القدس العربي:21/6/2020
محاولات تفجير العلاقة العربية الكردية في سوريا عبر إثارة الهواجس والممارسات الشاذة، وتشويه وتحوير وقائع التاريخ والجغرافيا قديمة، تبلورت بصورة أساسية في مرحلة حكم البعث الذي اعتمد سياسة تمييزية عنصرية فاقعة نحو الكرد، وذلك بالتوافق مع عقيدته السياسية التي تقوم على ضرورة تحرير وتوحيد الوطن العربي بكامله، وطرد كل من يصر على انتمائه غير العربي من ذلك الوطن.
وفي مرحلة حكم حافظ الأسد تغيّرت السياسة الرسمية المتبعة نحو الكرد على صعيد الشكل فقط، ولكنها ظلت سياسة البعث نفسها، وذلك انسجاماً مع حرص حافظ الأسد على إيجاد صيغة من التكامل بين أدوات سلطته، وهي الجيش والأجهزة الأمنية وحزب البعث كواجهة سياسية. فحزب البعث كتنظيم استخدمه حافظ الأسد ليتمكن من خلاله التحكم بمفاصل الدولة والمجتمع في جميع المناطق السورية. في هذه المرحلة خففت إجراءات القمع والإذلال التي كانت تمارس بحق الكرد بهدف منعهم من التعبير عن مشاعرهم القومية، أو ردعهم عن أية مطالبة بحقوقهم القومية. ولكن السياسات والمشاريع التمييزية الأساسية ظلت، بل اعتمد المزيد منها، ويُشار هنا إلى مشروع الحزام. كما أن التهم التخوينية الجاهزة استمرت سيفاً مسلطاً على رؤوس الناشطين الكرد أمام محاكم أمن الدولة في ظل حكم حافظ الأسد القمعي. هذا مع العلم أن ما كانوا يطالبون به لم يكن يتجاوز حدود المطالب التي باتت في عالم اليوم من البدهيات. فقد كانوا يطالبون برفع الظلم والاضطهاد، ويدعون إلى الاعتراف بالحقوق القومية العادلة ضمن إطار وحدة الوطن والشعب السوريين.
وفي بداية الثمانينات، وبعد أن تمكن حافظ الأسد من تثبيت أركان حكمه في الداخل السوري، عمل من أجل تحصيل دور إقليمي في مواجهة خصمه اللدود صدام حسين الذي كان ينافسه على قيادة العمل العربي، وذلك بعد إخراج مصر من جامعة الدولة العربية في عهد أنور السادات، وتراجع دورها حتى بعد عودتها في عهد حسني مبارك. فقد أراد الأسد السيطرة على الورقة الفلسطينية، وكذلك ورقة المعارضة العراقية، والورقة اللبنانية؛ كما عمل على استغلال الورقة الكردية في المنطقة ليستخدمها ضمن أدواته الإقليمية. ومن هنا كان تفاهمه مع حزب العمال الكردستاني الذي سمح له بتشكيل تنظيماته السياسية والعسكرية، وفتح له المعسكرات سواء في البقاع اللبناني أم في محيط دمشق. كما سمح له بالتحرك بحرية في مختلف المناطق الكردية السورية، خاصة في عفرين، رغم مطالبة الحزب المعني في ذلك التاريخ بتحرير كردستان الكبرى، بينما كان نظام حافظ الأسد نفسه يقمع الناشطين الكرد الذين كانوا يطالبون بإعادة الجنسية السورية إلى المواطنين الكرد السوريين وهي التي كانوا قد حرموا منها بموجب الإحصاء الاستثنائي الذي أجري حصراً في محافظة الحسكة عام 1962، وتبنّى نظام البعث نتائجه في عام 1965.
ولكن في ما بعد أضطر حافظ الأسد إلى إخراج عبدالله أوجلان من سوريا في اواخر عام 1998 نتيجة الضغط التركي، وربما الأمريكي أيضاً؛ ولكن النظام الأسدي، خاصة في مرحلة بشار، ظل محتفظاً بعلاقاته الأمنية مع التنظيم، بصورة مباشرة غير معلنة عبر واجهته حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو من بين الأحزاب التي شكلها حزب العمال الكردستاني في كل من سوريا والعراق وإيران، في سياق ما طرا على سياساته بعد اعتقال أوجلان من متغيرات جذرية، خاصة بعد افادات اوجلان أمام المحكمة التركية.
كما احتفظ النظام المعني بعلاقة غير مباشرة مع قيادة حزب العمال في قنديل عبر النظام الإيراني، وربما عبر غيره، وذلك على خلاف ما كان قد التزم به بموجب اتفاقية أضنة الأمنية مع تركيا عام 1998.
ومع بداية الثورة السورية، وربما قبل انطلاقتها، عاد الأسد الابن إلى دفاتر نظامه القديمة، وفعّل علاقاته مع حزب العمال الكردستاني من جديد، وأدخله عبر واجهة حزب الاتحاد الديمقراطي إلى المناطق الكردية، بقصد ضبطها، ومنعها من التفاعل بصورة كاملة مع الثورة السورية؛ وذلك بعد المظاهرات الكبيرة التي عمّت مختلف المدن والبلدات ذات الغالبية الكردية؛ وكانت المشاركة الكردية فيها هي الطاغية من جهة النسبة، مقابل مشاركة رمزية محدودة العدد من جانب المكونات الأخرى. ومنذ ذلك الحين لاحظنا بوضوح وجود خطة لإثارة خلاف كردي – عربي عبر افتعال الحوادث في مناطق مختلفة منها تل حميس وتل براك، وسري كانيي/ رأس العين، والحسكة، والهجوم الداعشي على كوباني، وعرض الجثث بصورة فظيعة مقيتة في عفرين.
