القدس العربي /الدكتور فيصل قاسم
أوجد هيغل هذا المفهوم خلال القرن الثامن عشر، ويُقصد بمكر التاريخ أو دهائه، أن للتاريخ مستويين اثنين: الأول ظاهري، والمستوى الثاني هو باطني وخفي.ويعتقد هيغل اعتقاداً راسخاً أنّ التاريخ لا يُسيّره الأفراد بل هو الّذي يتحكّم بهم ويقودهم، وبالتالي لا يوجد شخص ما هو صانع التاريخ، التاريخ هو الصانع لكلِّ شيء.
ردّد هيغل باستمرار عبارة مكر التاريخ، لأنّه عاصر نابليون بونابرت، ورأى ذلك الدمار الذي خلّفته ديكتاتورية الفرنسي نابليون، هنا عارض هيغل هذه التصرفات المتغطرسة والمشينة، والتي انقلبت على فلسفة الأنوار.
لقد كان هدف نابليون من غزو أوروبا وبعض دول شمال إفريقيا هو إحكامُ قبضته على العالم، ويصبح كل شيء تحت إمرَته، لكن مخططهُ ذاك فشلَ فشلاً ذريعاً. نفس الاستراتيجيّة اعتمد عليها هتلر خلال الحرب العالميّة الثانية، هي أيضاً لم تتحقّق. أراد نابليون أنْ يُوقف التاريخ، ويجعلهُ جامداً، وفي نهاية حياة نابليون اتّضح أنّ التاريخ الظاهري والسطحي لعصر نابليون هو القتل وسفك الدماء وحز الرؤوس، وتوحيد أوروبا وتُصبح تابعةً له، كل هذا لم يتحقّق، أمّا التاريخ الباطني كان هو انسلال أفكار الثورة الفرنسيّة سنة 1789م، هذه الأفكار هي التي جعلت العالم البشري ينفتحُ على تجربةٍ كونيّة، ومن بين هذه الأفكار الحريّة، الديمقراطية، العقلانيّة، المساواة، الإخاء.
وهناك مثال آخر، فعندما اشترى الاقطاعيون الرومان أراضي الفقراء أدى ذلك الى ثورة الفقراء وتدمير الجمهورية، وبذلك سخر العقل بدهائه ما لم يكن يفكر فيه الاقطاعيون الرومان. بل يمكن القول إن تصرفات الحمقى بكل ما تثيره في النفس من غضب وسخط وازدراء قد تجد صداها في مسيرة التاريخ، ولنا في النظم الاستبدادية التي سبقت ثورات الربيع العربي بما اتسمت به من غباء وعناد وغطرسة، وعداء مع العقل والمنطق، وتسخير لكل مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والإعلامية والاقتصادية لخدمة مصالحها وأهوائها، لنا في هذه النظم الاستبدادية نموذج للدور الذي لعبته حماقتها في تفجير الثورات.
بعبارة أخرى، فإن الأفراد الذين يتبعون مصالحهم الخاصة وينفذون مشروعهم الفردي، قد ينتهون دون أن يعلموا إلى تفعيل مشروع كلي وفائدة جماعية.
ولكن هذا المعنى الخفي يظهر فقط عند النهاية ويحققه الأفراد دون أن يعلموا (مكر العقل).والآن نأتي إلى الحالة السورية ودور مكر التاريخ فيها.
كثيرون قالوا وتساءلوا: لو فعل النظام السوري هذا وذاك لما وصلت سوريا إلى هنا، لكن هناك شيئاً يسميه المؤمنون بالعناية الإلهية، التي علمها هيغل وغيره من الفلاسفة الكبار وأطلقوا عليها «دهاء التاريخ».
