محمد أمين العربي الجديد:14/7/2023
لم تتوقف انتهاكات “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) في الشمال الغربي من سورية، إذ تواصل قمع كل التيارات السياسية التي تخالف توجهها كي تبقى الطرف الوحيد الذي يملك سلطة تحديد مصير المنطقة، التي تضم ملايين السوريين الذين تحيط بهم الأزمات من كل جانب.
وخرجت الثلاثاء الماضي تظاهرات في عدة بلدات في محافظة إدلب للمطالبة بـ”الإفراج عن معتقلين” في سجون “تحرير الشام” التي باتت سلطة الأمر الواقع في شمال غربي سورية، ويُتهم جهازها الأمني بمداهمة المنازل من دون مذكرات قانونية.
وذكرت مصادر محلية من بلدة كللي بريف إدلب، أن عناصر من جهاز “الأمن العام” دهموا منازل في البلدة تعود ملكيتها لمعتقلين في سجونه، في استمرار لحملة قائمة منذ نحو شهرين.
ونشرت صفحات على مواقع التواصل مقاطع مصورة لتظاهرة نسائية في بلدة الأتارب، مساء الثلاثاء الماضي، ظهرت فيها نسوة يطأن صوراً لزعيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني، مع إطلاق شعارات منددة بسياسة الهيئة في شمال غربي سورية، ومطالبات بإطلاق سراح المعتقلين.
وهذه ليست المرة الأولى التي تخرج فيها نساء في تظاهرات ضد “تحرير الشام” احتجاجاً على اعتقال أزواج أو أخوة، أو آباء لهن من قبل الهيئة التي تواجه هذه الاحتجاجات بالتجاهل تارة وبالقمع تارة أخرى.
إقصاء معارضي “تحرير الشام”
وبيّنت المصادر أن أغلب المعتقلين ينتمون لـ”حزب التحرير”، الذي يتبنى فكراً متشدداً يدعو إلى إحياء الخلافة الإسلامية، مشيرة إلى حملات الاعتقال والتضييق شملت في الآونة الأخيرة بعض وجهاء النازحين في شمال غربي سورية من مدينة حماة، مؤكدة أن الهيئة تستهدف إقصاء كل معارضيها في شمال غربي سورية كي تبقى الجهة الوحيدة التي تحدد مصير المنطقة.
تمنع الهيئة أي نشاط سياسي يخالف توجهاتها، وهي تتخذ من أي تحرك ذريعة لشن حملات اعتقال وتضييق على المعارضين لنهجها المتشدد في إدارة ما بقي من محافظة إدلب تحت سيطرتها، إضافة لمناطق في ريف حلب الغربي والشمالي الغربي.
ولا تسمح “تحرير الشام” للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، أبرز العناوين السياسية للثورة السورية، بممارسة أي نشاط في مناطق سيطرتها، فضلاً عن بقية الهيئات والتيارات السورية الأخرى المعارضة.
وتدير الهيئة مناطق سيطرتها من خلال حكومة تطلق عليها اسم “حكومة الإنقاذ” والتي تسيطر على كل مفاصل الحياة في محافظة إدلب، وتطبّق قوانين تكرس الهيمنة العسكرية والاقتصادية للهيئة.
وقال أحد الباحثين السياسيين، الذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب تتعلق بسلامته، في حديث مع “العربي الجديد”، إن التظاهرات والاحتجاجات ضد “هيئة تحرير الشام” في شمال غربي سورية “لا يمكن ان يتسع نطاقها أكثر لأن الشعب خارج من تجربة ثورة صعبة”.
وأردف بالقول: “هيئة تحرير الشام لا تصل مع الشارع إلى الحد الذي يجعله ينفجر، لأنها تعلم أن انفجار هذا الشارع المثقل بالأزمات المعيشية يمكن أن يؤدي إلى تقليص دورها في المناطق التي تسيطر عليها وتفرض على سكانها قوانين متشددة”.
وحول إمكانية انفتاح الهيئة مستقبلاً على تيارات وتنظيمات سياسية مخالفة والسماح لها بالنشاط في شمال غربي سورية، جزم الباحث بأن هذا الأمر “غير وارد في أدبيات وفكر تحرير الشام”، مضيفاً أن هذا أمر يختلف مع عقلية وأسلوب تفكير قادة الهيئة.
