طاغية دمشق، متناسين دماء مليون شهيد سوري أزهقت في مجابهة المشروع الصفوي الطائفي الذي يهدد أمن تلك الدول العربية قبل غيرها. مفارقة عجيبة ولكن يبدو أن المعلّم واحد والمخرج واحد، والكل يأتمر بأمر الحكومة العالمية التي لا نعرف بالضبط أين مقرها ومن هم أعضاؤها.– فهمنا اليوم أن روسيا -بقيادتها الحالية- ارتكبت أكبر جريمة بحق الشعب السوري بحفاظها على النظام، متجاهلة حق الشعب السوري باختيار مستقبله الحر الكريم، ونعتقد أن التدخل العسكري الروسي في 2015، كان بإيحاء من الولايات المتحدة وأن روسيا متورطة في سورية، كما تورطت في أوكرانيا، وعلى روسيا أن تحل عقدة إعادة الإعمار وتأمين التمويل له، وإلا؛ فإن ذلك سيكون نكبة لها. ولم نكن نتصور أن نظامًا علمانيًا -كما هو مكتوب في الدستور الروسي- يمكن أن يدعم توجهات طائفية معينة، كما فعل في دعم إيران ونظام الأسد، وكلاهما يمارس سياسية الإبادة على أساس طائفي والتغيير الديموغرافي على أساس طائفي، وكل ذلك جرى تحت رعاية وحماية روسية، حتى إن كبار المسؤولين الروس والمستشرقين صرحوا بأنهم يخشون من انتصار الثورة السورية التي ستقيم دولة سنّية، وهذا الموقف فيه نفاق وتشويه للحقيقة، فالثورة ليست إسلامية ولا سنية، بل هناك حقيقة أن العرب السنة يمثلون أكثرية الشعب السوري، وهم أكثر المضطهدين من نظام عائلة الأسد الطائفية، فما ذنب السوريين إذا كان أغلب المحتجين من بين الأغلبية القومية والدينية، وكان ملايين المهجرين هم من نفس الشريحة، إضافة إلى كل ذلك، فإن التوجهات الاستراتيجية الروسية لا تخلو من مسحة خفية ذات طابع ديني، وقد تأكد ذلك في عدة مواقف رسمية روسية.– لمن لا يعرف من السوريين: إن بعض الأخبار المؤكدة تفيد بأن هناك تحالفات خطيرة، تشكلت فور انطلاقة الثورة لإجهاضها، ووضع سورية تحت سيطرة قوى ودول معينة، مستخدمين أجندات دينية (أرثوذكسية) لإعادة أمجاد الماضي الإمبراطورية، فروسيا مثلها مثل إيران لديها طموحات إمبراطورية جوهرها ديني أيضًا، وخاصة في التوسع في المشرق العربي.– عرفنا بعد عدة سنوات من عمر الثورة، أن غياب القيادة والاستراتيجية الثورية كان مؤشرًا سلبيًا وعاملًا مؤثرًا في تدهور المشروع الثوري، إضافة إلى اختراقات النظام والجهات الخارجية التي أفرغت النشاطات السياسية والعسكرية المعارضة من محتواها الثوري المفترض.– يجب أن نعترف بأن جزءًا مهمًا من الشخصيات التي ركبت موجة الثورة، وتصدرت هياكل المعارضة كانت تعمل لأجندات حزبية وشخصية وأجندات خارجية، والغريب أنهم ما يزالون حتى اليوم متمسكين بتلك الهياكل، على الرغم من تحولها إلى جثث هامدة.جاء اليوم دور القوى والشخصيات والتيارات الوطنية الحقيقية التي لم يسمح لها بأن تمارس دورها سابقًا، لأسباب منها ما هو متعلق باحتكار قيادات المعارضة للتمثيل على طريقة “الأسد إلى الأبد”.– لمن يتوهم أن الأسد انتصر والثورة فشلت، نقول: ما زال الشعب السوري حيًا يرزق، وإن كان منهكًا، ومعاناته هائلة، لكنه ذاق طعم الحرية، ولن يسكت مستقبلًا على الظلم، والمهم اليوم أن ينظم السوريون صفوفهم ويبدؤوا بشكل جديد تمامًا، ولا يكرروا التجارب الفاشلة وممارسات الأحزاب والقوى السياسية التي كشفت الثورة عجزها وعدم استيعابها للعمل الثوري، وعلى الناشطين الشباب أن يقودوا أي حراك جديد مع الاستفادة من خبرة السياسيين الذين يتمتعون بسمعة نزيهة، ولم يتلوثوا بالمال السياسي.– ثبت لنا اليوم أن الحراك الوطني الثوري يجب أن يبتعد عن الأيديولوجيا والأجندات الحزبية، ويركز على مهمات الثورة الأساسية التي تجمع بين توجهات السوريين كافة، من دون تمييز على أساس الانتماءات المختلفة، فنحن اليوم بحاجة إلى أجندة وطنية وتأكيد على الهوية الوطنية السورية. وقد أخطأت المعارضة باستخدام أساليب النظام، في المحاصصة الطائفية والدينية والقومية.المصدر: جيرون