• الأحد , 24 نوفمبر 2024

عبد الله تركماني : النمط البريطاني – الفرنسي من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث.

تحقق هذا النمط قبل سيطرة نمط الإنتاج الرأسمالي الحديث، إذ ترافقت الوحدة القومية مع قيام حكم ملكي مطلق، ألغى شكل الدولة الاقطاعي، وأقام نمط الدولة المركزية. وفي ظل هذا النمط من الحكم، المماثل لنمط الحكم في الاستبداد الشرقي، أخذ نمط الإنتاج الرأسمالي يتطور.لقد كانت أوروبا، المقسمة إلى إقطاعات والمنقسمة دينيا، تبحث عن وحدة دولها القومية، وكان الملوك يعملون لهذه الوحدة ضد الانقسام الإقطاعي والمذهبي، ومن أجل بناء القوة لمواجهة الخصوم في الداخل والخارج، ومن أجل احتلال المستعمرات، خاصة بعد اكتشاف القارة الجديدة. لقد صار القرن السابع عشر، الذي يسمى قرن السلطة، في منتصفه مأساويا بالنسبة للملوك. ففي انكلترا، أعدم كرومويل (1) الملك شارل الأول سنة 1649، وأعلن الجمهورية. وفي سنة 1688 ربح البرلمان المعركة ضد الملكية المطلقة، حين جعلها ملكية دستورية وبرلمانية. وفي سنة 1689 عاد جون لوك (1632 –1704) إلى بريطانيا ومعه كتابه عن ” الحكومة المدنية “، وبدأ التنظير لمناهضة الحكم المطلق.وهكذا، بدأت السلطة في الانتقال إلى البورجوازية سنة 1689 في بريطانيا، وسنة 1789 في فرنسا، ولكنّ الوحدة القومية في كل من البلدين كانت قد توطدت. فالدولة، في المثالين البريطاني والفرنسي، كانت عامل توحيد، لا بمقدار ما هي سلطة، بل بمقدار ما هي تعبير عن مصالح اجتماعية، وعن قوى قادرة اجتماعياً على النهوض بمهام التحديث وبناء الدولة القومية الحديثة. لقد كان التوسع الإمبريالي البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر، في جانب من جوانبه، تعبيراً عن رد فعل ” أمة قلقة “. فلقد كان عدد سكان انكلترا عام 1891، مثل فرنسا، 38 مليون نسمة، غير أنّ عدد سكان ألمانيا كان 50 مليون، والولايات المتحدة الأمريكية 64 مليون، وروسيا 100 مليون، وعليه فقد شعرت الأمة الانكليزية أنّ الإمبراطوريات تهددها. لقد كانت انكلترا تملك أسطولاً تجارياً تضاهي حمولته جميع الأساطيل الأخرى، لكنّ الصادرات الانكليزية تدهورت منذ سنة 1872، إذ تبنت ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية سياسة تعريفات جمركية حمائية، وعندها اكتشف الرأي العام الانكليزي الحاجة إلى توسيع غزو الأسواق. وفي حين أنّ الليبراليين الانكليز ظلوا أوفياء لمبادئ عدم التدخل في الموضوع الاستعماري، فإن ديزرائيلي ناقض هذا الموقف واتهم الليبراليين، في خطبة له يوم 24 يونيو/حزيران 1872، أنهم يرمون إلى تفكيك الإمبراطورية، وأنهى كلامه قائلا: ” لا يقوم وزير في هذه البلاد بواجبه إن أهمل أيّة مناسبة لإعادة بناء امبراطوريتنا الاستعمارية بأفضل ما يمكن “(2). لقد كان تحوّل ديزرائيلي إلى السياسة الاستعمارية ذا أهمية قصوى لحزب المحافظين البريطاني، حين أدرك الفرصة التي شكلتها سياسة العظمة الإمبريالية بالنسبة للحزب، وهي أن يتجدد ضمن إطار الإمبريالية.إنّ الامبريالية الانكليزية قرنت ” المثل الأعلى الإنساني ” وتأمين المصالح البريطانية على نحو وثيق، إذ تحدّث منظّرو هذه الإمبريالية، مثلهم مثل كل منظّريها، عن أنّ ” انكلترا ذات رسالة تتطابق مع المصالح الإنسانية “، وأنّ ” العَلَم البريطاني راية الحضارة “، ووصل الأمر ببعضهم للقول : ” إنّ تفوّق العرق الانكليزي والعرق الألماني على العروق اللاتينية هو تفوّق أخلاقي وديني بصورة أساسية “.