• الإثنين , 25 نوفمبر 2024

في ” عصر المعجزات ” يعود ميشيل من عالم الغيب ليبارك للجميع .

د. عارف دليلة :

في ” عصر المعجزات ” يعود ميشيل من عالم الغيب ليبارك للجميع ، بصوته الخفيض من تحت كمامة الاكسجين ، بقدوم شهر رمضان المبارك ، وليترك فيهم وصيته الاخيرة ، وليرحل عن دنياهم التي لم يعد فيها ما يسر الناظرين !قبل ايام تحدثت مع صديقنا المشترك نادر جبيلي المقيم في باريس لينقل بصوتي رسالة صوتية الى ميشيل بسرور الجميع بسماع تهنئته ووصيته الحكيمة بصوته بعد عودته الى الانتعاش والتعافي ، ولم يدر بخلد احد بانها عودة الروح لساعات فقط ، وكان الاخ نادر قد حكى لي كيف ان ميشيل كان قد وصل الى وضع ميؤوس منه في المشفى فقرروا نقله الى مستشفى افضل حيث عادت اليه الروح من جديد ، ولكن ، كما راينا ، وللاسف الشديد ، فقط لكي يترك في السوريين وصيته الاخيرة ، ثم يفاجئنا بمغادرته ، و بشكل نهائي ، دنيانا الى عالم الغيب !

لا اظن ان هناك سوريا واعيا له صلة بالشأن العام لم يصله وهج من ميشيل كيلو على مدى نصف قرن ونيف ، ثقافة او ادبا او سياسة، او فكرا وفلسفة ، بشكل عام ، وبالاحرى من نشاطه العملي .والاهم لدى ميشيل كيلو ، هو الجمع الخلاق بين الفكر والممارسة ، وعدم الانزواء في برج عاجي بعيدا عن الواقع والمجتمع والانسان ، فقد كان له مساهمته الفكرية والعملية في معظم الانشطة والتنظيمات الوطنية ، ولكن دون ان يصبح اسيرا لاي منها ، وبكلمة ، فقد كان مثقفا عضويا بكامل معنى الكلمة !لقد برز نشاطه ، مثلا ، في باكورة انشطة المجتمع المدني في ربيع دمشق ( لجان احياء المجتمع المدني ) في اواسط عام ٢٠٠٠ والتي انتشر بيانها الاول على كامل المساحة السورية المكانية والاجتماعية ، وكنا ، كمكتب تنفيذي من ١٥ شخص ، ننتقل من مدينة لاخرى لعقد الاجتماعات مع الكثيرين الذين كانوا ، تحت ضغط القمع غير المسبوق ، قد فقدوا الثقة بالسياسة ويئسوا من التفكير بالمستقبل .

واذ بالشعب السوري يخرج كالعنقاء من تحت الرماد وينظم ربيعا بالغ الحيوية والنشاط غير مسبوق في العالم العربي !وكان الامل ان يثمر الربيع في صحرائنا القاحله كل ما تحتاجه امتنا لتخرج من عنق زجاجة التخلف والبؤس والاحتباس التاريخي الى العالم الجديد المفتوح على التقدم والنهوض الشامل ، وبالاخص وهي تمتلك من المقدرات والطاقات المادية والبشرية ما لم يكن متاحا لاكثر الامم ، بينما هي مازالت محكومة بالطغيان والفساد ، والانحطاط والاستبداد ، اكثر من اي امة اخرى في العالم ! فلماذا كان علينا ان نقبع في محاجرنا ، كالسلحفاة ، ولا نخرج الى النور ، تحت ضغط الخوف من اتهامنا باشنع الاتهامات ، مثل تقويض همة الامة ، او معاداة النظام الاشتراكي ( كذا !) او التحريض على الحرب الاهلية ..الخ ،

كما حكى لنا ميشيل الكبير في برنامج “الذاكرة السياسية ” على شاشة ” العربية ” قبل ثمان سنوات ، كيف استدعاه ، مع صديق اخر ، احد سجاني مثقفي الشعب السوري ليقنعهما بانهم لم يقوموا باعتقالي ( في ٩/٩/٢٠٠١) بسبب معارضتي للفساد ( كما كان يعرف القاصي والداني ) وانما لاني كنت احرض على الحرب الاهلية !!! ولما نفى ميشيل عني هذه التهمة وطالبه بالدليل ، فلم يكن لديه غير قولي :” اذا استمر تطورنا على هذا المنوال فانه سيقود الى انفجار اجتماعي ” ، عندها قال له ميشيل : اذا كنت صديقك وأراك تشعل السيجارة من السيجارة وقلت لك ” توقف عن التدخين والا فانك ستصاب بالسرطان القاتل ، واذا حدث لاحقا واصبت فعلا ، فهل اكون انا سبب اصابتك ، ام اكون احرص عليك من نفسك وانا انصحك لكي تحمي نفسك من السرطان ؟ ” ! هكذا ” كنا عايشين !” ، محكومين بمن لايجدوا ماهو اجدى لحماية فسادهم واستبدادهم واستمرارهم في تدمير الدولة والمجتمع في سورية غير تلفيق الاتهامات للعقلاء والشرفاء ل” تنظيف ” محيطهم منهم .

