عبد الباسط سيدا /مركز حرمون
من بين المشكلات التي يعانيها المجتمع السوري راهنًا، مشكلة الاستقطاب الحاد الحاصل بين الإسلاميين والعلمانيين، ممن اتخذوا من الإسلام والعلمانية أيديولوجية مطلقة، لا تراعي الواقع المشخص الذي نعيشه، كما لا تأخذ بعين الاعتبار طبيعة التراكمات التي كانت، والمراجعات التي حدثت، والحاجات الفعلية لمجتمعنا التي تستوجب حلولًا إبداعية تقوم على احترام الخصوصيات، وضمان الحقوق لطمأنة الجميع من دون أي اسثناء.
الإسلام هو دين الغالبية في سورية، وغالبية المسلمين هم من المتدينين المعتدلين من غير الملتزمين أو المتمسكين بأيديولوجيات الإسلام السياسي، بمختلف تياراتها وتدريجاتها.
وقد أصبح الإسلام لدى هذه الغالبية شكلًا من أشكال النظام القيمي على المستويين الفردي والجمعي، وهي تعدّه صيغة من صيغ الانتماء والهوية والثقافة.
ولكن كل ذلك لم يعرقل التواصل الإيجابي الفاعل بين هذه الغالبية وبين المكونات الدينية والمذهبية الأخرى، فكان الاحترام المتبادل للخصوصيات، كما كان التفاهم والعمل المشترك في مختلف الميادين، وفي عموم الجغرافيا السورية، قبل تأسيس الدولة السورية الحديثة منذ نحو مئة عام، وبعده.
ولم تشكل هذه الغالبية في يوم من الأيام ضغطًا على الاتجاهات الفكرية المتعددة، ولم تمارس تهديدًا ضد أصحابها أو المتأثرين بها.إن جهل، أو تجاهل، هذه الوقائع، أو محاولة القفز من فوقها عبر التبشير بثمار إنجازات مجتمعات أخرى، سبقتنا على صعيد التطور والتقدم في معظم المجالات، وبخاصة مجال تنظيم وإدارة المجتمع، واختيار أنظمة الحكم التي مكّنتها من تجاوز كثير من المشكلات، ومنها مشكلات كانت تبدو في وقت ما وكأنها عصية على المعالجة، إن لم نقل مستحيلة الحل؛ يوقعنا في كثير من التخبطات، وينفخ في نار كثير من المشكلات التي تستوجب معالجتها التهدئة والعقلانية بأوسع معانيهما.
فما نقرأه من كتابات، ونسمعه من أحاديث، من جانب بعض ممّن يصرون على علمانية لا تراعي الخصوصية السورية، أو أنهم يطالبون بالعلمانية من جهة، ويقفون من جهة أخرى إلى جانب النظام المتحالف مع نظام ولي الفقيه الإيراني ووكيله المحلي “حزب الله”، يؤكد أن العلمانية -لدى هؤلاء- لا تُقدّم بوصفها طريقًا للحل عبر الفصل بين الدين والدولة، مع احترام الأول، وعدم التمييز بين المتدينيين وغير المتدينيين على صعيد الحقوق والواجبات، وإنما تعتمد أيديولوجية دعائية للتغطية على المواقف الرمادية الملتبسة.
ومن الملاحظ أن “علمانية” هؤلاء تصل في بعض الأحيان إلى حد معاداة الدين، بكل أشكاله وصيغه، وغالبًا ما يكون التركيز في هذا المجال على الدين الإسلامي، دون غيره، وهو ما يثبت أن هؤلاء يتبنون أيديولوجية متكلسة، لا تقوم على فهم عميق بالواقع السوري القائم على التعددية والتنوع في الميدان المجتمعي، وهي أيديولوجية يحاول أصحابها، بسبب نزعاتهم الشخصية أو هواجسهم وعقدهم غير المفصح عنها، التبشيرَ بما لا يستقيم مع طبيعة وحاجة المجتمع السوري.
فهؤلاء يبشّرون بتجارب مجتمعات أخرى تختلف خصوصياتها عن خصوصية مجتمعنا. والطريف في الأمر هنا أن من بين هؤلاء من يبشر بالعلمانية الفرنسية، ومن يلحّ على علمانية مصطفى كمال، في حين ما زال آخرون تحت تأثير العلمانية التي كانت أيام الاتحاد السوفيتي، هذا على الرغم من الفوارق التي تفصل بين كل تجربة من هذه التجارب، فضلًا عن الفوارق بينها وبين تجارب أخرى، سواء في الدول الإسكندنافية أو ألمانيا أو الهند وغيرها من المجتمعات. وفي جميع هذه التجارب، قد يكون هناك ما يمكن الاستفادة منه، إلا أن محاولات التبني الحرفي، أو التقليد الأعمى، لن تفدينا بشيء، بل ستؤدي إلى مزيد من المشكلات.