وفي فرنسا، التي ترجع جذور تكوينها كأمة إلى مشروع نظامها الملكي منذ القرن الحادي عشر، حيث جرى اندماج تدريجي، عبر عدة قرون، لشعوب مختلفة الأصول هجرت لغاتها، فتفرنست لغوياً وثقافياً. وعندما جاءت الثورة الفرنسية سنة 1789 فتحت عصراً جديداً في تناول إشكالية السياسة والمجتمع والثقافة، حيث حلت مفاهيم شرعية علمانية للممارسة الاجتماعية، وأنشأت نظام التعليم الحديث الذي عجّل التطور الثقافي، وخلق وحدة ثقافية – لغوية متينة.كما أقامت الثورة الفرنسية دولة مركزية إلى أبعد الحدود المتصورة، فقد ألغت الأقاليم التاريخية التي تكوّنت منها فرنسا، وأعادت تقسيم البلاد إلى نيّف وثمانين وحدة إدارية، وحظرت استخدام أية لغة غير الفرنسية. وأقامت كل مرافق الدولة على نمط واحد في مختلف أرجاء البلاد. وساعد على ذلك، أنّ الثورة الفرنسية حين أسقطت ملكية لويس السادس عشر أعلنت أنّ السلطة عادت إلى الأمة، تمارسها من خلال ممثليها المُنتَخَبين. لقد كانت حروب الثورة الفرنسية تقدمية وثورية دون أن تخلو من نوازع استعمارية، فحروب نابليون تحمل جانبين: أحدهما، تقدمي وثوري. وثانيهما، رجعي. إذ إنّ زلزلة العروش والإقطاع والعهد القديم، ودفع وحدة ألمانيا إلى الأمام، والقضاء على استقلال الأمم وإخضاعها لفرنسا ونابليون، كل ذلك دفع التقدم ولجمه في آن واحد. إنّ الحروب القومية ضد نابليون (نزول الشعوب – الأمم إلى الحلبة، بفضل نابليون وإصلاحاته ونهبه اللصوصي) تحمل جانباً تقدمياً أساسياً وبالغ الشأن، رغم وجود القيصر الروسي وبريطانيا في زعامة الحلف المناهض لفرنسا (3).لقد كانت النزعة القومية الفرنسية، أثناء النصف الأول من القرن التاسع عشر، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بذكريات الثورة الفرنسية والملحمة الإمبراطورية، وكان للقومية الفرنسية طابع مزدوج، استذكاري وتنبؤي، ظهر بوضوح في نتاج ميشلية (1798-1874). فالأمة: ” لم تعد مجموعة كائنات مختلفة، إنها كائن منظّم، وأكثر من ذلك، إنها شخص أخلاقي، وسرٌّ عجيب يشّع: إنها روح فرنسا العظيمة “. ويتكل ميشليه، كما الكثير من معاصريه، على الشعور القومي من أجل إقامة السلام والوفاق الشاملين: ” الوطن هو البداية الضرورية للوطن العالمي “. ويعتبر أنّ الوطن يُبنى على الصداقة: ” الوطن، أو الصداقة العظيمة التي تكمن فيها جميع ارتباطاتنا، إنما يتكشف لنا عن طريقها أولاً، ثم يعممها بدوره، وينشرها ويسمو بها. فيغدو الصديق شعباً بأكمله. وإنما صداقاتنا الفردية درجات أولى في هذه البداية العظيمة، أو محطات تنتقل خلالها الروح وتصعد رويداً رويداً لكي تتعارف وتتحاب في هذه الروح الفضلى “. ويربط ميشلية ربطاً وثيقاً بين الأمة والحرية، وبين الأمة والثورة. ففرنسا، في نظره، هي الأمة الثورية جوهراً: ” لا يكون بتاتاً لفرنسا، أمام أوروبا، إلا اسماً واحداً لا يُكفَّر عنه، وهو اسمها الحقيقي الخالد، ألا وهو الثورة ” (4).بيد أنّ هذه القومية الفرنسية، منذ أواخر القرن التاسع عشر، تختلف اختلافاً كبيراً عن القومية الليبرالية والرومانسية، التي بشّر بها ميشلية وأقرانه. إذ أنها أعادت صياغة عقيدتها القومية، على ضوء شروط الحقبة الجديدة، والتي كان عنوانها الرئيسي: الهزيمة أمام ألمانيا، فبنت مفرداتها ورموزها القومية من جديد. ففي حين أظهرت ” كومونة باريس ” في عام 1871 قوة الوطنية الشعبية، فإنّ الهزيمة أمام ألمانيا وإلحاق الإلزاس واللورين، قد أديا إلى نمو نزعة قومية جديدة، ثأرية ومتزمتة ومضادة للبرلمانية ومناهضة للسامية وحمائية ومحافظة، نشأت عن تأمّل أسباب الهزيمة والبحث عن شروط الثأر. وفي حين كان ميشلية مأخوذاً بـ ” السراب الألماني “، كانت القومية الفرنسية معادية لألمانيا عداء عميقاً.