مقدمة
يبدو أن استراتيجية ” العدوان” هي ما يدور في رأس فلاديمير بوتين الذي يحاول بكل ما أوتي من قوة ومخاتلة ومراوغة، السيطرة على “منطقة خفض التصعيد الرابعة” في ظرف سياسي متغير، كاستمرار لإدارة الصراع التي تجلّت خلال 4 سنوات من التدخل الروسي العسكري والسياسي لصالح نظام الأسد.
ففي الوقت الذي اتفقت فيه روسيا مع تركيا في “سوتشي” لخفض التصعيد عبر الحوار من أجل تسوية سياسية بمرجعية “آستانا” بين كافة الأطراف السورية الضالعة في الحرب، ما برح الطيران الروسي يستهدف هذه المنطقة دون توقف، ويدفع بالميليشيات المتعددة الجنسيات إلى الجبهات، متحديا المبادرات الأممية والأوروبية بخصوص الحفاظ على حياة المدنيين وضاربا بعرض الحائط شراكته مع الضامن التركي.
كانت اتجاهات العدوان الروسي قد رشحت ثلاث مناطق رئيسية يتم استهدافها من خلال معارك خاطفة تشنها الميليشيات المهاجمة، وقد مثلت أولى تلك المناطق؛ ” كبانة” أهم القمم الواقعة بمحافظة اللاذقية في جهتها الشمالية الشرقية، أما الثانية فهي منطقة “طار العلا” الممتدة من كفر نبوذة وحتى خان شيخون المشاطرة لجبل شحشبو، والثالثة هي منطقة سهل الغاب والأطراف الغربية لجبل الزاوية بغية تحقيق أهداف روسية بالوصول إلى الطرق الدولية الواصلة بين حلب وحماة واللاذقية.
الملاحظ بعد مرور 55 يوماً من انطلاق العملية العسكرية الروسية، أن وضع المناطق المستهدفة لم يطرأ عليه تغيير جوهري فاعل، باستثناء محور كفر نبوذة قلعة المضيق الذي سيطرت عليه الميليشيات، فيما تمكنت فصائل الثورة من السيطرة على أهم طريق دولي يربط بين مدينة حماة واللاذقية، وباءت كل محاولات الميليشيات المهاجمة بالفشل الذريع، ويمكن إسناد أسباب فشل العدوان في إحراز أهداف روسيا عن التقدم في المناطق المحررة إلى ثلاثة عوامل رئيسية، هي:
العامل العسكري: ينطوي هذا العامل على جملة من الأبعاد المتعددة أبرزها:
ـ الإنهاك الذي طال الميليشيات المتنوعة بتصاعد خسائرها المادية والبشرية؛ وحدها الجبهة الوطنية قدمت إحصائيات أولية مرعبة عن خسائر النظام على محور ريف حماة الشمالي، فقد دمرت “13 دبابة و 5 عربات ب إم ب و11 تجمعا للآليات العسكرية الثقيلة، و8 قواعد مضادة للدروع و14 مدفعا من بينها مدافع أكاسيا وجرافتين عسكريتين و10 تجمعات كبيرة لعناصر المشاة، عدا عن مئات الصواريخ التي استهدفت مطاري جب رملة وحماة”، ناهيك عن عمل “هيئة تحرير الشام” وبالأخص قوة النخبة “العصائب الحمراء” التي تعمل في الخطوط الخلفية لقوات العدو، حيث كبدته خسائر فادحة في الأرواح والمعدات العسكرية، وفي ذات السياق لم تتوقف هجمات حامية “كبانة” في ريف اللاذقية باتباع تكتيك “الإغارة والكمائن” على دشم عناصر الفرقة الرابعة وقتل من فيها، وكانت نتائج هذه المعارك خسارة الميليشيات لنخبتها من المقاتلين وبالأخص الميليشيات التي تدعمها روسيا قوات النمر ولواء القدس الفلسطيني، وعناصر المصالحات وميليشيا فاغنر، فقد تجاوزت الأرقام الموثقة 600 قتيل من هؤلاء المرتزقة يتبعون للميليشيات المشاركة في المعارك وهي “الفرقة الأولى والثانية والرابعة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة والفيلق الخامس وميليشيات النمر ولواء القدس الفلسطيني والحرس الجمهوري” ومن بين القتلى “130 ضابطا من رتب مختلفة 7 عمداء وعقداء أحدهم وقع أسيرا ورائدين و24 نقيب و36 ملازم أول و73 ملازم”، الأمر الذي دعا دولة عظمى كروسيا للعمل على الانتقام من المدنيين العزل في أرياف إدلب وحماة وحلب وارتكاب جرائم حرب تخالف مواثيق الأمم المتحدة ومعاهدة جنيف.
