الجمهورية. نت:21/9/2020
أعادتْ شهادة مَن بات يعرف باسم «حفّار القبور» في محكمة كوبلنز، قبل أقلّ من أسبوعين، الحديث عن الفظائع المرتكبة في سجون النظام السوري، وعن القتل بالتعذيب أو نتيجة سوء ظروف الاعتقال إلى أقصى الدرجات. وكان الشاهد، الذي يُعرف في الوثائق الرسمية للمُحاكمة بالرمز Z 30.07.2019 قد تحدّث خلال جلستي التاسع والعاشر من شهر أيلول (سبتمبر) الجاري، عن عملِه الذي استمر بين عامي 2011 و2017، كمشرفٍ مدني على عمليات الدفن التي كانت تجري في مقبرة نجها بالقرب من دمشق.الصور المأساوية التي تضمّنتها تلك الشهادة كانت تذكيراً بصور المعتقلين التي هرّبها المصوّر المعروف باسم «قيصر»، والذي كان يعمل في مركز التوثيق في الشرطة العسكرية. هذه الفظائع التي لا يمكن تصوّرها لم تحصل خلال الاعتقال فحسب، بل أيضاً عند دفن جثامين الشهداء الذين جلبتهم أفرع الأمن والمشافي العسكرية بعد وفاتهم، من أجل دفنهم في مقابر جماعية جرى تجهيزها لهذا الغرض في منطقة نجها القريبة من دمشق.الشهادة أُعطيت خلال محاكمة مسؤولٍ سابقٍ في المخابرات السورية، كان يشغل منصب رئيس قسم التحقيق في فرع الخطيب (الفرع 251)، بالإضافة إلى صفّ ضابط يعمل في نفس الفرع. المحاكمة التي تجري منذ أشهر في مدينة كوبلنز الألمانية، تستعيد شهادات ضحايا وخبراء حول الاعتقال والتعذيب في المعتقلات السورية، تحديداً فيما يخصّ فرع الخطيب، حيث كان يعمل المتهمان. وأتت شهادة حفّار القبور في سياق إثبات عمليات القتل الجماعي التي كانت تمارسها الأفرع الأمنية.يتحدّث الشاهد عن التزامه التام خلال أكثر من ست سنوات بالعمل بشكلٍ يومي على مراقبة وتنفيذ عمليات دفنٍ جماعي، لجثامين يعود معظمها لضحايا قضوا في أفرع الأمن المختلفة، كان يجري تجميعها في شاحنةٍ في كل فرع على حدة، أو تكون قادمةً من مستشفيات، مثل مشفى 601 العسكري. كذلك، كانت بعض الجثامين تأتي من المستشفيات المدنية، كمشفى المجتهد أو المواساة، ولكن بنسبٍ أقل.وقد جرى تجهيز حفرٍ لدفن الجثامين، سميت بين العاملين في الدفن باسم «خطوط»، وهي تختلف في عمقها وطولها، لكنها كانت تُعدّ بشكلٍ دائمٍ بغرض دفن عشرات الجثامين في مقابر جماعية. ويراقب هذه العملية ويشرف عليها، بحسب الشهادة، مندوبون من الأفرع الأمنية، يقومون بتوثيق الأعداد لكلّ فرعٍ أمني، ويعودون للحصول على توقيع الشاهد على قوائم الأرقام، الذي قال إنها تتراوح يومياً بين 500 و700.يُظهر العمل، الذي استمر لسنوات بتلك الطريقة، ليس تورط أفرع الأمن التابعة للنظام بعمليات قتلٍ جماعي للمعارضين فحسب، بل أيضاً تصميم آلياتٍ بيروقراطية في تلك الأفرع والأجهزة الأمنية لتسيير عمليات القتل وما يتبعها.