تلعب المنطقة العازلة والطرق الرئيسية التي تخترقها ضمن المناطق المحررة بين حلب – دمشق، وحلب – اللاذقية، دورا حيويا في تمكين فصائل الثورة من الاستمرار في الصراع، مما يدفع روسيا وحلفائها “الأسد وإيران” إلى التحرك لانتزاعها والسيطرة عليها.
تمهيد:
تناقش هذه الورقة سعي روسيا ومعها نظام الأسد والميليشيات الإيرانية إلى دحر فصائل الثورة من المنطقة العازلة والطرق الدولية تحت مبررات مختلفة تتوافق مع الغاية الروسية المعلنة في السيطرة على كامل الأرض السورية وإعادتها إلى نظام الأسد وتلك استراتيجيتها منذ أيلول/ سبتمبر عام 2015م.
كما تستعرض الورقة في سياق هذه المناقشة، بعض الملامح الحيوية للمنطقة العازلة والطرق الرئيسية التي تعبرها، موضحة الأهمية التي تمثلها كل منهما بالنسبة لفصائل المعارضة والروس في أبعادها المختلفة، والعقبات التي تواجه هذه الأطراف في الصراع الجاري عليها، كما تحلل استراتيجيات كل طرف على حدا لنسف الاتفاق واحتلال هذه المنطقة الحيوية أو التمسك بالاتفاق والتشبث بها والدفاع عنها.
وأخيرا، تنظر الورقة في مصير اتفاق سوتشي في ظل التطورات الراهنة حول المنطقة العازلة وشرايينها، وهو، دون شك، مصير لا ينفك عمَّا ينتظر المنطقة المحررة بكاملها.
ملخص
تقترب المنطقة العازلة من خيار الحسم العسكري بعد أن ظلت طيلة شهرين ونيف بعيدة عنه، نتيجة المواقف الدولية الرافضة للعمل العسكري في إدلب والقبول الروسي بوضع صيغة توافقية مع شريكها التركي في اللقاء الذي جمع الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في سوتشي يوم 17 سبتمبر/ أيلول الماضي، والخروج بنتائج تهدف إلى حالة من التطبيع القسري بعد تجريد المعارضة من سلاحها الثقيل، انطلاقا من استراتيجية روسيا القائمة على مبدأ “المنتصر هو من يقدّم خيار القوة على خيار السلام”، وما قامت وتقوم به موسكو في سوريا على الصعيدين السياسي والعسكري يندرج تحت شعار القضم التدريجي للمناطق الخارجة عن نفوذ نظام الأسد، وبعد أن نعت واشنطن مسار “أستانا” ودعت لعودة الملف السوري إلى جنيف التي أقرّ بنودها ممثلو الدول الكبرى، وطوى وثائقها الروس باعتبارها أقوى الوثائق السياسية الدولية لحل الصراع في سوريا، يبدو أن الروس يعتبرون مقررات “سوتشي” الأكثر فاعلية والأسبق في التنفيذ من أي مسعى سياسي قدمته الأطراف الدولية في جنيف أو في التفاهمات الثنائية بين واشنطن وموسكو، لفرض السيطرة الروسية بالقوة المسلحة على البلاد كلها، ونسف كل مبادرات السلام التي دعت إليها في أستانا، بعد الالتفاف عليها طويلاً، وفق استراتيجية من يجيد تقدير الموقف من الحسم العسكري تقديراً دقيقاً، لذلك جاءت تصريحات بوتين الأخيرة حول تنفيذ اتفاق سوتشي لوصد الأبواب أمام أيّ مسعىً حقيقي للسلام، ونسف حتى القرارات التي التزم بها مع الرئيس التركي في سوتشي في إشارة واضحة وضع من خلالها خيار الحسم العسكري موضع التنفيذ في حال فشل الأتراك بإيجاد حلول لمشكلة “التنظيمات الراديكالية” في إدلب.