ـ تمكن فصائل الثورة مع بدء العمليات العسكرية في ريفي حماة واللاذقية، أوائل شهر أيار/مايو الماضي، عبر معارك متعددة من دحر أكبر عدوان نفذه الروس واستعدوا له، تخطيطا وتمويلا وتنفيذا، لكونه أحد أهم المعارك الحاسمة في الحرب ضد الشعب السوري المناهض لنظام الأسد، انطلاقا مما يقدمه الروس من إمكانيات استراتيجية وعسكرية تكتيكية، فيما كانت استراتيجية فصائل الثورة ترتكز على استهداف المعقل الجغرافي والطائفي والسياسي والعسكري للروس ولنظام الأسد، الأمر الذي أفشل التكتيك العسكري الروسي، وسهل عمل مجموعات الاقتحام في تحقيق أهدافها من خلال تشتيت قوات العدو، كان أكثرها إيلاما تلك العمليات التي استهدفت الميليشيات الروسية في الجلمة وكرناز والشيخ حديد، فضلا عن الهجمات بالصواريخ القصيرة المدى على المعسكرات القريبة من مناطق سيطرة فصائل الثورة.
ـ اكتساب هذه المعركة أهميتها من أهمية مساراتها بعد أن تمكنت فصائل الثورة، من السيطرة على تل ملح والجبين، أي على الطريق الاستراتيجي الرابط بين السقيلبية وحماة وباتت تتحكم بمنطقة جغرافية واسعة تتوغل فيها بين الحين والآخر، وأتاحت المجال أمام تشكيلات أخرى للتقدم على عدة محاور مع تسارع انهيارات عنيفة في صفوف الميليشيات الروسية وتلك التابعة للنظام، وأحدث خطاب فصائل الثورة للمدنيين والعسكريين في مناطق سيطرة نظام الأسد إرباكا في صفوف الميليشيات التي شهدت في المعارك الأخيرة قبل يومين انشقاقات للعديد من عناصرها.
العامل السياسي: يظل العامل السياسي المنعطف الأهم أمام هذه المعركة، حيث تقف وراءه دول عظمى كالولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي لتحقيق مصالح استراتيجية، ولكن المنحى الأبرز اتساع فجوة الخلاف بين الطرفين التركي والروسي بعد إشارة المبعوث الأميركي الخاص “جيفري” إلى وقف إطلاق النار في إدلب كـ “بداية” للتفاهمات الجديدة مع موسكو، وكأنها تدعم الدور التركي في إدلب خصوصاً أن المعارك الأخيرة عبّرت عن استياء روسي مزدوج؛ أولاً من تقدّم التنسيق الأميركي – التركي في شأن “منطقة آمنة” في الشمال الشرقي، وثانياً من التلكؤ التركي في تنفيذ اتفاق “سوتشي” كما تدعي موسكو، وما تكشفه المعارك الدائرة في منطقة خفض التصعيد الرابعة منذ أكثر من 55 يوما، يشير إلى عزم أنقرة إفشال التصعيد الروسي الذي يُعد من وجهة النظر التركية تهديدا لمصالحها الجيوسياسية والجيواستراتيجية في منطقة خفض التصعيد الرابعة، بدليل أن أسلحة نوعية ظهرت في التصدّي لعدوان الميليشيات الروسية ومنها صواريخ “تاو” وطائرات مسيّرة ومدفعية بعيدة المدى يستخدمها الجيش التركي بموافقة أميركية، وكذلك السماح لفصائل درع الفرات بالمشاركة في صدّ العدوان، هذا المعطى يجعل العلاقة الروسية – التركية على حافة الهاوية رغم محافظة الطرفين على خطاب دبلوماسي ناعم، وفي مؤشر آخر على وجود لعبة لم تتضح ملامحها بعد، يجتمع في “القدس” الاثنين رؤساء مكاتب الأمن القومي للولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا، حيث سيثير الأمريكان مجموعة من المقترحات في مقدمتها مساهمة روسيا في طرد الميليشيات الإيرانية من سورية، وهذا ما أدركته إيران التي رفضت القتال تحت المظلة الروسية، من هنا أرجع عضو مكتب المصالحة “عمر رحمون” وعرَّاب التنسيق مع قاعدة حميميم العسكرية الروسية، في تغريدة له على حسابه في “تويتر”؛ أسباب الهزيمة كما وصفها في معركة انتزاع إدلب من المعارضة إلى غياب الدور الإيراني، وقال: “عدم دخول إيران بمعركة إدلب انعكس سلباً على نتائج المعركة”.
العامل الجيوسياسي
يشكل هذا العامل أبزر عوامل انكسار الميليشيات المسنودة من روسيا، والحاكم للعوامل الأخرى، وهو ما ينعكس سلباً على الموقف الروسي في هذه المنطقة التي تعد في نظر بعض القوى الدولية والإقليمية منطقة تهديد لمصالح تلك الدول، في ضوء ما يلي:
ـ تمثل هذه المعركة لدى الطرف التركي المساند الرئيس لفصائل الثورة، والمستفيد الأكبر من انتصارها؛ نجاحاً لتركيا نفسها نظرا لتعرض نقاطها العسكرية لكثير من الأعمال العدائية من قبل قوات الأسد، وما خلفته من تداعيات سلبية؛ مادية وبشرية ومعنوية، تراجعت معها ثقة المواطن السوري بالضامن التركي في حماية المنطقة، لذلك يسعى هذا الطرف وبكل ما أوتي من قوة لتمكين فصائل الثورة من استعادة السيطرة على كفر نبوذة وقلعة المضيق وإيجاد منطقة عزل واسعة تؤمن المناطق المحررة من أي نشاط عدائي روسي مستقبلا.