وتقول الشبكة السورية لحقوق الإنسان إنها قد وثقت أسماء أكثر من 100 ألف مختفٍ قسرياً في سوريا منذ شهر آذار (مارس) عام 2011. وتؤكد الدراسات التي أجرتها الشبكة بأنّ الحالات، التي وثّقتها وفق منهجيةٍ محددة وواضحة، قد لا تشمل كامل أعداد المختفين قسرياً في سوريا. وتلتزم المنظمات الحقوقية بمنهجيات عمل وتدقيق المعلومات قد لا تسمح بتوثيق كامل الحالات، وقد أظهرت حوادث معينة بأنّ الأرقام الموثقة قد لا تعبر سوى عن جزء من الحالات، مثل حادثة كشف أسماء المعتقلين الذين قتلوا في المعتقلات من خلال شهادات الوفاة الصادرة عن دوائر السجل المدني.مع ذلك، تبقى الحالات التي تمّ توثيقها بشكلٍ كامل ضخمةً جداً؛ إذ تظهر اختفاء 5 أشخاص من كل ألف سوري خلال تلك الأعوام، وهي نسبةٌ مهولةٌ من حالات الاعتقال، تظهر تحوّل الأفرع الأمنية في سوريا إلى ماكينات ضخمة لاعتقال السوريين وإخفائهم.وتمتلك الأفرع الأمنية في البلاد مرجعياتٍ متعددة؛ إذ يتبع جزءٌ منها إلى وزارة الداخلية بشكلٍ نظري، مثل فرعي الأمن السياسي والأمن الجنائي، بينما تتبع أفرع أخرى إلى القيادة العامة للجيش، مثل شعبة الأمن العسكري، في حين تتبع أجهزةٌ أخرى شعباً فرعيةً في الجيش، مثل إدارة المخابرات الجوية.وقد جرى تصميم أفرع الأمن تلك وآليات عملها وسلطاتها لتكون مشرفةً بشكلٍ كاملٍ على جلّ تفاصيل الحياة اليومية الخاصة للسوريين (كان الحلاق، مثلاً، يحتاج إلى موافقةٍ أمنية لفتح صالون حلاقة حتى العقد الأول من الألفينات). وقد أدّت تلك الأفرع دوراً رئيسياً في القمع السياسي لكل الحركات المناوئة للنظام، عبر القضاء عليها مادياً من خلال اعتقالٍ طويل الأمد أو عبر قتل منتسبيها، وهو ما شمل تياراتٍ من أقصى اليمين حتى أقصى اليسار، تحديداً منذ نهاية السبعينات وحتى نهاية الثمانينات، ولكن قبل ذلك وبعده أيضاً.غير أنّ عمليات الاعتقال طويل الأمد التي جرت خلال فترة الثمانينات، كانت تتمّ بآليةٍ تبدأ من عمليات التحقيق والتعذيب في الأفرع الأمنية، ومن ثمّ نقل المعتقلين المطلوب سجنهم إلى سجون مدنية، مثل المسلمية في حلب وعدرا في دمشق، أو سجون عسكرية مثل تدمر، ولاحقاً في التسعينات إلى سجن صيدنايا العسكري. ولم تُظهر تلك الآلية اختلافاً شديداً إثر تولي بشار الأسد رئاسة النظام بعد أبيه.بعد انطلاق الثورة السورية، كان من الممكن ملاحظة ارتفاعٍ شديدٍ في عمليات الاعتقال الجماعي، كما جرى تغييرٌ منهجيٌّ في تلك العمليات؛ حيث أصبحت تطال المدنيين على الحواجز المنتشرة في معظم أرجاء البلاد، وذلك من دون وجود تهم مباشرة من قبل جهاز النظام الأمني، وهو ما عُرف بعمليات الاعتقال العشوائي، التي ضمّت بالطبع أعداداً كبيرةً من الناشطين في الحراك المناهض للنظام، الذي انطلق مع بداية الثورة السورية ربيع 2011. إلّا أنها كانت تضم مدنيين من دون وجود تهمٍ عدا انتمائهم إلى مناطق شهدت توسّع هذا الحراك.