ولكن العلاقات الكردية العربية على المستوى المجتمعي لم تتأثر سلبا رغم كل الجهود التي كانت من جانب المتطرفين والمتشددين العرب والكرد، ومن جانب أولئك الذين كانوا يفتعلون الأحداث تلبية لأمور كانوا قد كلفوا بها. ومن الملاحظ أن المتطرفين العرب كانوا غالباً من البعثيين ومن المرتبطين بالأجهزة الأمنية، أما المتطرفون والمتشددون الكرد، فقد كانوا من المتأثرين بالاتحاد الديمقراطي، وماكينته الإعلامية، وحتى من جانب المرتبطين بأجهزة النظام الأمنية التي تعمل بين الكرد، خاصة ضمن الأحزاب.
ولكن الأمر الذي كان وما زال يستوقف هو تمكن هؤلاء المتطرفين المتشددين من استمالة بعض النخب السورية الثقافية والسياسية المعروفة، من الذين يعبرون أحياناً عن مواقف لا تستقيم مع تاريخهم، ونظرتهم إلى الواقع السوري وسبل معالجة قضاياه ومشكلاته.
ويشار هنا إلى البيان الذي صدر مؤخراً تحت عنوان: “بيان إلى الرأي العام من شخصيات وتشكيلات سورية في المنطقة الشرقية بخصوص تفاهمات الأحزاب الكردية على مستقبل الجزيرة السورية”. وقد وقع عليه عدد لافت من الأشخاص معظمهم من خارج المنطقة الشرقية.
وهو بيان محوره تخمينات واستباق لتوافقات لم تتم حتى الآن، وعلى الأغلب لن تتم رغم الاعلان مؤخراً عن توافق مبدئي بين تشكيل مبهم ظهر فجأة تحت اسم “أحزاب الوحدة الوطنية الكردية” محركه الفعلي حزب الاتحاد الديمقراطي، والمجلس الوطني الكردي، وذلك لتعارض المواقف والحسابات بين الطرفين المعنيين. فالأول ينفذ أجندات تخص تحالفاته الإقليمية واستخداماته الدولية. في حين أن الثاني، على الرغم من كل الملاحظات حوله مستوى أدائه، له مشروع خاص بالكرد السوريين عموماً، وهو مشارك في مؤسسات المعارضة الرسمية سواء الائتلاف أم الهيئة العليا للتفاوض.
والأمر الذي يستوقف في هذا المجال، هو أن العديد من الموقعين على البيان كانوا على صلة جيدة مع هيئة التنسيق، وربما ما زالوا؛ وهم على معرفة تامة بأن حزب الاتحاد الديمقراطي كان عضواً فاعلاً في هيئة التنسيق، وذلك في الوقت الذي كان يعتدي على المتظاهرين الكرد السوريين المتفاعلين مع الثورة، ومثال عامودا صارخ في هذا المجال.
بل أن بعضهم كان يمني النفس بإمكانية اداء دور محوري من خلال قسد، وهناك من تفاخر يوماً بأن قسد تسيطر على نسبة المساحة الأكبر من الأرض السورية خارج حدود سيطرة النظام، وبالتالي يحق أن يكون له الرأي الأكثر وزناً في كل شيء.
ومما يستوقف في بيان “شخصيات المنطقة الشرقية” أنه في الوقت الذي يهاجم “الإدارة الذاتية” التي أعلنها حزب الاتحاد الديمقراطي- الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني من طرف واحد، وبقوة الأمر الواقع؛ ويعبر عن رفضه للمفاوضات الجارية بإشراف أمريكي مباشر؛ يعلن عن استعداد الموقعين عليه للتعاون “مع الحكومات الأمريكية والفرنسية وباقي الدول الصديقة” للإسهام في عملية تأمين عودة اللاجئين والمهجرين الآمنة والطوعية إلى المناطق التي هجروا منها؛ ولكن من دون أن يتحدث البيان عن الآليات والضمانات، والقدرات التي من شأنها تنفيذ هذه المبادرة على الأرض.
والطريف الذي لابد أن يُذكر في هذا المجال هو أن العديد من الموقعين على هذا البيان لم يدينوا دولة داعش، رغم المطالبات الكثيرة التي كانت في بدايات الإعلان عنها. الأمر الآخر الذي يثير التساؤل، ويطرح الكثير من الهواجس، هو أن البيان يُظهر أهمية اختيار “الشركاء الجيدين” في سياق تناوله لموضوع أهمية التعاون بين كافة المكونات السورية، وهذا مصطلح يحتمل تفسيرات عدة متناقضة، كان من الضروري بمن روج للبيان من المثقفين والأكاديميين أن يتنبهوا له.
بقي أن نقول: إن منطقة الجزيرة هي في نهاية المطاف منطقة سورية، تتميز بتنوعها القومي والديني والمذهبي. ولن تحل مشكلاتها، ولا مشكلات سوريا بعقلية المحامين التي تتمثل في إصرار كل فريق على اختيار دلائله وحججه التي تثبت أحقيته وأسبقيته؛ وذلك بطريقة انتقائية. فهناك مشكلات واقعية قائمة لا بد من معالجتها بمشروع وطني يحترم الخصوصيات، ويعترف بالحقوق، ويطمئن كل السوريين من دون أي تمييز أو استثناء على قاعدة ضمان المشاركة العادلة في الإدارة والموارد؛ وهذا لن يتم ما لم تقطع نخبنا مع المنظومة المفهومية البعثية القوموية التي رسختها سلطة الاستبداد على مدى عقود، حتى باتت في منظور بعضهم صيغة من صيغ المسلّمات التي لا تقبل أي جدل أو تشكيك.
*كاتب وأكاديمي سوري