وأشار إلى أنها “سبق لها القضاء على كل الأطراف التي يمكن أن تكون منافسة”، مضيفاً أن التنظيمات والكيانات المتشددة شرسة في التعامل مع المخالفين لها، الذين يمكن أن يكونوا مصدر خطر على سلطتها.
وتضم المنطقة التي تسيطر عليها الهيئة ملايين السوريين، جلهم نازحون من مناطق أخرى، تحيط بهم الأزمات المعيشية من كل جانب، في ظل فقدان أي أمل بحلول سياسية لحسم مصير هذه المنطقة التي تخضع لقوانين وسياسة الهيئة المتشددة.
وتسعى “تحرير الشام” إلى تسويق نفسها لدى الأطراف الفاعلة في الملف السوري كجزء من حل وليس جزءاً من مشكلة عليها مواجهتها، من خلال تحييد تنظيمات ومجموعات أكثر تطرفاً، مثلما حدث مع تنظيم “حراس الدين”، والآن مع حزب “التحرير”.
“تحرير الشام” سلطة أمر واقع
ولكن في المقابل، لم تسمح الهيئة بظهور أحزاب وهيئات ذات أبعاد وطنية خالصة تؤمن بالعملية السياسية كطريق للحل في سورية، وتنبذ المشروعات السياسية العابرة للحدود كالمشروع الذي تطبقه الهيئة.
وتعليقاً على استمرار انتهاكات الهيئة في شمال غربي سورية، اعتبر الباحث السياسي ياسين جمول في حديث مع “العربي الجديد” أنها (الهيئة) “سلطة أمر واقع، لكنها تميزت بالتغلب وأكل الآخرين حتى ممن كانوا معها وفي صفّها”.
وتابع أن “الأيديولوجيا التي انطلقت تحرير الشام منها ما زالت في الخلفيات الذهنية عند قادتها مهما ابتعدوا عنها، لذا لن يجدوا غضاضة في أي شيء يقرّبهم مما يريدون، وأساس ذلك القوة والاستبداد بالناس، لأنهم إن تركوا للناس حرية القول والعمل، فالناس لن تقبل بحكمهم”.
وأوضح جمول أن الهيئة “تحكم مناطقها بقوة استبدادية قاهرة اليوم، ولها عدة قوى تدعم سيطرتها، والأوضاع في تدهور وهي في انكشاف”، مضيفاً أن “الرهان هو على الحراك المجتمعي الذي نجد له نماذج في تظاهرات النساء في عدة بلدات بريف إدلب”.
وأعرب عن اعتقاده أن انتهاكات الهيئة “لن تتوقف لأنها عامل تدعيم لسيطرتهم وليست حالات فردية، بل نموذج سيطرة لإرهاب الناس ومنع أي حراك”.
وتعد الهيئة امتداداً لـ”جبهة النصرة” التي كانت طفت على سطح الأحداث في سورية عام 2012، إبان الثورة السورية في طورها السلمي والتي واجهها النظام بالقوة لدفعها إلى العسكرة، وهو ما تحقق ما سمح بظهور هذه الجبهة وسواها من التنظيمات.وسيطرت الجبهة خلال السنوات اللاحقة على الكثير من المناطق السوري وكان لها حضور عسكري فاعل فيها إلى جانب فصائل أخرى تخالف توجهها، ما فتح الباب أمام صدامات عسكرية واسعة النطاق.
وتعرضت “جبهة النصرة” لضغوط شعبية كبيرة لتغيير اسمها ومسارها وخطابها السياسي، وهو ما تحقق في يوليو/تموز 2016، مع إعلان زعيمها أبو محمد الجولاني فكّ ارتباطها بتنظيم “القاعدة” وتغيير اسمها إلى “جبهة فتح الشام”. ولاحقاً أعلنت “جبهة فتح الشام” عن حل نفسها في يناير/كانون الثاني 2017 وحل حركات عدة ودمجها تحت اسم “هيئة تحرير الشام”.