أسامة قاضي
موقع تلفزيون سوريا:17/11/2020
ليس غريباً على العقل “السياسي- العسكري” الروسي أن لا يفقه حقيقة الأزمة السورية، كونها أزمة حرية وكرامة وأمن، وقضية بناء عقد اجتماعي جديد مع حكومة تحترم إنسانيته، تكون الدولة محكومة مدنياً وليس أمنياً وعسكرياً، فالمهجّرون قسرياً من السوريين لم يخرجوا بسبب إعصار أو فيضان أو كارثة طبيعية! وحتى لو كان كذلك فالناس عادةً تعود إلى بيوتها فور انتهاء الكارثة ولا يُجبر الناس للعودة ولازال الزلزال والإعصار ينسف بيوتهم!يعجب المراقب من حالة الإنكار الروسي والإصرار على سردية أن 12 مليون سوري خرجوا بسبب “الإرهاب”!
طبعاً “مؤتمر عودة اللاجئين” غير معني بإرهاب النظام وحلفائه وقتل وتعذيب عشرات الألوف من السوريين بالأدلة القطعية، بل على العكس يحاول منظمو المؤتمر أن يقنعوا العالم أن الروسي هو “ملاك الرحمة” حيث طائراته تسكن كالملائكة سماء سوريا مهمتها الوحيدة ليس المساعدة في إطفاء حرائق 156 غابة بل تمشيط الأرض السورية بـ316 نوعاً من أنواع الأسلحة حسب وزير الدفاع الروسي “ملاك الرحمة” سيرغي شويغو.
المؤتمر يريد أن يطوي صفحة تدمير سوريا بالطائرات الروسية وما تبقى من الطائرات السورية التي ترمي حممها من براميل القتل، وتساعده الميليشيات الإيرانية وأذرعها في قتل وتهجير السوريين، وليس آخرها في الشهر 12 من عام 2019 حيث صرحت الأمم المتحدة – قبل عشرة أشهر من انعقاد المؤتمر- إلى أن أكثر من 235 ألف شخص نزحوا في غضون أسبوعين من شمالي غربي سوريا جراء التصعيد العسكري، ولم يذكر أحد من المهجرين قسراً أن سبب إخراجهم وتدمير منازلهم هو “الإرهاب” بل الآلة العسكرية والقصف الجوي لهم.
بعد 64 يوماً من زيارته الأولى مع وزير الخارجية لافروف إلى دمشق عاد نائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف في الحادي عشر من نوفمبر إلى دمشق إلى ما سمي “مؤتمر اللاجئين” وذلك من أجل استكمال “شرعنة” الاتفاقيات الموقعة ومحاولة البدء بها، محاكياً “مشروع مارشال” لأوروبا، ولكن الفرق أن مبلغ مليار دولار الذي يمثل قمة السخاء الروسي من أجل إعادة الإعمار لا يشكل 1 بالمئة مما أنفقته الولايات المتحدة على ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، التي دخلت بحرب نظامية بجيوش متقابلة، وليس قصفاً لمدنيين عزل ليس لديهم جيش نظامي، وهم فقط مادة للتهجير.
مشروع مارشال بدأ بعد أن تحررت ألمانيا من السلطة السياسية الحاكمة التي كانت تحمل مشروعاً استعلائياً واستعمارياً، ولم تبدأ أميركا مشروعها الإعماري إلا بعد أن تخلصت من هتلر ولم يعد موجوداً في “القصر الجمهوري”، وربما هذا الفرق الذي استعصى على الفهم الروسي صاحب الفكرة الإبداعية لمؤتمر إعادة المهجّرين!الطريف هو البداية الهزيلة لمشروع عودة المهجرين من خلال “تعهد” السيد ميزينتسيف بمبلغ مليار دولار الذي يُشك أن تدفعه أي شركة روسية خاصة في أرض مدمرة لا يملك أهلها قوت يومهم، بل هي ستخصص حسب ميزينتسيف “لترميم الشبكات الكهربائية والمجمعات الصناعية ومشاريع إنسانية أخرى في سوريا” بمعنى أنها محاولة لتنفيذ مشاريع الكهرباء التي تم التوقيع عليها من أجل سحب البساط من تحت الشركات الإيرانية التي وقعت العديد من الاتفاقيات التي لم تحل شيئا يذكر من مشكلة الكهرباء السورية.والصراع الإيراني الروسي على ما بقي من الضرع الاقتصادي السوري واضح للعيان وقد صرح به الجنرال محسن رضائي، أمين عام مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني، أن بلاده ستستعيد ضعف الأموال التي أنفقتها على نظام الأسد حيث قال لموقع “انتخاب” الإيراني في أواخر فبراير/ شباط 2018 إن بلاده أنفقت 22 مليار دولار على الحرب السورية، للحفاظ على الأمن القومي الإيراني، والدفاع عن مصالحها بالمنطقة موضحاً: ” لم نحقّق انتصارنا بالأموال، ولكنّنا إذا أعطينا دولارا واحدا لشخص ما، فإننا سنأخذ ضعفه”، وقبله طالب اللواء يحيى رحيم صوفي، المستشار العسكري للمرشد الأعلى لإيران علي خامنئي، نظام الأسد بتسديد فاتورة بقاء الأسد في السلطة، حيث قال صوفي في ندوة بمعهد الدراسات المستقبلية في العالم الإسلامي:
“نحن جادون في الدفاع عن سوريا وسلامة أراضيها، لكن على النظام تسديد فاتورة التكاليف، يوجد في سوريا نفط وغاز ومناجم فوسفات، ويمكن لهذه الثروات الطبيعية تسديد الفاتورة، وكذلك انتقد موقع “تابناك” نظام الأسد بسبب إعطاء اتفاقات هامة للروس وتهميش دور إيران في مرحلة الإعمار، مطالبًا باتفاقات طويلة المدى لتغطية تكاليف التدخل الإيراني.
