“بعد خروجي من المعتقل لم أكن أعرف أنني ممنوعة من السفر، وعندما أردت استخراج جواز سفري من دائرة الهجرة والجوازات في حماة، أخبرني الموظف بمنعي، وطلب مني مراجعة فرع أمن الدولة، ولم يعطِ اعتبارًا لكوني خرجت براءة من المحكمة دون أن يصدر بحقي أي حكم، ولا لورقة كف البحث التي كانت بحوزتي”، تقول نور الخطيب، وهي معتقلة سابقة من مدينة حماة.
نور واحدة من قائمة طويلة لسوريين مجردين من حقوقهم المدنية والسياسية في سوريا، من معتقلين سابقين وناشطين سياسيين وحقوقيين وصحفيين وغيرهم، مع كل ما لذلك من تبعات على حياتهم ومستقبلهم.
لم تراجع نور الفرع بسبب طبيعة الظروف الأمنية في تلك الفترة، وخوفًا من أن يُعاد فتح ملفها مرة أخرى وتدخل في دوامة من جديد، فقد كانت السنة التي قضتها بالمعتقل كفيلة بمنعها من التفكير بالذهاب للفرع، ولذا لم تستخرج جواز سفر، وقررت بعدها الانتقال إلى مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة النظام.
وتشير نور إلى أن اعتقالها كان في بداية عام 2012 على خلفية مشاركتها في الحراك الثوري وإسعاف الجرحى، وحينها لم تكن توجد محكمة إرهاب بعد، وقد كانت محكمتها عسكرية وانتقلت بعدها لمحكمة مدنية ليتم الإفراج عنها لاحقًا مع إعطائها ورقة كف البحث التي تكفل عدم التعرض للمعتقل من قبل الفروع الأمنية عند الخروج من السجن.
وتُبيّن أن غالبية المعتقلين لا يعرفون ما الأشياء التي حرموا منها عند الإفراج عنهم، بل يكتشفون ذلك لاحقًا عند اضطرارهم لاستخراج إحدى الأوراق من الدوائر الرسمية، أو أن المعتقل عند عودته إلى وظيفته يتفاجأ أنه قد تم فصله.
تعمل نور الخطيب اليوم مسؤولة قسم المعتقلين في “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، ومن خلال مشاهداتها ومقابلتها لمعتقلين سابقين لاحظت أن الحرمان من الحقوق المدنية والسياسية يذكره القاضي غالبًا بشكل شفهي فقط، لتقوم بعدها الأفرع الأمنية بتوزيع ذلك على الدوائر الرسمية في الدولة، وعلى كل ما يخص المعتقل لمنعه من تلك الحقوق.
عبد الجبار (معتقل من ريف إدلب) في سجن حماة المركزي، تحدث لعنب بلدي عن ظروف محاكمته، فقد أصدرت محكمة الإرهاب بحقه حكمًا بالسجن لمدة عشرة أعوام مع غرامة قدرها 150 ألف ليرة سورية، إلى جانب تجريده من حقوقه المدينة لمدة خمسة أعوام بعد انتهاء مدة حكمه، ويُلغى التجريد بعد انقضاء المدة، ومراجعته للجهات المختصة، وفق ما ذكر القاضي شفهيًا عند النطق بالحكم.
القانون الدولي يكفل للأفراد حقوقهم المدنية والسياسية
ويكفل “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”، والذي أصدرته لجنة حقوق الإنسان التابعة لهيئة الأمم المتحدة إلى جانب “العهد الدولي الخاص للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية”، واعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966 ليدخل حيز التنفيذ عام 1976، حماية الفرد في حريته وتمكينه من مزاولة نشاطاته.
وتضمن “الحقوق المدنية والسياسية” قدرة الفرد على المشاركة في الحياة المدنية والسياسية للمجتمع والدولة دون تمييز أو اضطهاد، وهي تحمي الفرد من تعدي الحكومات والمنظمات الاجتماعية والأفراد.
وجاء في ديباجة “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية” أن الدول الأطراف في هذا العهد تقر بأن هذه الحقوق تنبثق من كرامة الإنسان الأصيلة فيه، وتدرك أن السبيل الوحيد لتحقيق المثل الأعلى المتمثل، وفقًا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في أن يكون البشر أحرارًا، ومتمتعين بالحرية المدنية والسياسية ومتحررين من الخوف والفاقة، هو سبيل تهيئة الظروف لتمكين كل إنسان من التمتع بحقوقه المدنية والسياسية، وكذلك بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية”.
فعلى أي أساس يتم حرمان الشخص من حقوقه المدنية والسياسية في سوريا، وما القوانين التي تنص على ذلك، وماذا يترتب على ذلك الحرمان؟
يمكن للمحكوم “رد الاعتبار”
مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، قال لعنب بلدي إن التجريد من الحقوق المدنية والسياسية يشمل معظم المعتقلين سواء الذين تمت محاكمتهم من قبل محكمة أمن الدولة قبل عام 2011 أو الذين تمت محاكمتهم في محكمة الإرهاب بعد عام 2012، ولكن ليس جميعهم.
وأوضح أن التجريد من هذه الحقوق قد يُفرض لعدد محدد من السنوات ثم يُقدم الشخص المحكوم ورقة “رد اعتبار” للمحكمة من أجل إسقاط الحرمان عنه، ولكن في بعض الحالات يكون حكم التجريد مدى الحياة.
وأشار إلى أن الحرمان من الحقوق المدنية والسياسية يشمل أمورًا مهمة لكنها لا تدخل ضمن نطاق تفاصيل الحياة اليومية ومنها على سبيل المثال الحرمان من تبوُّء الوظائف العامة، ومن الترشح والانتخاب، ومن وظائف التعليم العام أو الخاص ومن حق حمل الأوسمة الرسمية.