ولم يطل الوقت حتى اصبح ميشيل نفسه نزيل احد زنازين ” منتجع عدرا ” الذي بني في الثمانينات كأكبر ” مشروع” في خطط التنمية في الثمانينات في سورية ! ، وربما الاكبر من نوعه في العالم ! ، هذا في وقت كان الشعب السوري فيه يتلقى ” دورة تدريبية ” على الانتظام في طوابير المواد الضرورية ، ولكننا ، مع ذلك ، كنا عايشين افضل منا الان ، لان الدخل كان ، بعد كل انهياراته انذاك ، افضل منه الان بثلاثين مرة على الاقل ، ولم تكن شركة “تكامل” الحالية ، صاحبة ” البطاقة الذكية ” قد ظهرت بعد ، كمنافسة ل ” سيرياتيل “السباقة لها في الشفط والتشليح ونهب الدولة والمواطنين المعدمين ، والتي ظهرت آنذاك ، ك “ثمرة ” لاعتقالنا ك “محرضين على الحرب الاهلية ! “.

لم يكن ميشيل يوما متغيبا عن تفاصيل هذه الوقائع الميدانية، منعزلا في برجه الثقافوي العالي ، كما يقبع معظم “مثقفي” الشعب السوري !هذا ميشيل يقول في وصيته الاخيرة التي عاد من الغيب لساعات ليبلغها ، ثم يعود : “اتحدوا ، والا فلن تبلغوا شيئا من الحرية والكرامة !ابدؤوا مراجعة نقدية توضح ، بصراحة وبمسؤولية وبشفافية ، اين اخطأنا واين اصبنا ، وكيف يجب ان نعيد بناء احوالنا لنستطيع ان نتابع طريقنا نحو سورية الحرية والكرامة !”في كتاب الإئتلاف الذي ينعي فيه الراحل ميشيل كيلو ، يقولون : انه كان عضوا بارزا في الإئتلاف ثم استقال منه بسبب الاختلافات !فهل يبدا زملاؤه السابقون في الائتلاف بتنفيذ وصيته ب “المراجعة النقدية “وتوضيح الاختلافات التي اودت بميشيل الى الاستقالة ؟ بل هل زالت هذه الاسباب ام تعمقت منذ استقالته ؟ بالطبع ، على ان لا تقتصر المراجعة النقدية على ادانة الاخرين من اجل تبرئة الذات ؟

اليست اسباب استقالتك ، ايها الغالي الراحل ، من الائتلاف هي نفسها الاسباب التي جعلتنا ، انت وانا ، (وربما كثيرون اخرون) نحجم عن المشاركة في “المجلس الوطني من اجل ان يصبح اكمل تمثيلا للشعب السوري ” ( كذا !) عندما كنا نلتقي باعضائه في باريس في الاشهر الثلاثة الاخيرة من عام ٢٠١١ قائلين “انه ولد ميتا ، وما هكذا تكون قيادة الثورات” والامر نفسه ، وعلى شكل اسوأ ، تكرر في الائتلاف ، الذي سمعتهم منذ ايام يناقشون سبب فشلهما ويجمعون على ان انشقاق هيئة التنسيق وعدم قبولها المشاركة بهما كان الضربة القاضية للمعارضة السورية وانشقاقها الى معارضة داخلية ومعارضة خارجية ، وصدق المثل القائل ( جحا اكبر من ابيه ) فمن الذي انشق عن من ؟بالتاكيد ، ليس هذا هو النقد الذي يريده فقيدنا الكبير ميشيل كيلو ! واعتذر من كل من يعتبر في المكتوب المطول اعلاه “استغلالا للمناسبة ” وخروجا على تقاليد التعزية !

ولكني اعتقد ان اكثر ما يسر ميشيل هو الخروج عن تقاليد العزاء اذا كان من اجل الانشغال في الشان العام بما هو مفيد ، طبقا لوصيته الثمينة !الرحمة والسلام لفقيدنا الكبير ميشيل كيلو ، الحاضر الغائب دوما ، واحر العزاء لرفيقة عمره الغالية ام ايهم وابنتهما واخويها الكرام ، ولجميع محبيه .

مقالات ذات صلة

USA