موقع تلفزيون سوريا/العقيد عبد الجبار عكيدي
استعرضنا في مقال سابق أهمية اللواء ٨٠ في ريف حلب ومقدمات محاولة السيطرة عليه وأولى المحاولات التي فجرت في قلوب ثوار ذاك الزمن بدل الإحباط الإرادة، فقد كانت أمارات المنتصرين على جباههم وهم منسحبون، وكان لا بد من كرّة لتجسيد ما في النفوس واقعا ميدانيا، فالأرض مقدسة وعلى الأعداء حرام، وأقصى حدود التبجيل للشهداء هو تحرير الثرى الذي استشهدوا فوقه.
لكل تعزيزاته
بعد المحاولة الأولى انتبه النظام إلى هدف الثوار، وهمتهم وعزيمتهم، فما كان منه إلا أن عزز قواته، وحصن مواقعه خاصة تلك القائمة على تلة (إف إم) الاستراتيجية والحاكمة، ومن بين تلك التعزيزات نصب رشاشين من عيار ٢٣ أحدهما فوق سطح أحد المباني، كما زاد من نقاط الحراسة والمراقبة.
وهو ما يضيف إلى التفوق الكبير الذي تتمتع به قوات النظام مزايا دفاعية جديدة في وجه المهاجمين مما سيصعب مهمتهم، لكن الحسابات ليست عددا وعتادا بقدر ما هي نيّات وإرادات وتفاوت بين من يحمي مستبدا ومن يحمل فوق كفه دمه والأخرى قضية عادلة.
على قلب رجل واحد
غرفة العمليات في حالة جاهزية قتالية دائمة تعمل كخلية نحل بقيادة العقيد عبد الرزاق محمد يساعده المقدم فهد الجويد والشهيد النقيب عبد الرزاق خليل والشهيد علي الكرز وآخرين.
ومن دون انحياز وانطلاقا من نظرة عسكرية خالصة، كانت التحضيرات العسكرية، في زخمها ودقتها، ترتقي لتشعرك وكأنك في غرفة عمليات لدى أعتى الجيوش، تذوب فيها الفصائلية إلى حد كبير وكان الجميع على قلب رجل واحد، والعيون متجهة صوب هدف واحد، وكان من ذلك عمليات التخطيط وتقييم محاور الهجوم الأكثر ملائمة، وقد استمر ذلك نحو شهرين ونصف الشهر، تخللتها مناوشات عديدة استُثمرت في تعميق دراسة الميدان، وإنهاك ومشاغلة الأعداء.
وُضعت خطة عسكرية احترافية محكمة بحيث يكون الهجوم من ثلاثة محاور، وترك الجهة الجنوبية مفتوحة لمن يريد الانسحاب باتجاه مطار النيرب العسكري، وكانت محاور الهجوم كالآتي:
الجهة الشرقية: ومنها كان اتجاه الهجوم الرئيسي، علما أنها كانت الأقسى والأصعب، فهي منطقة سهلية مكشوفة مرصودة بمضادات من عيار ٢٣، تكفلت به مجموعتان من لواء التوحيد بقيادة محمد طرابيشي (أبو عمر) ومجموعة أخرى.
وكانت الملحمة
سريعاً سيطر رفاق عبد القادر الصالح على تلة (إف إم) بعد تكبيد العدو خسائر كبيرة وتمكنوا من السيطرة على ثلاثة رشاشات 23 مم ومدفع من عيار 22.5 مم، وفي هذا المحور أصيب قائد المعركة العقيد أبو بلال في كتفه بطلقة قناص الذي ما لبث وعاد إلى ساحة المعركة بعد إسعافه وتضميد جراحه ليكمل مع رفاقه ويشاركهم فرحة النصر، وهذه ومضة لو قُيّض لي جمع أمثالها لسطرتُ كتباً.على المحور الشرقي، لم تكن معركة تشبه المعارك الأخرى، فقد كان الثوار في هذا المحور الأصعب والأقسى يتسابقون حرفيا إلى الموت، في تقدم هادر ألقى الرعب في قلوب رماة الرشاشات الثقيلة وظلوا يتقدمون ورفاقهم من حولهم يتساقطون، بل يرتقون، إلى أن وصلوا إلى قواعد الرشاشات وتمكنوا من قتل طواقمها من مسافة قريبة، وكان لهذا التقدم ثمن دفعه عشرون ثائرا من دمائهم وحياتهم، ناهيك عن عشرات الجرحى.
