حاول النظام وحلفاؤه استباق احتمالات التوصّل إلى اتفاق تنسيق عسكري روسي – أميركي، بمحاولة استنساخ “تجربة حمص”، وفرض “تسوية” على حلب وفق استراتيجية “الجوع أو الركوع”، التي اتبعها النظام في مناطق مختلفة من البلاد وأفضت إلى خروج “آمن” للمقاتلين بأسلحتهم الخفيفة، وإخراج المدينة من معادلات الصراع. ومع بداية يونيو 2016 بدأت قوات النظام بمحاولة ترجمة أهدافه المتعلقة بعزل قوات المعارضة في حلب في جيوب صغيرة وقطع خطوط إمداداتها وبخاصة تلك التي تربطها مع تركيا. وقد بدأت حملة النظام والميليشيات الحليفة بمساندة الطيران الروسي على مناطق الليرمون، وبني زيد، والملاح، و”الكاستيلو”، ومخيم حندرات، وكفر حمرة . واستند النظام في هجومه إلى ثلاث قوى رئيسة: قوات النمر التي يقودها العقيد سهيل الحسن، ولواء القدس التابع لأحمد جبريل، ولواءان من الفرقة الرابعة، فضلًا عن ميليشيات أخرى مساندة. ونتج من ذلك قطع طريق الإمداد الوحيد لقوى المعارضة السورية في مدينة حلب. وفي صباح 28 يوليو 2016 بات أكثر من 300 ألف مدني تحت الحصار، ومن ثمّ بدأ النظام والقيادة الروسية بالترويج لفكرة فتح معابر إنسانية.
وفي 3 أغسطس 2016 شنت قوات المعارضة هجومًا كبيرًا استهدف قوات النظام المتمركزة في المشاريع السكنية المعروفة باسم 1070 ومدرسة الحكمة، وفي تلال مؤتة، وأحد، والمحروقات، والعامرية. ومع انتهاء اليوم الأول من المعارك أعلنت المعارضة عن خطتها المكونة من عدة مراحل لفك الحصار. وفي 6 أغسطس 2016 بدأت المعارضة هجومها على المدرسة الفنية والتي كانت تعتبر آخر نقاط تمركز النظام قبل أوتوستراد الراموسة، وفي الوقت نفسه قامت فصائل المعارضة المحاصرة داخل المدينة بهجوم من الجهة المقابلة، تمكنت خلالها من السيطرة على دوار الراموسة من الجهة الداخلية والمدرسة الفنية الجوية من الجهة الخارجية، وبذلك تم فتح الطريق وفك الحصار عن أحياء حلب الشرقية.
التداعيات السياسية والعسكرية المتوقعة
تشير معارك حلب الأخيرة التي جرت بالتزامن مع محادثات روسية – أميركية في مدينة جنيف للتوصل إلى اتفاق تنسيق عسكري بينهما في سورية، إلى استمرار التناقض وانعدام الثقة بين واشنطن وموسكو، كما أوحت بذلك التصريحات الأخيرة التي أطلقها الرئيس الأميركي باراك أوباما. ووفقًا لذلك، وارتباطًا بمجريات الميدان في حلب، فإنّ جملة من التداعيات المتوقعة ستلقي بظلالها على المعادلات الميدانية والسياسية.
ميدانيًا، يتوقع أن تقوم فصائل المعارضة بتعزيز خط فك الحصار في منطقة الراموسة وتوسيع امتداداته باتجاه حلب المدينة (وهذا ما أعلنه جيش الفتح بتاريخ 7/8/2016)، مع تعزيز جبهتي ريف حلب الجنوبي ومحاصرة الميليشيات الإيرانية التي لا تزال تحاول الوصول إلى بلدتي كفريا والفوعة المواليتين في إدلب. وقد تحاول قوى المعارضة استمرار التقدم باتجاه مركز المدينة للسيطرة عليها، وإذ يبدو الهدف الثاني أكثر إغراء بسبب مردوديته الكبيرة سياسيًا وعسكريًا خاصة في ظل التسليح النوعي الذي حصلت عليه قوات المعارضة جراء سيطرتها على كلية المدفعية، فإنه سيكون مكلفًا جدًا وسوف يصطدم على الأرجح بضغوط دولية للحفاظ على مبدأ التوازن العسكري. وفي جميع الأحوال يمكن استخلاص عدة معطيات رئيسة ستشكل عنوان المرحلة القادمة:
- انهيار عملية الهدنة ووقف “الأعمال العدائية” كليًا وعودة المواجهات على امتداد الأرض السورية بعد أن ظلت محصورة خلال الفترة الماضية بمناطق حلب وريف دمشق.
- سوف يحاول النظام وحلفاؤه استرداد ما خسروه، وإعادة فرض الحصار على حلب، وبناء عليه فإن أي حالة كسب في هذه الآونة لا تزال قلقة وغير مستقرة.
- تعزيز مناطق النفوذ والسيطرة وتنامي شروط التقسيم، خاصة إن تم الربط مع تحركات قوات الحماية الشعبية الكردية في الشمال السوري وجهد النظام الرامي إلى تعزيز السيطرة على كامل الجبهة الساحلية وتثبيتها.
- فشل قوات النظام بحكم سرعة التقهقر وعمق الأزمة البشرية في تصدير نفسها كقوة مركزية متماسكة شريكة مع المجتمع الدولي في محاربة الإرهاب.
- عدم نجاعة العمليات الجوية الروسية في ظل عدم وجود قوة برية فاعلة قادرة على الحسم.
أما سياسيًا، ستلقي معارك حلب بظلالها على المفاوضات التي لا يزال موعد جولتها الثالثة غير محدد، وسيدخل المسار السياسي في حالة من عدم اليقين وصولًا إلى الانتخابات الأميركية القادمة، وتوضّح توجهات الإدارة الجديدة. كما تدل المعارك على بدء عودة فاعلية الدول الإقليمية الداعمة للمعارضة بعد انكفائها (بحكم التدخل الروسي العسكري المباشر) خاصة بعد سعي قوات النظام وحلفائه لاقتناص الفرص وإجهاض العملية السياسية وترويج فكرة شراكته “الموضوعية” في محاربة الإرهاب كورقة ضغط وابتزاز تهدف إلى إعادة تأهيله وشرعنة استمراره.