لقد قيل إنك تستطيع أن تفعل بالحربة كل شيء؛ إلا الجلوس عليها، لكن الأسد الذي استعار حرابا إيرانية، ومن ثم روسية لقتل الشعب السوري، احتار أخيرا في اختيار الحربة التي سيجلس عليها.
المعلومات الواردة من “سوتشي”، حول اللقاء الذي جمع بوتين والأسد، وهو الثالث الذي استدعي فيه للقاء بوتين، كان إخراج الميليشيات الإيرانية البند الأول فيه، ثم الحديث عن لجنة دستورية الثاني، ولم يتأخر الرد الإيراني على نتائج اللقاء، فقد ظهرت الصورة جلية في الرسالة التي تسلمها الأسد، ووصلته من أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني، والقائد العام الأسبق للحرس الثوري، اللواء محسن رضائي، الذي قال فيها: “إن بوتين والأسد، يعملان مع الغرب لوضع حل سياسي للأزمة السورية، من خلال حذف إيران من المشهد السوري”.
تنتهج روسيا وإيران، بوصفهما قطبي الاحتلال، اللذين يتحكمان فعليًّا في إدارة قرار نظام الأسد سياسيا وعسكريا، استراتيجية عامة تتمحور حول التمسك بالأسد، لشرعنة ديمومة احتلالهما سورية التي هيمن عليها بدعم وإسناد منهما.
والحقيقة أنه مع ظروف اللقاء الأخير الذي جمع بوتين والأسد، تضاءلت خبرة وعلاقات إيران الكبيرة التي تمتعت بها على مدار سني الثورة، بتوظيفها التناقضات الإقليمية والدولية، واختراقها والتلاعب بها، بما يخدم أجنداتها الخاصة، فالرئيس ترامب، الذي حلّ الاتفاق النووي الموقع مع إيران، يستعد مع “إسرائيل” لمواجهتها حتى عسكريا، لمخالفتها بنود الاتفاق، وسياستها العدوانية في المنطقة، ويبدو أن صدى “سوتشي” ومطالب بوتين للأسد، تزامنت مع قصف إسرائيلي غير مسبوق.
وفي هذا السياق؛ جاءت الضربات الجوية الأخيرة التي طالت القواعد الإيرانية في مطار حماة؛ وبعدها في “نجها” جنوبي دمشق، والتي تعامل معها نظام الأسد على أنها من جهة مجهولة.
الضربات هذه المرة تحمل توقيع الروس العلني، بعد اتخاذ موسكو موقف الحياد الإيجابي حيال الصواريخ “الإسرائيلية”، التي تعبر من فوق رؤوسهم مستهدفة القواعد الإيرانية، مشفوعة بتصريح علني لبوتين بإلزام الأسد المطالبة بطرد القوات الأجنبية من سورية، في إشارات توافق متبادلة إقليمية، ودولية على طرد الميليشيات الإيرانية من سورية.
يستنتج من ذلك كله، أن الرئيس ترامب بعد إعلانه الانسحاب من الاتفاق النووي، وضع إيران في دائرة الحصار ضمن الأرض السورية، مما يدلل على ذلك حجم المواجهات الدولية والإقليمية، التي تجسدها “إسرائيل” في القصف المستمر لقواعدها، ومحاولة إيران امتصاصها، بعد أن أدرك الجميع أن معركتها في سورية مغايرة لأهدافها المعلنة، بدعم القضية الفلسطينية، وبتحرير القدس.
ففي الوقت الذي نقلت واشنطن سفارتها إلى القدس، كانت منظمة “بناء الجهاد” الإيرانية تستولي على بيوت المشردين في مدينة البوكمال، وتنشط في الحوزات الدينية لتشييع أكبر عدد ممكن من السوريين في إطار غزوها الفكري للمنطقة، ضمن استراتيجية الحرب الآيديولوجية الاقتصادية السياسية، للتنافس على النفوذ في المنطقة، مما وضعها وجها لوجه مع “إسرائيل”.
هنا يقف الأسد على مجموعة من الحراب، برؤوسها الحادة، ولعلّ أشدها إيلاما الحربة الإيرانية، فإيران التي قادت حربه لقتل الشعب السوري الثائر، وسيطرت على مفاصل نظامه، ورهنته لخوض معركتها الدائرة مع “إسرائيل” أولا، والمرتقبة مع تركيا ثانيا، باعتبارها منافسة لإيران، وأخيرا ضد روسيا، إن تطور موقفها الضاغط اتجاه المطالبة بطرد ميليشياتها من سوريا.
تبدو الحربة الروسية أكثر فتكا من سابقتها الإيرانية، ولا يحتاج الأمر من موسكو في حال تبرء الأسد من تنفيذ مطالبها، سوى الإعلان عن بيعه في سوق “النخاسة السياسي”، بالشكل الذي يخدم مخططاتها في ديمومة قواعدها العسكرية في سورية.