شهادات الناجين من الاعتقال عن تلك العمليات ومن بينها شهادة الشاهد الذي يشار إليه برمز P4 في جلساتٍ سابقةٍ من محاكمة كوبلنز، توضح أعداد المعتقلين المهولة في أقبية فروع الأمن، وبقائهم لفتراتٍ طويلة، حيث ذكر الشاهد أنّ زنزانةً بمساحةٍ لا تتجاوز 60 متراً مربعاً استقبلت في بعض الأحيان 800 معتقل.الاستمرار في عمليات الاعتقال حتى بعد أن غدت ما يمكن تسميتها بـ«البنية التحتية للاعتقال» غير قادرةٍ على الاستيعاب أكثر من ذلك، يبدو أنّه طرحَ تحدياً على آلة الاعتقال تلك، والتي كان من الواضح أنها تتلقى تعليماتٍ واضحةً تُشدّد على الاستمرار الواسع في تلك العمليات. كما يبدو أن التحويل إلى السجون المدنية لم يكن سوى الخيار الأخير، إذ جرى تجريب التحويل إلى سجن صيدنايا العسكري، الذي كشفت شهاداتٌ مستمرّةٌ منذ بدء الثورة عن عمليات التعذيب وسوء ظروف الاعتقال فيه، ومن بينها شهاداتٌ وثقتها رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا في كتابٍ نشرته في شهر آب (أغسطس) الماضي.تكشف شهادات المعتقلين والصور التي سرّبها مصور الشرطة العسكرية المعروف باسم قيصر، قيام تلك الأفرع بعمليات قتلٍ واسعةٍ للمعتقلين تحت التعذيب، أو تركهم للموت نتيجة سوء ظروف الاعتقال وسوء التغذية وبفعل الأمراض المنتشرة، بالإضافة طبعاً إلى التّأثر بإصاباتهم البليغة نتيجة التعذيب.تكتمل دائرة عملية القتل الجماعي للمعتقلين، مع شهادة حفّار القبور الذي عمل سنواتٍ طويلة مع أفرع الأمن على دفن الضحايا بشكل جماعي، وكانت أفرع الأمن تتنافس على من ينفذ أكبر عمليات قتلٍ، حسب ما يقوله الشاهد. كانت هناك منافسةٌ تستوجب بالطبع تنفيذ أوامر لأعلى تسلسل في السلطة لإرضائها. جرى قتل الآلاف من السوريين بوحشيةٍ ضمن المعتقلات، ودفنهم جماعياً لطمس الحقائق وإخفائها.كان يمكن فهم الاعتقال السياسي في سوريا طوال السنين الطويلة على أنه أداةٌ لترهيب السوريين، من القيام بأي أنشطة معادية للنظام، كما كان أداةً للقضاء بشكلٍ نهائي على تنظيمات سياسية كاملة. لكن عملية الاعتقال بعد الثورة في سوريا اختلفت، ليس بآليات الاعتقال ونوع التعذيب فقط. لقد أصبح الاعتقال في سوريا ماكينةً وحشيةً للقتل أيضاً؛ بهدف القضاء الكامل والمادّي على المعترضين على النظام، أي أنّ أجهزة النظام الأمنية قد أقلمتْ نفسها مع عملية إبادة المعترضين سياسياً على النظام السوري بعد انطلاق الثورة. وتحولت ماكينة الاعتقال العملاقة التي كانت تجثم على صدور الجميع في البلاد طوال نصف قرن إلى ماكينة قتل عملاقة. لقد حدثت إبادة في سوريا على نسق الجرائم الكبرى ضد الإنسانية التي ثُبتت فداحتها في الوجدان الكوني، ويجب الاعتراف بهذه الجريمة التي وقعت بحق السوريين، والتعامل معها كما ينبغي.