ومما هو جدير بالذكر في هذا السياق أن هذه المحاولات تذكرنا بتلك التي كانت من قبل أصحاب الأيديولوجية القومية، أولئك الذين حاولوا -على مدى عقود- تطويع المجتمع السوري ليأتي موائمًا لما كان ينسجم مع حساباتهم وتوجهاتهم، وفرضوا بمختلف الأشكال على الناس، “قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع”، كما حوّلوا النقابات والمنظمات الشعبية، واتحاد الطلبة، إلى امتدادات للحزب نفسه وأدوات بيده؛ أو بكلام أدق، جعلوها مجرد بيادق تحت تصرف الأجهزة المخابراتية، التي كانت، وما زالت، تتحكّم في الحزب المعني، وهي الأجهزة التي تغلغلت إلى مختلف مفاصل المجتمع.
وللمزيد من الضبط والتقييد أدلجوا المناهج الدراسية، وتحكموا في الإعلام، وأوجدوا اتحاد شبيبة الثورة وطلائع البعث.
مقابل معتنقي العلمانية الطفولية، إذا صحّ التعبير، التي تتعارض مع تلك الناضجة المعتمدة في العديد من المجتمعات، ومنها المجتمعات الإسكندنافية، هناك من يصرّ على استخدام الإسلام أيديولوجية ماضوية، من دون دراسة وفهم الواقع الحيّ المعاش واحتياجاته؛ وذلك في سعيهم الشعبوي في إطار دغدغة مشاعر السوريين من المتدينيين. وهذه الأيديولوجية تكون غالبًا مبنية بصورة أساسية على قراءات وتأويلات مروجيها ومعتنقيها التي لا تراعي هي الأخرى من جانبها خصوصية وحاجات المجتمع السوري.
وغالبًا ما يبني أصحاب هذه الأيديولوجية قناعاتهم النكوصية، وقاموسهم الدعائي، على معاداة القوى الكبرى، بوصفها المسؤولة بصورة مباشرة عما لحق بالمجتمعات الإسلامية من إجحاف وظلم، نتيجة نهب الموارد ودعم الأنظمة الاستبدادية التي تؤدي دورًا وظيفيًا لصالح تلك القوى، وذلك مقابل استمرارية تحكّمها في مصير وموارد الشعوب الإسلامية المغلوبة على أمرها.
وقد استغل أصحاب هذه الأيديولوجيات ظروف الثورة السورية، وتمكنوا من بناء تنظيمات متطرفة إرهابية، يدور حولها كثير من التساؤلات الخاصة بالأهداف الحقيقية لوجودها، والقوى التي مكّنتها من الظهور، والأدوار الوظيفية التي كُلّفت بها وأدتها.وكان الأمر اللافت هو أن القوى الاسلامية الأخرى المعتدلة لم تتخذ الموقف المناسب، في الوقت المناسب، من تلك التنظيمات المتشددة، الأمر الذي ما زال يثير، هو الآخر، كثيرًا من الاستفهامات، ويُسهم في توسيع الشرخ بين العلمانيين والإسلاميين؛ وكانت النتيجة عرقلة إمكانية التواصل والتحاور والتفاهم على المشتركات. وفي أجواء كهذه، عادة ما تبرز أشد المواقف تطرفًا ضمن التيارين، لتقطع الطريق على إمكانية إجراء المراجعات الفكرية والنقدية ضمن كل تيار؛ فبينما يتعرّض أصحاب التوجهات الاجتهادية، ممن يطرحون آراء تستهدف التوفيق بين الإسلام وتطورات العصر ومتطلباته، للتكفير والتخوين، أو التهميش والإقصاء في أفضل الحالات؛ تُوجه إلى المعتدلين من العلمانيين تهم المهادنة والانتهازية والتلفيقية، وغيرها من الأوصاف التي لا تعالج المشكلات، بل تزيدها تفاقمًا.ما نحتاج إليه في سورية يتمثل في دولة حيادية، بغض النظر عن المصطلح المعتمد لتوصيفها، دولة تكون على المسافة نفسها من سائر المكونات المجتمعية السورية الدينية والمذهبية والقومية، والتوجهات السياسية والفكرية؛
دولة تكفل مبدأ حرية التعبير لجميع مواطنيها، وتحترم المعتقدات التي لا يجوز إرغام المعتقدين بها على تركها، كما لا يجوز في جميع الأحوال محاسبة من يؤدي شعائره الدينية وفق قناعاته الإيمانية. فالتدين شيء واستغلال الدين لغايات سياسية شيء آخر، والأمر نفسه بالنسبة إلى الانتماء القومي.
أما أن يصرّ كل فريق على صوابية أو شرعية فرض رؤيته على الآخرين، ويستخدم أكثر العبارات قسوة واستفزازًا في توصيف المخالفين، فهذا مؤداه تواصل التفتت، واستمرار المشكلات، وبقاء النظام المستبد الفاسد المفسد.