شكراً لدهاء التاريخ الذي خدع النظام ومشغليه وجعلهم بسياساتهم الشيطانية الإجرامية يوحدون السوريين في بوتقة واحدة دون أن يقصدوا ذلك
وهذه العناية بالمفهوم الإلهي والدهاء بالمفهوم العلماني لها دائماً رأي آخر بالأحداث التاريخية. لماذا لم يذهب رأس النظام السوري إلى درعا للاعتذار من أهالي الأطفال التي انتزعت أجهزة الأمن أظافرهم، فلو فعل ذلك لما وصلت الأوضاع في البلاد إلى هنا. فيرد أتباع نظرية دهاء التاريخ على ذلك بالقول إن للتاريخ أهدافاً أخرى غير الأهداف التي يرجوها النظام أو معارضوه أو أولئك الذين كانوا يريدون بقاء الأوضاع على حالها في سوريا.
لا شك أن النظام السوري وحلفاءه وداعميه كان هدفهم من قمع الثورة السورية بالحديد والنار والبراميل والكيماوي الحفاظ على ملكهم ومصالحهم وعروشهم، لكن كما رأينا في أحداث تاريخية أخرى، فإن العكس قد تحقق، كما في حالة نابليون الذي أراد من غزاوته وفظائعه أن يسيطر على العالم، لكنه فشل وأدت حملاته العسكرية إلى تفجير الثورة الفرنسية التي غيرت أوروبا كلها فيما بعد. وفي سوريا حاولت قوى داخلية وخارجية كثيرة بمن فيها النظام دق الأسافين بين السوريين وتحريضهم ضد بعضهم البعض كي يتقاتلوا ويتخاصموا ويتحولوا الى ملل ونحل متناحرة لتهجيرهم وتقسيم بلدهم إلى دويلات وإقطاعيات على مبدأ فرق تسد، لكن النظام وجد نفسه في النهاية غير قادر على إطعام مؤيديه الذين تحول معظمهم الآن إلى معارضين شرسين يقولون فيه ما لم يقله مالك في الخمر، لا بل باتوا يتفوقون على المعارضين في هجائهم للنظام. لقد أراد النظام أن يصنع من مؤيديه مجتمعاً متجانساً كما قال في أحد الخطابات، لكنه يواجه اليوم مجتمعاً منهاراً صار يقف في معظمه ضد النظام. القيادة خططت لشيء، والعناية الإلهية أو دهاء التاريخ أراد شيئاً آخر. لم ينجح النظام وداعموه في تحويل السوريين إلى طوائف متقاتلة.
صحيح أنه نجح لفترة قصيرة، لكن سرعان ما نسي السوريون خلافاتهم وضغائنهم وصراعاتهم الطائفية والاجتماعية، وصاروا الآن كلهم صفاً واحداً في مواجهة النظام الذي قتل وشرد المعارضين ويعمل الآن على إذلال وتجويع وتشريد المؤيدين. لم يكن النظام يريد ذلك أبداً، بل كان يريد العكس، لكن دهاء التاريخ انتصر عليه وعلى مخططاته وبدأ يعمل على توحيد السوريين الذين كانوا إلى وقت قريب متناحرين ومتخاصمين. لم يعد هناك مؤيدون ومعارضون في سوريا ولا خارجها، لقد صار الجميع معارضين بفضل دهاء التاريخ.
لقد أثبت التاريخ بأنه أدهى من الجميع. ها هو اليوم يوّحد السوريين جميعاً المعارضين والمؤيدين في الداخل والخارج ليصبحوا شعباً واحداً وأخوة في الفقر والقهر والجوع والذل والبؤس والعذاب والمعاناة. شكراً لدهاء التاريخ الذي خدع النظام ومشغليه وجعلهم بسياساتهم الشيطانية الإجرامية يوحدون السوريين في بوتقة واحدة دون أن يقصدوا ذلك.
لقد اختفت المسافات اليوم بين المؤيد والمعارض بعد ان صار السوريون جميعاً أشقاء في الهم والغم والمحنة. فهل ينقذ دهاء التاريخ يا ترى سوريا والسوريين ولو بعد حين؟