والسؤال الذي يفتح فمه على اتساعه، على أي حربة سيجلس الأسد، الذي جلب كل هذه الحراب ليقتل بها الشعب السوري، دون أن يدرك أنه يوما ما سيجلس على إحداها أو كلها مجتمعة!
تناقش الورقة أبعاد المطالب الروسية العلنية الأخيرة المتمثلة بخروج كافة القوات الأجنبية من سوريا، وإعادة الحديث عن اللجنة الدستورية، وتطرح الورقة موقف الأسد المتأرجح بين حراب إيران والروس.
أولا- إخراج القوات الأجنبية من سورية
يشكِّل الاحتقان القائم بين أطراف الصراع الدائر في سورية، جزءً من الاحتقان العام في البلاد كلها، نتيجة محاولة استفراد كلّ من روسيا وايران بالمناطق التي يهيمن عليها الأسد، فإيران تعمل على إحداث تغييرات في الأبعاد المختلفة لكيان الدولة السورية، وعزلها عن محيطها العربي، والإقليمي وحتى الدولي، في سياق صراع تاريخي، تحركه معتقدات إيرانية أيديولوجية وسياسية، تتداخل معها مصالح ذاتية اقتصادية، تتعارض جميعها مع مكونات المجتمع السوري، بما فيه الطائفة العلوية، حاضنة الأسد، علاوة على تضاربها مع المصالح الروسية في المنطقة.
من هنا جاءت دعوة الروس لإخراج القوات الأجنبية من سورية، والمقصود بذلك أولا وأخيرا الميليشيات الإيرانية، ومن أبرز الأسباب الراهنة التي تقف خلف تدهور العلاقة بين طهران وموسكو هي:
– انكشاف نوايا كل منهما تجاه الآخر، وما تحمله تلك النوايا من تهديد وجودي سياسي، رغم تعاونهما عسكريًّا، وإعلاميًّا، وسياسيا على إجهاض الثورة السورية بحيث لم تعد فصائل المعارضة تشكّل تهديداً بعد خنقها في جيوب شمال وجنوب سورية، تحت قبضتي تركيا والأردن، ولا مصالح روسيا في أي معركة قادمة، لذلك تنتفي الحاجةٍ لإيران وميليشياتها، بعد أن أنهت مهمتها القذرة في سوريا في إطار مشروعها الامبراطوري، وإنفاقها مليارات الدولارات وسقوط الألاف من قتلاها، لتصطدم مع شريكها الروسي صاحب الشهية المفتوحة على مشاريع اقتصادية، كإعادة الإعمار، والتسليح، والسيطرة على منابع الغاز السوري.
– المصلحة الروسية في محاباة الكيان الإسرائيلي، كحليف محوري في المنطقة تحافظ على أمنه وسلامة حدوده من أي تهديد، وكانت أولى إجراءاتها التنفيذية الامتناع عن بيع الأسد صواريخ “إس 300″، وترحيبها الضمني بالقصف الجوي “الإسرائيلي” لقواعد إيران وميليشيا حزب الله، وإعطائها فرصة تصفية الوجود الإيراني في سورية.
– ربط الولايات المتحدة قرار انسحابها من الاتفاق النووي، بالعبث الإيراني في سوريا خاصة، وفي المنطقة عموما، لذلك تطالب روسيا بالضغط على إيران لإخراجها من سوريا.
من هنا جاء توضيح المبعوث الخاص للرئيس الروسي لشؤون التسوية السورية، ألكسندر لافريننييف، أن تصريح الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، حول سحب القوات الأجنبية من سوريا، يخص جميع الجهات باستثناء روسيا.
لم يتأخر الرد الإيراني على تصريحات المسؤولين الروس، فقال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي، في مؤتمر صحافي: “إن بلاده ستبقى في سورية”، لأن وجودها شرعي وبطلب من النظام، مضيفاً أن “لا أحد يستطيع إجبارنا على الخروج من سورية”.
وتدرك إيران أن انتهاء المعارك بين نظام الأسد والمعارضة السورية المسلحة، من شأنه تسريع عملية خروجها من سورية.
ثانيا- اللجنة الدستورية
أبرز محطات السجال بين خياري القوة والسلام، في ظروف محاولة الروس الاستيلاء على السلطة في سوريا، بعيدا عن حليفها الإيراني، عودة الحديث عن اللجنة الدستورية التي تنفذها الدبلوماسية الروسية المخاتلة، بعد وأد الثورة السورية عسكريا، والوصول بالبلاد إلى ما هي عليه الآن من الانقسام والصراع على السلطة.
