كتب إبراهيم ريحانخلال سنتيْن من رئاسة الوزراء في العراق، كانَ مُصطفى الكاظمي كمن يحفر الجبل بإبرة.هادئ رصين، عارف ومُدرك. رشيقٌ في السّياسة، يعلم جيّداً كيف يسير على الحبل المشدود. تحوّل في وقتٍ قصيرٍ من شخصيّة مؤثّرة في الدّاخل العراقيّ، إلى موسيقار يضبط إيقاع السّياسة في الشّرق الأوسط.
كُلّما سمعتُ باسم مُصطفى الكاظمي، تذكّرتُ رئيس الوزراء اللبنانيّ الأسبق رفيق الحريري. تنظُر إليه الدّول بمن فيهم “خصومه” بعيْن الاحترام. نسجَ الكاظمي علاقات ودّيّة ودافئة مع قادة الدّول العربيّة وخصوصاً الخليجيّة. السّرعة التي استطاع فيها كسبَ ثقتهم، طوَت صفحة غزو صدّام حسين للكويت، وإساءة القوى الموالية لإيران لها.في الولايات المُتحدة، يُنظَر إليه كرجل دولة ومؤسّسات.
فقد أثبت على الرّغم من إبحار سفينته في بحرٍ من الميليشيات بعناوين مُختلفة، أن لا خيارَ له سوى الدّولة. قارع تغوّل المُسلّحين، في وقتٍ لم يجرؤ أحد مّمن كانوا قبله منذ سنة 2003 على فعل ذلك.إلّا أنّ أهمّ ما استطاع الكاظمي فعله هو الانتقال بالعراق، بكلّ سلاسة من اصطفاف المحاور وساحة نزاعات وتصفية حسابات، إلى ساحة تلاقٍ وحوار. وبلا ريْب فإنّ خير شاهدٍ على ذلك نجاحه في جمع المملكة العربيّة السّعوديّة وإيران على طاولة حوارٍ عجزَت عنها كبرى الدّول.
لا شكّ أنّ اللحظة الإقليميّة والدّوليّة ساعدَته في ذلك. لكنّ هذا لا ينفي أنّ العامل الأبرز في هذا النّجاح هو شخصيّته التي تعلم جيّداً متى وكيف يقتنص الفرصة. وهو يعلم أيضاً أنّ جارة العراق المُزعِجة، إيران، لم تكن تفضّله لرئاسة الوزراء، إلّا أنّها لم تستطع أن ترفضَ أو تُعارض تولّيه مقاليد الحكم في “حديقتها الخلفيّة”.حاول الكاظمي، ولا يزال تثبيت المؤسّسات في دولة نهشتها الميليشيات الإيرانيّة. يحظى بكلّ الدّعم الدّوليّ والعربيّ المطلوب. أبرز تجليّات هذا الدّعم كان الثّناء الاستثنائيّ الذي ناله بعد لقائه الثّنائيّ بالرّئيس الأميركيّ جو بايدن على هامش مؤتمر القمّة الذي عُقِدَ في جدّة قبل أسبوعيْن ونيّف.
من يقرأ البيان الثّنائي الذي صدَر عقب اللقاء، يقفُ عند تكرّر الثّناء الأميركيّ على جهود رئيس الوزراء العراقيّ في فقرتيْن مُنفصلتيْن في عقد الحوار السّعوديّ – الإيرانيّ.
يعرف الكاظمي ماذا تريد واشطن. تُريدُ الشّرق الأوسط المُستقرّ. ومنطقةً هادئة، في ظلّ اشتعال الحرب بين روسيا وأوكرانيا وانعكاساتها على سوق الطّاقة. لا شكّ أنّ مُفتاح الاستقرار في المنطقة هو لدى الرّياض وطهران.فالأولى هي أكبر دولة عربيّة في الخليج، وأحد أكبر مصدّري النّفط والمؤثّرين في سوق الطّاقة.
أمّا طهران فهي أيضاً مؤثّرة في سوق الطّاقة، لكنّها في الوقت عينه أكبر خطرٍ يتهدّد أمن الملاحة البحريّة بإشرافها على مضيق هرمز الذي تعبر منه 20% من احتياجات العالم من النّفط.
هذا عدا عن تمركزِ ذراعها اليمنيّة، ميليشيات الحوثي، على مشارف مضيق باب المندب الاستراتيجيّ، وثاني مضيق بالأهميّة بعد هرمز.هي مهمّة ليسَت بالسّهلة، لكن من يُتابع الهدوء اللّافت على الجبهة اليمنيّة ويقرأ سطور البيان الأميركيّ – العراقيّ، يُدرك أنّ الكاظمي نجح إلى حدّ بعيد في الخطوة الأولى من مهمّة الألف ميل بين الجاريْن اللدوديْن، السّعوديّة وإيران.