إلا أنّ النزعة القومية الشمولية للفيلسوف الفرنسي ارنست رينان قد ساهمت في تخفيف غلواء النزعة القومية الفرنسية، فهو من دعاة المفهوم الشمولي والقاري للأمة، ذلك المفهوم الذي توازى مع ” استيعاب ” أوروبا للعالم. فالبنسبة لرينان، فلا العنصر، ولا اللغة، ولا القرابة الدينية، ولا الجغرافية، ولا المصلحة الاقتصادية أو الضرورات العسكرية، كافية لتشكّل عناصر تكوّن الأمة. فالإنسان، بالنسبة إلى رينان، لا ينتمي إلى لغته، ولا لجنسه، إنه لا ينتمي إلا لنفسه، باعتباره كائناً أخلاقياً حراً. والأمة هي روح ووعي وعائلة روحية تنشأ عن الماضي، عن الذكريات، عن التضحيات، والأمجاد، والأفراح والأتراح المشتركة، وفي الرغبة في العيش المشترك. وما يكوّن الأمة، عند رينان: ” ليس اللغة المشتركة، أو الانتماء إلى مجموعة إثنية مشتركة، وإنما القيام بأعمال مشتركة عظيمة في الماضي، وإرادة القيام بمثل هذه الأعمال في المستقبل “.لقد جعل هذا المفهوم للأمة من رينان وكتابه ” ما هي الأمة؟ ” أحد أبرز الدعاة إلى مفهوم قاري للقومية، وهو كان أول من تنبأ بالاتجاه الأوروبي نحو الوحدة السياسية: ” الأمم ليست خالدة، وهي تبدأ وتنتهي، ومن الممكن أن تحل محلها كونفدرالية أوروبية ” (5).وهكذا، أسست الوحدتان القوميتان البريطانية والفرنسية أكبر إمبراطوريتين عالميتين في التاريخ الحديث، بعد أن أفل نجم الإمبراطورية الإسبانية. فلم ينجح مشروع الدولة القومية في منع قيام الإمبراطوريات، حتى في التاريخ المعاصر، إذ إنّ سقوط الإمبراطوريتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية فتح المجال لبروز دور جديد للولايات المتحدة الأمريكية، ولشكل جديد من الإمبراطوريات القائمة على النهب الاقتصادي والقوة المالية، وليس على الفتح والقوة العسكرية فقط.الهوامش1- أوليفر كرومويل (1599-1658)، قائد الثورة الانكليزية ورئيس الجمهورية التي أقامها بانكلترا عام 1654، تعلّم بجامعة كمبردج، وأصبح عضواً في البرلمان منذ سنة 1628، وعاضد البيوريتان (التطهريين) بقوة في البرلمان، وفي أثناء الحرب الأهلية ارتقى سريعاً إلى مرتبة الزعامة لكفاءته الحربية ودوره في تنظيم جيوش البرلمان. هزم الملك شارل الأول عام 1645، وصدّ زحف الاسكتلنديين المناصرين للملك في برستون. وفي عام 1649 قاد حملة تأديبية على أيرلندا وقمع ثورتها بقسوة ووحشية، ثم غزا اسكتلندا وانتصر على الملكيين وهزم شارل الثاني. نفّذ إصلاحات قانونية وإدارية مختلفة، ثم حلّ البرلمان عام 1654، وحكم البلاد، بالاشتراك مع كبار قادة الجيش، حكماً ديكتاتورياً. وبالرغم من ميل كرومويل للتسامح الديني والحكم الديمقراطي، لم يطبّق هذا التسامح إلا على اليهود والبروتستانت غير التابعين للكنيسة الانكليكانية الرسمية. وقد اختلفت الآراء في كرومويل اختلافاً بيّناً، ولكن أقر الجميع ببراعته الحربية، ولم يعمّر النظام الجمهوري الذي أقامه طويلاً.2 – توشار، جان: تاريخ الأفكار السياسية، ترجمة: د. ناجي الدراوشة، جزءان، ط1 – دمشق، منشورات وزارة الثقافة 1984، الجزء الثاني ص 454. 3 – مرقص، الياس: الماركسية والمسألة القومية، الطبعة الأولى – بيروت، دار الطليعة – يناير/كانون الثاني 1970، ص 102.4- توشار، جان: تاريخ الأفكار…، المرجع السابق، ص 438-439.5 – نقلا عن: د. قاسم، جميل (الأمة.. والأمة العربية/دراسة أنتروبولوجية سياسية مقارنة) – عن مجلة ” الوحدة “، الرباط، العدد (89) – فبراير/شباط 1992، ص 10.

مقالات ذات صلة

USA