في الأثناء، كان المهاجمون من جهة الباب الرئيسي قد أغلقوا كل المنافذ للدخول والخروج وسيطروا على المعامل القريبة، ومع انهيار قوات النظام على الجبهة الشرقية والغربية غدت الاشتباكات داخل اللواء، وبعد مقاومة شرسة جدا ومقتل عدد كبير من عناصر اللواء وضباطه تمكن الثوار من السيطرة على الباب الرئيسي، معلنين السيطرة على كامل اللواء بعد ملحمة بطولية تعدّ من مفاخر الثورة، استمرت لأكثر من ثلاث ساعات تُوّجت بصيحات النصر التي سمعت وتردد صداها في أرجاء الشهباء.
بعد انتهاء المعركة وفرار ما تبقى من قوات النظام باتجاه مطار النيرب العسكري وتحرير اللواء بالكامل فوجئ الثوار بدبابتين ت 72 تتقدمان باتجاه اللواء، تصدى لهما الثوار على الفور بما يملكون من قذائف RBG وB9 ولكنها لم تكن ذات فاعلية فذاك النوع من الدبابات يحتاج لأسلحة نوعية لتدميرها.
واصلت الدبابتان تقدمهما إلى مدخل اللواء ولكنهم عندما اكتشفوا أن ما تبقى من عناصر اللواء وضباطه قد لاذوا بالفرار، عادوا أدراجهم من حيث أتوا وفي أثناء تصدي الثوار لتلك الدبابات ارتقى مجموعة من الأبطال هم: محمود حاج حمود الجبلي (أبو كيروز) وابنه محمد، إبراهيم موسى الفاقي، خالد صالح الفاقي، محمد حبيب البزاعي
تكبد النظام خسائر بشرية ربما تعدّ الأكبر تقدر بنحو ٧٦ قتيلا بينهم 13 ضابطا هم: قائد اللواء العميد الركن تركي الشمالي من بلدة كفرعايا في ريف حمص، العميد أركان نزار ديب رئيس أركان اللواء، العقيد الركن كمال بو عجيب رئيس قسم العمليات، العقيد نزار عسكر، العقيد منير شاهين، العقيد حسن صقر، المقدم أدهم أبو فاعور، المقدم فهيم محمد، الملازم دريد السباهي، الملازم صلال الشهال، الملازم محمود عكرة، الملازم حسام الشركي.
في المقابل، ارتقى 16 شهيدا من الثوار هم: وليد عيسى الشاوي، محمد مصطفى الجسومة، خالد محمد حمادة الشوعة، موسى حسين سلوم، عبد الحميد عبد الله الحمد، محمد عيد محمد الأحمد العيسى، محمد محمد علي بن أحمد، محمد فارس، وآخرون حاولت قدر الإمكان ولم أقدر على توثيق أسمائهم.
بالسيطرة على اللواء 80 والذي سبقته معركة تحرير حي الشيخ سعيد وتحرير الحواجز على طريق المطار تكون قوات النظام في مدينة حلب قد حوصرت بشكل كامل وأصبحت معزولة عن العاصمة دمشق وجميع المحافظات السورية، وحين شعر النظام بخطورة الموقف حشد قوات كبيرة بقيادة العقيد سهيل الحسن لفك الحصار عنها بما عُرف حينئذ بعملية “دبيب النمل”.
خاتمة لا بد منها
مثل نزع الأظافر، سلخ الجلد، كتم النَفس، هو نهاية هذه السلسة الأولى التي استنطقت فيها ذاكرتي وذاكرة الثوار الأوائل، وليست أي ذاكرة، وليس مثلها مثل أو شبه، بل هي هويتنا وتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، وميلادنا، والعون الوحيد على البقاء أحياء سليمي العقل والبوصلة.
سلسلة وثقت فيها الملاحم الأولى للثوار الأوائل، في ذلك الزمن البهي، وكنت أحيا بالقدر الذي يقرضني فيه القلم النبض، ولا أمل عندي سوى أن يظل لمثل هذه الذاكرة منصة ومنارة، ولا عزاء لي سوى مفارقة جميلة باعثة على الأمل، أن السلسلة بدأت بمقال عن عبد القادر الصالح بعنوان ما لم يُرو من سيرة الشهيد والثورة والوطن، وإني ههنا أعاهد نفسي كما في بداية السلسلة البحث دوما عن بدايات، ومنصة لرواية “ما لم يُرو من سيرة الشهداء والثورة والوطن”.