• الخميس , 28 نوفمبر 2024

حسين جلبي: مقاومة العصر التي لم تصمد حتى المغرب!

يحلو لحزب العمال الكُردستاني إطلاق أسماء براقة على مشاريعه الوهمية؛ والعمل على غسل أدمغة أنصاره بها؛ لدفعهم إلى الانشغال ببريق الاسم ونسيان واقعهم المر، وصولاً إلى محاولة تسويق تلك الأوهام وفرضها على الآخرين رغماً عنهم، حتى يصبح المكان جزءاً من عالم اللامعقول، ويحلو له ـ أي للحزب ـ تزيين هزائمه والاحتفال بها، لدرجة أن دبكات أنصاره وضحكاتهم وسط الخرائب والدماء، وهم الذين لم يعد لديهم ما يخسرونه، قد تدفع المرء إلى أن يحسدهم على “نعمة الهزيمة”، وتمني أن يلقى مثلها كل يوم، لكي تتاح له فرصة الاحتفال وإغاظة العدو، مثلما يحاول الحزب أن يفعل!

وقد أطلقت الفصائل التابعة لحزب العمال الكُردستاني؛ من قسد ووحدات حماية الشعب على العملية العسكرية التركية في عفرين اسم “مقاومة العصر”، رغم أن مجريات العملية التي سماها الأتراك من جهتهم “غصن الزيتون” كانت من طرف واحد، وكانت بكل المقاييس أسرع معركة في التاريخ، ويحق لها أن تحصل على رقم قياسي بذلك؛ حتى على مستوى الحروب التي تجري في سوريا، إذ انتهت بهزيمة الحزب قبل اكتمال شهرين على انطلاقها، وهي المدة التي احتاج إليها الجيش التركي؛ وحلفاؤه من الفصائل المسلحة السورية للسير عبر أراضي المنطقة الوعرة؛ حتى الوصول إلى مركز المدينة، بينما كانت وظيفة الحزب طوال تلك المدة هي تلقي الضربات والتقهقر، ووظيفة آلته الإعلامية هي الإنكار؛ وتكذيب سقوط النواحي والبلدات والقرى، وعندما كانت الصور تذهب إلى عكس ادعاءاته، كان يبادر إلى طي ملف المواقع التي يخسرها، ونقل حفلات الإنكار إلى ما يليها، إلى أن تلاشى وجوده من منطقة عفرين كلها؛ وانحصر في مركز المدينة حيث يمكنه الاحتماء بالمدنيين، لتستيقظ عفرين أخيراً وتجد الحزب وإدارته ومسلحيه؛ وقد تبخروا جميعهم تحت جنح ظلام الليلة السابقة.

والواقع هو أن الحزب اختار المواجهة مأخوذاً بوهم الانتصار، إذ إن استخدامه من قبل التحالف الدولي؛ ومن قبله روسيا وكذلك نظام الأسد جعله يسير دوماً في خط متصاعد، إذ لم تشهد السنوات السابقة تراجعاً له، بل كان يزحف باستمرار في جميع الاتجاهات؛ ما دام هناك من يقصف ويمهد له الأرض، ويطبطب على أكتاف مسؤوليه، الأمر الذي أصابه بالغرور؛ وجعله يظن أن الانتصارات تُسجَّل باسمه، وأنه يستطيع التحليق بأجنحة طائرات الحلفاء. بالإضافة إلى ذلك، راهن الحزب على عدم تفريط حلفائه به،

معتقداً بأنه أصبح أداة لا غنى لهم عنها، بعد أن حقق للجميع مصالحهم بطريقة أو بأُخرى، كما راهن الحزب على عدم جدية تهديدات الأتراك بالتدخل في عفرين، وهم الذين سبق لهم أن رسموا خطوطاً حمراء في غير مكان من سوريا؛ دون أن يدافعوا عنها مرةً واحدة، وأخيراً راهن الحزب على نظام الأسد، وهو المركز الذي يدور حوله، ويستمد وجوده من أزمته.

مع بدء الهجوم التركي على عفرين؛ استيقظ حزب العمال الكُردستاني من أوهامه، ووجد أن كل المعطيات السابقة قد تغيرت، لكن ذلك كان متأخراً جداً، فقد مهد “حلفاؤه” من جهتهم للهجوم التركي، من خلال إعلان الأمريكان أن المدينة لا تدخل ضمن نظاق نفوذهم، وقام الروس بسحب خبرائهم منها، بعد أن رفض الحزب العمل بنصيحتهم وتسليمها للنظام، وهي المدينة التي تسلمها منه قبل سنوات، وأطلق على عملية الاستلام والتسليم تلك اسم “تحرير”، واحتفل به مثل عادته. لم يجد الحزب أمامه أخيراً سوى نظام الأسد للاستنجاد به، متخذاً من مشجب “السيادة الوطنية” ذريعة لإعادة المدينة على رؤوس الأشهاد إليه، والتخلص من العبء الذي باتت تشكله عليه، لكن النظام الذي أصبحت سيادته بين الأقدام منذ سنوات، والمثخن بالجراح في كل مكان، استجاب لنداء الحزب له للدفاع عن المدينة؛ بطريقة فيها من الإهانة أكثر مما فيها من الجدية، عندما أرسل إليه بطريقة استعراضية قافلة شبيحة، من قبيل أن لكل مقامٍ مقالاً، ليتابع الحزب رحلة السقوط، وكأن طعنة النظام هي الأمضى.

ولأن الشيء بالشيء أو بعكسه يذكر، فقد شهدنا مراراً خلال السنوات الماضية؛ صموداً أسطورياً لفصائل سورية معارضة، رغم إمكاناتها المتواضعة، إذ دافعت بها عن قرى سورية نائية؛ في وجه آلة نظام الأسد المدمرة وحلفائه جميعهم؛ بحيث إنها صمدت بما لا يقارن؛ مدةً تفوق بكثير تلك التي استغرقتها “مقاومة العصر” التي نسبها حزب العمال الكُردستاني لنفسه، هذا رغم الأسلحة الكثيرة؛ ومنها الأمريكية والإيرانية والسورية التي امتلكها الحزب، بحيث يمكن الحديث ضمن هذه الظروف عن “هزيمة العصر” المدوية التي مُني بها، بعد سنوات من التقدم، فالانسحاب من عفرين هو في الواقع تتويج للهزيمة، وتسلل مسلحيه وإدارته تحت جنح الظلام من المدينة؛ وذهابهم إلى مناطق سيطرة النظام يكشف بوضوح عن هويته الحقيقية، لمن لا يزال يشك فيها بعد.

لم يُهزم الكُرد في عفرين، الذي هُزم وفرَّ أمام الأتراك والفصائل المسلحة المتعاونة معهم؛ هو نظام الأسد وأداته حزب العمال الكُردستاني؛ الذي أدمن الهزائم واعتاد على تجميلها وتغليفها بتحقيق مصالح الآخرين. معركة عفرين لم تكن معركة الكُرد إذاً، فهم لم يختاروها ولم يشاركوا فيها، بل كانوا رغماً عنهم وَقوداً وغطاءً لها.

مقالات ذات صلة

USA