ولعلّ من أهم أسئلة اللحظة التي يثيرها متابعو الشأن السوري، وبالأخص ما يجري في المنطقة العازلة، لماذا تستمر ميليشيات الأسد وإيران في قصف تلك المنطقة رغم بنود اتفاق “سوتشي” التي تشير إلى نزع فتيل الحرب والمعارك وكل أشكال العنف؟
قد يكون جواب الضابط التركي رئيس نقطة مراقبة قرية الصرمان في لقائه بالأمس مع وفد من الأهالي يستند إلى حقيقة تؤيد ما قاله في أن “قوات نظام الأسد والإيرانيين يسعون إلى إفشال الجهود الروسية والتركية لخلق منطقة آمنة في إدلب، وأنهم يحتجون (للجانب الروسي) على الخروقات”.
ولكن الحقيقة هي أبعد من ذلك، فما تقوم به روسيا هو خدعة أرادت من خلال تمرير الاتفاق استدراج فصائل المعارضة إلى القبول به، والتوقيع عليه، ثم تقوم بنقض ما لا يتفق مع مصالحها، لأنها منذ احتلالها سوريا قبل ثلاثة أعوام، لا تتعامل مع المعارضة وفق مبادئ قانونية سواء دولية أو هي من استصدرتها، ولا تلزمها قرارات دولية، وكل ما تبديه من تراجعات ظاهرية قبل بلوغ هدف من أهدافها المرحلية لا يتعدى أن يكون تراجعا في التكتيك ضمن إطار الاستراتيجية العامة التي رسمتها لنفسها في سوريا.
من هنا؛ فإنّ الاعتداءات اليومية لميليشيات الأسد وإيران على المنطقة العازلة تهدف إلى تهجير كل سكان المنطقة الواقعة شرقي الطريق الدولي حلب دمشق لتعزيز قبضة نظام الأسد على هذه المنطقة الخالية من السلاح الثقيل.
وبالتالي، فإنّ هذه التطورات، وضعت المنطقة العازلة برمتها، كهدف لميليشيات الأسد وإيران التي حشدت قواتها وسلاحها الثقيل على أطرافها، وبالمثل، تحشد فصائل الثورة قواتها من كافة المناطق المحررة، استعدادًا للدفاع عن هذه المنطقة، التي تحولت إلى ثكنة عسكرية تنتظر لحظة النفير لمعركة لا يمكن التكهن بنتائجها إذا ما أخذنا بعين الاعتبار القوة التركية التي لا يمكن لها الوقوف على الحياد في منطقة نفوذها باعتبارها عمقا لأمنها القومي.
حيوية المنطقة العازلة وأهميتها
تمثل المنطقة العازلة عمقًا استراتيجيًّا فيما يتصل بالمخاوف الأمنية لكافة أطراف الصراع، حيث تتضمن حدودًا طويلة مع مناطق نفوذ نظام الأسد تزيد على 200 كيلو متر. وتنبع أهمية المنطقة العازلة الاستراتيجية من إشرافها على الطرق الرئيسية السورية التي تُعتبر أحد أهم الممرات البرية للتجارة الداخلية والدولية، والتي باتت تحت سيطرة فصائل المعارضة في أعقاب الثورة السورية عام 2011م، وتخضع حاليا لاتفاق سوتشي الذي رعته روسيا وتركيا في أواخر شهر أيلول سبتمبر الماضي، الذي ترى فيه روسيا حماية لأهدافها الأمنية الاستراتيجية، ويمثَّل الضمان الأمني المركزي في نزع السلاح الثقيل من فصائل المعارضة، كما اشترط الاتفاق تحديد الوجود العسكري بالفصائل المعتدلة وإخراج الفصائل “الراديكالية” منها، واستجابةً لتركيا ودعوات شعبية، وافقت غالبية الفصائل على تنفيذ الاتفاق، غير أن ميليشيات نظام الأسد وإيران لم تلتزم به، حيث تستهدف باستمرار المنطقة بكافة أنواع الأسلحة، وفي الآونة الأخيرة أعادت تلك الميليشيات انتشارها واستقدمت قوات إضافية ومعدات عسكرية ثقيلة.
هذا التحول الجديد، أثار المخاوف الاستراتيجية لدى طرفي الاتفاق، إضافةً إلى التطورات السياسية في المنطقة مما اضطر روسيا وتركيا للتوافق على عقد مؤتمر قمة جديد فيما يخص هذه المنطقة. وعلى الرغم من ذلك، فإن سياسات كل منهما بشأن الخروقات الإيرانية التي لم تتوقف في استهداف المدنيين ستلحق أذى كبيرا بكل من الأمن الروسي والتركي، بدلًا من تحصين المنطقة بغية التوصل إلى تسوية سياسية تضع حدا للحرب السورية.