ـ استثمار فصائل الثورة للتحديات المحيطة بالمعركة كالطبيعة الجغرافية المنهكة لمقاتلي الميليشيات، خلافا للفصائل التي تمرست خلال سنوات الحرب الثماني على القتال في مختلف الظروف والتضاريس، ويضاعف من تلك التحديات استعداد الفصائل بمختلف تياراتها للمواجهة بمقاتلين أشداء ينتمون بغالبيتهم لمحافظات إدلب واللاذقية وحلب وحماة والمهجرين قسرا من محافظاتهم الأخرى، ممن يؤمنون بعدالة هذه الحرب، وبحق العودة إلى منازلهم ومزارعهم المصادرة والدفع بهم في طليعة الفصائل المقاتلة.
ـ استغلال فصائل الثورة لفجوة الثقة المتسعة بين الروس وميليشيا النمر التي يقودها العقيد سهيل الحسن، وكذلك ميليشيا الغيث بقيادة العميد غياث دلة بعد الهجوم الذي تعرضت له القاعدة الروسية في كرناز وأدت إلى مقتل كبار قادة ميليشيات الفيلق الخامس، وكذلك الأمر الهزيمة الكبرى لقوات الرابعة في تلال “كبانة”، حيث سارع نظام الأسد إلى إرسال مدير إدارة المخابرات الجوية اللواء جميل الحسن الذي أنهكه المرض للوقوف على الانهيارات التي تعيشها المليشيات في ريف حماة، نتيجة المعارك المتعثرة والخلافات المتعاظمة بين قادتها وغرف العمليات وتشكيلاتها المحبطة.
لذلك تناقلت صفحات مؤيدة لنظام الأسد صور قادة الميليشيات والأجهزة الأمنية، أبرزهم العميد صالح العبد الله الملقب “سبع” القيادي في “قوات النمر” ونابل العبد الله قائد ميليشيا الشبيحة في السقيلبية، ويوسف كنعان قائد فوج الهواشم، شبيه ماهر الأسد قائد الفرقة الرابعة وشقيق رأس النظام، من هنا تندرج زيارة الحسن في إطار رفع المعنويات للتقليل من أثر الخسارة ورفع معنويات المليشيات بعد تعاظم القلق الروسي إثر تعثر المعارك والخسائر الكبيرة، لتبدو الزيارة خطوة عملية لإقصاء قيادات عسكرية فشلت في إحراز أي تقدم على الأرض بل خسرت أهم الطرق الاستراتيجية، وهنا يمكن الاستفادة من هذا التباعد بين الروس وميليشيات الأسد، بتعزيز قدرات الفصائل ومتابعة الهجمات المتتالية لقصم ظهر القوة الروسية المتمثلة بميليشيات الفيلق الخامس ولواء القدس الفلسطيني وعناصر المصالحات.
خاتمة
ختاماً؛ هذه العوامل أحدثت تحولات كبيرة على مسارح القتال يتوقف تأثيرها على مدى قدرة فصائل الثورة في الحفاظ على ما حققته من نتائج أبهرت المراقبين، كما يمكن استثمار الكثير من المعطيات الإيجابية لضمان انتظام تدفق الإمدادات اللوجستية والأسلحة الفعالة التي تدعم موقفها القتالي في كافة الجبهات، وتتيح لها التوسع في مناطق تخوض فيها معارك شرسة ضد الميليشيات الروسية، سواء في منطقة “تلال كبانة” في ريف اللاذقية أو مناطق ريف حماة الشمالي التي تحتدم فيها المواجهات، والعمل الدؤوب على إعاقة ومشاغلة أي نشاط من شأنه زعزعة سيطرة الفصائل على تلك المناطق، وفي سياق متصل تشير التطورات السياسية والعسكرية المتلاحقة في المنطقة إلى اقتراب انفضاض الشراكة بين روسيا وبين كل من تركيا وإيران، وقد تكون طريقة الخروج من هذه الشراكة عنيفة/ حيث سيلجأ فيها كل طرف إلى فرض إرادته على الآخر بالقوة بغية تحقيق مصالحه، ولكن روسيا تدرك عجز الميليشيات التي تدعمها على المواجهة العسكرية، مما سيفرض عليها تغييرا سياسيا مشفوعاً بهدنة جديدة قد تؤدي إلى توقف المعارك بشكلها الراهن، لكنها لن تكون نهاية للحرب ما دامت عوامل اشتعالها باقية وفي مقدمة ذلك بقاء الأسد على رأس السلطة في سوريا.
المصدر: بلدي نيوز