ومع تبدل الظروف السياسية لمصلحة الروس بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، ووضع المنطقة في أفق جديد، فضلا عن التحولات الإقليمية التي تجسدت بقرار طرد إيران من سورية، يأتي الاستدعاء الروسي للأسد إلى “سوتشي” في روسيا، الخميس الفائت، بعد قناعة موسكو التي باتت ترى أن الوقت قد حان لتحريك ملف الحل السياسي في جنيف، وتهيئة الأرضية المناسبة له، أي تشكيل لجنة دستورية من قبل المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، التي أقرها مؤتمر “سوتشي” في المنتجع الروسي نهاية شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، وتمّ إقرار هذه اللجنة الدستورية على أن تتكفل الأمم المتحدة بتشكيلها والإشراف عليها بمرجعية القرار الدولي الخاص بسورية رقم 2254, وهي اللجنة التي اعترض عليها الأسد، على الرغم من إرساله أكثر من ألف شخصية برعاية أجهزته الأمنية.
الآن وبعد استدعاء بوتين للأسد، وافق الأخير على إرسال قائمة من مرشحين إلى اللجنة الدستورية لـ”تعديل” الدستور الحالي، مع تجنب ذكر مفاوضات جنيف.
وبدون الدخول في تفاصيل اللجنة الدستورية، ومهامها، ونتائجها، وتداعياتها على الشعب السوري، فهي بالمحصلة تعني الانتقال من الحل العسكري إلى المسار السياسي، وفق مقتضيات المصلحة بين كل الأطراف المحتلة لسوريا، بعيدا عن إيران التي انتهت مهمتها القذرة.
ثالثا- موقف الأسد
لا يزال الإيرانيون هم القوة العسكرية الأولى المهيمنة على المناطق الواقعة تحت نفوذ نظام الأسد؛ فهم من يسيطرون على مفاصل العاصمة دمشق، وتنتشر قواعدهم العسكرية بمحيطها، وعلى التلال المشرفة على الجولان السوري المحتل، وتمكنوا من ترسيخ نفوذهم عبر شبكة من المصالح المشتركة، استأثرت المذهبية الشيعية على الجانب الكبير منها، ومنحوا امتيازات استثمارية على شكل رشاوي للعديد من ضباط الأسد الذين يتحكمون بالمؤسسة الأمنية، وعلى رأسها المخابرات الجوية، وكذلك لقيادات الميليشيات المحلية المتشيعة حديثا كلواء الباقر، وشرائهم ذمم كثير من الشخصيات الاجتماعية والثقافية النافذة، مكوِّنين بذلك قوى محلية في سوريا دافعة لقوتهم الأولى في المنطقة، التي تتمثَّل بميليشيا حزب الله اللبناني.
من هنا جاء التصريح اليتيم بمطالبة روسيا انسحاب كل القوات الأجنبية من سوريا، على لسان نائب وزير خارجية النظام، فيصل المقداد، في قوله:” إن حكومته دعت قوات حليفة وصديقة لمساعدتها في الحرب على الإرهاب، ومن بين هذه القوات، قوات روسية، وإيرانية، وخبراء إيرانيين، وأخوة في “حزب الله” وكل هذه الأطراف هي معنية بالحرب على الإرهاب، ولا تنتهك سيادة وحرمة أراضي الجمهورية العربية السورية، وتعمل بتنسيق تام مع الدولة السورية في الحرب على الإرهاب”.
واضاف المقداد، “أنا لا اعتقد أن الأصدقاء الروس إطلاقا يقصدون القوى أو الجيوش التي دخلت سوريا بشكل مشروع، وبموافقة حكومة الجمهورية العربية السورية، هذا اختصاص حصري للجمهورية العربية السورية، وهذا الموقف المعلن من روسيا”.
فيما أوضح المبعوث الخاص للرئيس الروسي لشؤون التسوية السورية، ألكسندر لافريننييف في تصريحات صحفية أدلى بها الأسبوع الماضي، تعليقا على لقاء الرئيس الروسي مع بشار الأسد، في سوتشي: “إن هذا التصريح يخص كل المجموعات العسكرية الأجنبية، التي توجد على أراضي سوريا، بمن فيهم الأمريكيون، والأتراك، و”حزب الله”، والإيرانيون”.
خاتمة
لا يمكن للأسد تجاوز الثقل العلني للإيرانيين في كيان نظامه، فالميليشيات الإيرانية منتشرة في كل مفاصله، وعلى كل جبهاته، وعلى مشارف قصره يقف ممثل لواء “القدس” الإيراني بحربته الحادة، انتظارا للوقت الذي يجبره بالجلوس عليها، وليس ببعيد عن قصره، وحاضنته يتمترس الروس بقوتهم الجوية، وتحالفهم مع “إسرائيل”، وتفهمهم للمطالب الأميركية بطرد الإيرانيين مما يشير إلى تشظي تحالفهم الذي كان قائما لقتل السوريين، باسم تمكين “الأسد الحائر” بين المطالب الروسية، والمشروع الإيراني، ويبقى السؤال الكبير؛ أي حربة تنتظر الأسد ليجلس عليها؟.
المصدر: بلدي نيوز