العربي الجديد
راتب شعبو
الانتفاضة الأهلية التي شهدتها أخيرا محافظة السويداء السورية ضد عصابات محلية تسمي نفسها “قوات الفجر”، مدعومة من فرع الأمن العسكري في المحافظة، تنطوي على بعد محلي، يأتي من محلية الجسد الأساسي لطرفي الصراع، ولكنها تنطوي على بعد سوري أيضاً، يأتي من ارتباط الصراع المذكور بمصالح تتجاوز الحدود المحلية له.
لا تشبه محافظة السويداء أي منطقة سورية أخرى في انعكاس تداعيات الثورة السورية عليها، فهي المحافظة الوحيدة التي اتخذت موقفاً محايداً من الصراع السوري، سيما بعد أن اتخذ مساراً عسكرياً قاد إلى تحجيم السيطرة الجغرافية لنظام الأسد. هكذا نشأت مناطق خارجة بالكامل عن سيطرة النظام، وما يعني ذلك من نشوء إدارات محلية مستقلّة بالكامل، أو ما يمكن اعتباره هياكل أولية لدول صغرى، لها “حدودها” وجيشها وقضاؤها ومدارسها .. إلخ.
ثم في التطورات التالية لهذا الصراع الذي صار محكوماً، إلى حد بعيد، بتفاهمات الدول المنخرطة، استعاد النظام مساحاتٍ كبيرة كانت خارج سيطرته، ليستقرّ الحال على ما هو عليه اليوم من بقاء أربع مناطق خارج سيطرة النظام، اثنتين بحماية أميركية، منطقة الإدارة الذاتية شمال سورية وشرقها ومنطقة التنف (منطقة الـ 55 كيلومتر)، وأخريين بحماية تركية في شمال سورية وغربها، منطقة حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام، ومناطق سيطرة “الجيش الوطني” الخاضع مباشرة لتركيا.
لم تخرج محافظة السويداء، طوال هذه السنوات، بالكامل عن سيطرة النظام، ولكنها رفضت، في الوقت نفسه، أن تكون جزءاً من سياساته في مواجهة الخارجين عليه في المناطق الأخرى من سورية، فامتنع أبناؤها عن الالتحاق بالخدمة الإلزامية وعن المشاركة، بالتالي، في الحملات العسكرية لإخضاع تلك المناطق.
واستطاعت المحافظة أن تحمي أبناءها “المتخلفين عن الجيش”، عبر تشكيل مجموعةٍ مسلحةٍ تحت اسم “حركة رجال الكرامة” في 2013.كان موقف السويداء موجعاً للنظام، فقد حرمه من معظم الموارد البشرية (المقاتلين) للمحافظة.
ولكن التحاق السويداء بالثورة كان ليشكّل بالتأكيد ضربة أشد إيلاماً، وهو ما جعل سياسة النظام حذرةً تجاه هذه المحافظة.
ونظراً إلى خصوصية المحافظة، من حيث تكوينها الاجتماعي الذي يغلب عليه أبناء المذهب الدرزي، وما يعرف عنهم من تقاليد تضامنية، تحرّكت سياسة النظام حيالها بين تجنب الاستعداء والسعي الدائم إلى استعادة السيطرة بشتى السبل، وكان من أهم هذه السبل اختراق المجتمع من داخله، عبر تشكيل (أو استتباع) جماعات محلية مسلحة غطت فراغ السلطة الذي خلفه الانكفاء القسري لسلطة الأسد من التحكّم الأمني بالمحافظة.
لم يكن في مقدور “قوات الفجر” تغطية جرائمها بأي مبدأ عام (العلمانية أو الحداثة مثلاً)، كما تفعل مرجعيتها في دمشق، فكانت ممارساتها لذلك عاريةً لا تسندها سوى قوة السلاح والمال والتشبيح. كما لم يكن في مقدورها، بسبب ارتباطها المعروف بنظام الأسد، أن تغطي جرائمها بدعوى مواجهة النظام، كما تفعل المليشيات في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وتكسب مقبولية عامة أو “شرعية” بذلك. لهذا أمكن اقتلاع عصابات “الفجر” بحدود دنيا من الخسائر البشرية. ولهذا لم يسارع النظام إلى مساندة ذراعه المحلي هذا، لأن المساندة المعلنة سوف تفسد آلية التعايش التي اعتمدها النظام للتحكّم بمجتمع المحافظة. على العكس، ربما يسعى النظام إلى البروز بوصفه سلطة عامة وسط اقتتال محلي، سعياً منه إلى استعادة مقبولية في مجتمع السويداء الذي يجد نفسه أمام صعوبة الاستقرار على ما يمكن تسميته الرفض المنقوص للنظام.
ذلك أن هذا المجتمع يرفض النظام، ولا يجد بديلاً مقبولاً عنه، فيقف في مساحة مناورة ضيقة، سقفها إبعاد الثقل المباشر لسلطة الأسد، وتحقيق بعض الاستقلالية.