الجدير بالذكر أن وزارة الكهرباء السورية عام 2017 وقعت بروتوكولات مع الروس من أجل مشاريع لرفع الطاقة الكهربائية باستطاعة إجمالية 2300 ميغاواط، منها 500 ميغاواط ستنفذ في محطة توليد كهرباء بدير الزور، إضافة إلى أربع مجموعات بخارية باستطاعة 1200 ميغاواط لمحطتي محردة وتشرين، و600 ميغاواط لإعادة تشغيل محطة توليد حلب بقيمة إجمالية تقدر بنحو تريليون ليرة.
كذلك وقعت شركة “مبنا غروب” الإيرانية عقود بنحو تريليون ليرة سورية في نفس العام أيضاً لتوريد 5 مجموعات توليد عاملة على الغاز والمازوت لمحطة توليد حلب باستطاعة إجمالية 125 ميغاواط، إضافة لعقد لتأهيل العنفة الغازية 34 ميغاواط في محطة توليد بانياس وتحويلها للعمل على الغاز الطبيعي والمازوت ورفع استطاعتها إلى 38 ميغاواط.الإيرانيون أرادوا الحصول على عقود الكهرباء بدل الروس فسعوا للحصول على مشروع محطة توليد اللاذقية باستطاعة 508 ميغاواط، بدارة مركبة في مدينة اللاذقية، وتنفيذ مجموعتين بخاريتين تعملان على الغاز والفيول في محطة توليد بانياس باستطاعة إجمالية 650 ميغاواط، كذلك حصلوا على عقود إعادة تأهيل المجموعة الأولى والخامسة في محطة توليد حلب باستطاعة إجمالية 400 ميغاواط، وإجراء الصيانة العامة لمجموعات التوليد الغازية المركبة في محطة توليد جندر وتحسين استطاعتها من 162 ميغاواط إلى 182 ميغاواط لكل مجموعة.
ويأتي بوريسوف في مؤتمره ليتعهد بمليار دولار في نفس القطاع ليوصل رسالة للإيرانيين أنه الأولى بمشاريع الكهرباء، رغم أن كل المشاريع السابقة معظمها لم تنجز بعد منذ ثلاث سنوات بدليل انقطاع التيار الكهربائي بشكل كبير إلى الآن، وليته قبل أن يعقد مؤتمراً لعودة اللاجئين بدون ضمان عودتهم الآمنة والكريمة، أن يشحن باقي كمية شحنة القمح التي تعهد الروس بها أول عام 2020 وهي 200 ألف طن من القمح حيث تم وصول باخرة إلى مرفأ طرطوس في الشهر الخامس وتم البدء بتفريغ حمولتها البالغة 26 ألف طن قمح، ولازال السوريون ينتظرون بقية الشحنة.