الحرمان من الحقوق في القوانين السورية
المحامية دلال الأوس أوردت لعنب بلدي النصوص القانونية في الدستور السوري المتعلقة بتجريد الشخص من حقوقه المدنية والسياسية.
وبيّنت في هذا السياق أن قانون العقوبات السوري نص على عقوبة التجريد المدني وهي من العقوبات الماسة بالحقوق، والتي قد تكون عقوبة أصلية أو فرعية، ويعود أمر تقدير الحكم فيها لسلطة القاضي.
وأوضحت أنها تكون أصلية في العقوبات الجنائية السياسية وفق المادة “38/4” من قانون العقوبات، أو فرعية ملازمة لعقوبة أصلية كالأشغال الشاقة المؤقتة أو المؤبدة وفق المادة “42/4” من قانون العقوبات، إذ تنص المادة “49” منه على آثار التجريد.
حكم المنع من السفر
أما عن حكم منع المحكوم من السفر ، فأشارت الأوس إلى أن القانون السوري لم ينص على هذه العقوبة، سواء كعقوبة أصلية أو فرعية أو كتدبير احترازي أو إصلاحي، ولكن يتم استخدامها كإجراء وقائي في بعض القوانين الخاصة والاجتهادات، بما فيها الأمور المالية والقضايا الشرعية.
وعادة ما تقوم الأفرع الأمنية ضمن منهجيتها بخرق كل القوانين، وبإصدار قرارات منع السفر ضد المعارضات والمعارضين والناشطات والناشطين.
عقوبة التجريد تحرم من حقوق يصونها الدستور
وعلى الرغم من أن الدساتير السورية، وآخرها دستور عام 2012، نصت جميعها على أن الحرية حق مقدس، وأن الدولة تكفل للمواطنين حريتهم الشخصية وتحافظ على كرامتهم وأمنهم، كما أكدت أن المواطنة مبدأ أساسي ينطوي على حقوق وواجبات يتمتع بها كل مواطن ويمارسها وفق القانون والحرية في التنقل (المادتان “33” و”38″ من دستور 2012).
ورغم أن المواطنة ترتبط عادة بحق العمل والإقامة والمشاركة السياسية في الدولة والمجتمع، إلا أن كل ذلك يُضرب به عرض الحائط، من خلال آثار عقوبة التجريد المدني، والتي تحرم المواطن من العديد من حقوقه المدنية والسياسية كالتصويت والعمل والتملك والانتخابات إلى جانب الحق في التنقل، الذي استثنى منه الدستور من صدر بحقه قرار قضائي أو قرار من النيابة العامة، في مخالفة للمادة رقم “13” من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
صلاحيات واسعة للقضاة
وقد أصدر النظام السوري في هذا السياق عام 2012 قانونين، الأول هو القانون رقم “19” الخاص بجرائم الإرهاب، وذلك في سبيل تجريم أي حراك شعبي ضده، والثاني هو القانون رقم “22” القاضي بإحداث محكمة قضايا الإرهاب، والذي أعطى من خلاله صلاحيات واسعة للقضاة، تصل لدرجة إعفائهم من اتباع أصول المحاكمات في جميع أدوار وإجراءات الملاحقة والمحاكمة، وكان ذلك بهدف إضافة هذه المحكمة إلى الوسائل الأخرى التي يستخدمها النظام للضغط على معارضيه.
وتوضح الأوس أنه وبموجب هذين القانونين تصدر الأحكام في محكمة الإرهاب بشكل علني، إذ ينطق القاضي بالحكم شفهيًا، كما أنها تصدر بشكل مكتوب، لكن وبسبب القيود التي تُفرض على المحامين والمتهمين من حيث الاطلاع على كامل ملف المحكوم والوصول للوثائق، والتي تدخل من ضمنها القرارات الصادرة في كل قضية، يُمنع أخذ أي صور مصدقة أو غير مصدقة عن هذه القرارات، ويُسمح للمحامي أو الموقوف بالاطلاع على الأحكام لكن بشكل سريع وغير كاف للاطلاع على حيثيات الحكم.
تجميد ومصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة
وفيما يتعلق بأملاك المحكوم وهل يتم تجريده منها، أشارت الأوس إلى أن القانون رقم “19” لعام 2012 نص على عقوبتي تجميد ومصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة للمحكوم.
وبموجب ذلك فالتجميد هو حظر التصرف بالأموال المنقولة وغير المنقولة أو تحويلها أو نقلها أو تغيير صورتها لفترة معينة أو خلال مراحل التحقيق والمحاكمة. أما المصادرة فهي الحرمان الدائم من الأموال المنقولة وغير المنقولة وانتقال ملكيتها إلى الدولة وذلك بموجب حكم قضائي.
وغالبًا ما يصدر قرار المصادرة أو تجميد الأموال من قبل الأفرع الأمنية بشكل مباشر ويتم تحويل هذا الكتاب إلى وزارة المالية والسجل العقاري لوضع الإشارة على صحيفة الملكية والقيام بإجراءات التجميد أو المصادرة.
ونوّهت الأوس إلى أنه يمكن في هذه الحالة الطعن بهذا القرار أمام القضاء الإداري، أو أمام الدائرة الخاصة بمحكمة الإرهاب في محكمة النقض، مشيرة إلى أنه حتى يثبت في هذه الطعون يتوجب الانتظار حتى تحل المشكلة قضائيًا، ويُعد هذا الأمر نظريًا بسبب تحكم الأجهزة الأمنية بمفاصل القضاء أيضًا في سوريا.
المصدر: عنب بلدي