عدوان النظام وإيران يشلّ اتفاق سوتشي
على الرغم من موافقة إيران على مخرجات سوتشي في لقاء القمّة الذي غابت عنه والذي جمع بوتين وأردوغان تحت دعاوى سياسية وإنسانية، إلا أنها لم تلتزم بالتسوية السياسية في إدلب أو سواها. إنما تمسكت بــ”التقية السياسية” كوسيلة لكسب الوقت والتوسع العسكري والاستهلاك الإعلامي، ولها سوابق في التنصل من اتفاقيات وهدن مختلفة بتواطؤ إقليمي وأميركي، وذلك قبل أن تتبدل أشرعة السياسة الأميركية في ظل إدارة الرئيس الأميركي ترامب الذي انقلب على العبثية التي تمارسها إيران في المنطقة، مما اضطرها لاستغلال انتكاستها السياسية في سوريا لتسويق قبولها بالتسوية في إدلب وهي بلا شك مخاتلة سياسية تفرضها ظروف راهنة أجبرتها على كسب ودّ تركيا باعتبار أن استراتيجيتها مع تركيا أهم من إدلب، وكذلك رغبتها في إحراج روسيا ومنعها من تنفيذ عملية إدلب، والتي تعني بالنسبة لإيران الانتهاء من موضوع المعارضة السورية المسلحة، والتفات الروس تاليا لإضعاف إيران في سوريا.
من هنا تحاول إيران إدخال اتفاق سوتشي في نفق مظلم يتجسد مع تحركاتها على الحدود المشاطرة للمنطقة العازلة، والتي من بينها استقدام تعزيزات عسكرية وإعادة انتشارها، حيث تم رصد نقل عدد كبير من هذه القوات من القلمون، والرقة، وديرالزور، وحمص، باتجاه حماة وإعادة توزيع هذه القوات في مناطق نفوذها، وأبرزها: “منطقة خطاب واللواء 47 والزلاقيات ومنطقة أبودالي وإعجاز وأبو الظهور وريف حلب الجنوبي”، وهذه المناطق تخضع بمجملها للميليشيات الإيرانية.
كما شهدت المنطقة الواقعة بين أرياف حماة الشمالي وإدلب الجنوبي الشرقي وصولا لريف حلب الجنوبي، نشر قواعد صاروخية متوسطة المدى وصواريخ شديدة الانفجار قصفت بها بلدات وقرى “جرجناز والتح وخان شيخون والتمانعة والخوين وجزرايا والعثمانية وزمار” ما أدى إلى وقوع أكثر من 20 شهيدا في صفوف المدنيين، سقط أغلبهم في بلدة جرجناز، بالإضافة إلى الأضرار في الممتلكات العامة والخاصة، وذلك بهدف تهجير كل سكان المنطقة الواقعة شرقي الطريق الدولي حلب – دمشق بغية الانقضاض عليها وقضمها، مما يشير إلى تصاعد التضارب الاستراتيجي بين أطراف حلف أستانا حول إدلب، وهذا ما دفع الرئيس التركي أردوغان إلى الدعوة لعقد قمة مرتقبة لإنقاذ اتفاق إدلب قبل انهياره على يد ميليشيات إيران والأسد.
قمة رباعية في اسطنبول لإنقاذ سوتشي
التقى بوتين وأردوغان السبت الماضي على هامش قمة مجموعة العشرين، حيث نقلت وكالة ريا نوفوستي عن الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن الرئيس الروسي شدد خلال لقائه أردوغان على “ضرورة اتخاذ تدابير أكثر فاعلية لتطبيق الاتفاق الروسي – التركي حول إدلب”. وقد ضاعفت تركيا من جهودها الرامية إلى ترتيب وضع إدلب، للحفاظ عليها في دائرة نفوذها وإبعاد شبح الحرب عنها، بغية تسريع الحل السياسي في سورية، بعد “نعي أستانا” من قبل المبعوث الأميركي إلى سورية، جميس جيفري، والذي يُجري زيارة إلى تركيا، وتأييد وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو لتصريحاته.