إن أقل التقديرات المتحفظة لإعادة إعمار سوريا هي 400 مليار دولار، تعهد الروس منها بمليار دولار يتيم! والذي هو عبارة عن مشاريع تعهدوا بإنجازها منذ سنوات وتعذر إنجاز معظمها بسبب ضعف التمويل.لعل المخطط الروسي لإقامة مؤتمر إعادة اللاجئين لم يخطر بباله حجم الفشل الممكن تحقيقه، وحسبَ أنه سيقوم بشيء أشبه بـ”مشروع مارشال” لإعادة بناء ألمانيا حيث تتقاطر الدول إلى إعادة إعمار منطقة النفوذ الروسي في سوريا كي تساعده على استعادة شيء من ديونه، من تكاليف عسكرية لمدة خمسة سنوات، والتي كان من المفروض أن تكون “نزهة” مدتها ثلاثة أشهر كما حسب الروس عام 2015.إن عدد السوريين الحالي 12 مليون نسمة تقريباً في منطقة النفوذ الروسي، تسعين بالمئة منهم تحت خط الفقر ونسبة البطالة تجاوزت الـ80 بالمائة، ولديهم مشكلة في الطاقة والوقود والخبز وانقطاع الكهرباء والمياه وسوء الخدمات الصحية والتي ازدادت سوءاً مع جائحة الكورونا، فكيف سيكون الحال لو عاد لها فقط خمسة ملايين سوري إضافيين، من أين للنظام السوري أن يضمن لهم العودة الكريمة؟ ويؤمن لهم الخدمات اللازمة وهو عاجز عن تقديمها، فضلاً عن انعدام الثقة في إمكانية ضمانة أمنهم وعدم القبض عليهم وإيداعهم سجون فروع الأمن؟وزير الشؤون الاجتماعية والسياحة اللبناني في حكومة تصريف الأعمال رمزي المشرفيه حسب أن هناك أموال طائلة قادمة لـ”مشروع مارشال” الروسي فقام فوراً بإعلان أن تقدير “الأكلاف المباشرة وغير المباشرة للنزوح منذ 9 سنوات بأكثر من 40 مليار دولار نتيجة الضغط على الخدمات العامة والمواد المدعومة والبنى التحتية وفرص العمل” لعله يضمن حصته من الغنائم القادمة! ولكنه ربما أصيب بالإحباط عندما لم يجد متحدثين في المؤتمر سوى كلمتين للوفد الإيراني وكلمتين للوفد الروسي وهو يعلم حجم الكوارث الاقتصادية في البلدين والتي آخرها انخفاض الروبل الروسي لمستوى 80 روبلا للدولار الواحد لأول مرة منذ مارس، وكذلك ارتفاع عدد العاطلين عن العمل في روسيا بنحو 400% ما بين مارس وسبتمبر2020، وأن عدد العاطلين في روسيا سجل 3.6 ملايين عاطل مقارنة بنحو 727 ألفا في مارس/آذار حسب وزارة العمل الروسية.العجيب أن الروسي والإيراني يريدان “إعادة إعمار” سوريا عام 2020 ولكن كل طرف منهم وقع على ما يزيد على خمسين اتفاقية معلنة عدا الاتفاقيات غير المعلنة، فيكفي أن نعرف أن إيران نكاية في الروس وقعت دفعة واحدة على 11 اتفاقية ومذكرة تفاهم في يناير 2019 في المجال الاقتصادي والعلمي والثقافي والبنى التحتية والخدمات والاستثمار والإسكان، وذلك في ختام اجتماعات الدورة الـ 14 من أعمال اللجنة العليا السورية- الإيرانية المشتركة، إضافة لعشرات الاتفاقيات الأخرى، والسؤال ماذا سيبقى لأي مستثمر يريد إعادة الإعمار في سوريا بعد أن ذهب الروس والإيرانيون بكل ما يمكن استثماره في سوريا؟حاول الروس استعجال المؤتمر كنوع من تطبيق واحد من طلبات قانون قيصر وهو إعادة اللاجئين ونسيان شرطي العودة الآمنة والكريمة، بعد حل سياسي حقيقي وإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية وبعد إطلاق سراح مئات ألوف المعتقلين، وحاول منظمو المؤتمر التذاكي على دول العالم التي لم تحضر بل قاطعت علناً مهزلة مؤتمر إعادة اللاجئين، وكانت أولى ثمار المؤتمر أن هبطت سعر الليرة السورية من 2400 إلى 2600 ليرة للدولار الواحد!أنصح السيد بوريسوف بإقناع نظام الأسد بإلغاء المرسوم 3 لعام 2020 لتخفيف حدة الأزمة الاقتصادية لأنه حرم سوريا من أكثر من مليار ونصف دولار سنوياً من تحويلات العاملين السوريين في الخارج لمساعدة أهلهم، وكذلك إلغاء أطرف رسم في التاريخ وهو رسم الدخول للسوريين لعل هذا يكون أنفع من هذا المؤتمر الذي لم يسمن ولم يغن من جوع، حيث أنه لا يعقل أن يرحب الروسي بعودة السوري لأرضه شرط أن يدفع رسماً لعودته لبيته بطريقة مخالفة لدساتير الأرض!