وإزاء ذلك، أعلنت الرئاسة الروسية، أمس الأربعاء، عن التوصّل إلى اتفاق مبدئي بين روسيا وتركيا وألمانيا وفرنسا، لعقد قمة رباعية جديدة بين هذه الدول حول الوضع في سوريا بإسطنبول.
وقال مساعد الرئيس الروسي، يوري أوشاكوف، في مؤتمر صحافي: “إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتفق مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على عقد قمة أخرى في إسطنبول “في حال دعت الحاجة إلى ذلك”، حسب ما نقلت وكالة “الأناضول” التركية.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أبلغ نظيره الروسي فلاديمير بوتين، خلال لقائهما السبت الماضي على هامش قمة العشرين في الأرجنتين، ضرورة عقد قمة جديدة لبحث الوضع في محافظة إدلب السورية.
وحول التطورات الجارية في المنطقة العازلة عبّر وزير الخارجية التركي، عن تأييده، دعوة مبعوث الولايات المتحدة الخاص لشؤون سوريا جيمس جيفري، لإنهاء “مسار أستانا”، وقال: إنه “تصريح جانبه التوفيق، ولا أعتقد أنه يعبّر عن رأي جيفري الشخصي”.
هذا، وقد نعى المبعوث الأميركي مسار أستانا حول سوريا، الذي تقوده الدول الضامنة (تركيا، وروسيا، وإيران) بعد التطورات الميدانية في المنطقة العازلة، والفشل في تشكيل اللجنة الدستورية، داعياً لإعادة الملف السوري إلى مسار جنيف الأممي.
وقد طالب المتحدث باسم الرئاسة التركية “إبراهيم قالن”، قبل أسبوع، خلال مؤتمر صحفي من المجمع الرئاسي بأنقرة بوقف الهجوم المحتمل على إدلب، من خلال التحرك بتنسيق وتعاون بين الرأي العام العالمي وجهود الدول الغربية والإقليمية والولايات المتحدة.
كما أن وجود 12 نقطة مراقبة عسكرية تركية، أقيمت بالاتفاق مع روسيا بموجب اتفاق خفض التصعيد، ودفع تركيا مزيدا من قواتها اتجاه إدلب، تهدد بحصول مواجهاتٍ بين القوات التركية والقوات المهاجمة، وقد يؤدي هذا الأمر إلى إعادة العلاقات (التركية – الروسية) إلى المربع الأول الذي تلا إسقاط تركيا طائرة روسية على حدودها مع سوريا، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015م.
خلاصة: مستقبل الاتفاق في ظل العدوان الإيراني
تُعدّ المخاوف الأمنية لروسيا وتركيا في المنطقة العازلة نتاج سياسة غير منضبطة من التلاعب بالقضية السورية من خلال تجاهل وتهميش السكان المحليين في هذه المنطقة. ويظهر أن المقاربة التي تتبناها تركيا وروسيا تُكرر وتُفاقم الأخطاء التي اقتُرِفَت في الماضي وأفضت إلى الظروف الحالية. ومن هنا، فإن القمة الرباعية المرتقبة في اسطنبول، يفترض أن تتبنى استراتيجية ناجعة لترسيخ السلام من خلال التركيز على ترتيبات أمنية رادعة تضع حدا للاعتداءات الإيرانية المستمرة، وإعادة تأهيل اقتصاد المنطقة، ودعم المجالس المحلية التي تعطي السكان دورًا في إدارة شؤونهم العامة.
هذه الخطوات من شأنها أن توفر لسكان المنطقة بدائل لحالة القصف المتكرر والحرمان والتهميش، ولكن يبدو أن أجندة من هذا النوع بعيدة عن التفكير السائد لإيران ونظام الأسد المسنود بالدعم الروسي؛ حيث يركز كل منهما على الفعل العسكري ضد فصائل الثورة، وهذا ما يمثل اختبارا حقيقيا لمستقبل الشراكة بين ثلاثي “أستانا”؛ فهل تنجح؟
المصدر: بلدي نيوز