مقدمة:
يدخل الصراع الدائر في سوريا، منذ نحو ثماني سنوات، مرحلة جديدة، تتسم بتقارب استراتيجيات الدول الفاعلة بعد الدعوة لعقد اجتماع ثلاثي في القدس الغربية خلال أيام، يضم رؤساء مجلس الأمن القومي الأميركي جون بولتون ونظيريه الروسي نيكولاي باتروشيف والإسرائيلي مئير بن شبات، الذين يُفترض بهم، حسب أهداف الاجتماع المعلنة، “مناقشة الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط” وفق جدول أعمال يأتي في مقدمة ترتيباته: إعطاء أولوية لضمان “أمن إسرائيل”. بناء على لقاء “تفاهم” بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين في قمة هلسنكي في يوليو/تموز عام 2018م على أن يتضمن اجتماع القدس إطلاق يد روسيا في سوريا مقابل إخراج الميليشيات الإيرانية من سوريا، ومن ثم الدعوة لإخراج تركيا من سوريا، والعمل على تأهيل نظام الأسد في إطار استعداد الولايات المتحدة، الدفع قدما بالعملية السياسية من منظور روسي كإنجاز اللجنة الدستورية وتنفيذ القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن بعد تفريغه من مضامينه، بما يحقق “أمن إسرائيل” ومصالح الولايات المتحدة وروسيا.
يعتبر “اجتماع القدس” تأسيساً لمرحلة جديدة في مسار الصراع على سورية والمنطقة، بما يمثل مصدراً للاستقطاب والتنافس بين الأطراف الدولية والإقليمية، ويظهر ذلك على أجلى صورة، في التنافس الجاري بين روسيا وإيران للاستحواذ على مناطق النفوذ في سوريا وعلى مراكز قوى الأمن، والميليشيات المختلفة، حتى باتت إيران القوة الإقليمية الضاربة في سوريا من خلال خبرتها وعلاقاتها الكبيرة، التي تتمتع بها، وقدرتها الفائقة على توظيف التناقضات داخل أطراف الصراع، واختراقها والتلاعب بها بما يخدم أجندتها الخاصة، ولكن إيران تختلف عن تركيا التي سقطت في مصيدة مسار آستانا واتفاق سوتشي، تجسد ذلك عمليا في استراتيجية مناطق خفض التصعيد التي ابتلعتها روسيا تدريجيا، ولم يبق منها سوى محافظة إدلب وما يحيط بها من المناطق المحررة التي أيقظت تركيا للتمسك بآخر منطقة واقعة تحت نفوذها.
وللاقتراب من “اجتماع القدس” ومما سيدور بين أطرافه من تفاهمات سياسية، ولرصد طبيعة الشراكة المستجدة بينهم، والخلافات، التي ستعترضهم، وتداعيات ذلك على إيران وتركيا، سنناقش ذلك من خلال مجموعة من المحاور، استكمالا لرؤية ما سيجري وما هو مُتوقع.
” القدس” مسار جديد يخلط الأوراق
تتزامن الدعوة لعقد اجتماع القدس في الوقت الذي تمزق فيه روسيا عملياً مسار آستانا بعد طي وثائق جنيف باعتبارها أقوى الوثائق السياسية الدولية لحل الصراع في سوريا، لتدخل كل أطرافه في نفق سياسي مسدود، لا يفتحه سوى لغة الحرب الأكثر فاعلية والأسبق في التنفيذ من أي مسعىً سياسي قدمته الأطراف الدولية في جنيف أو في التفاهمات الثنائية بين واشنطن وموسكو، فالخيار العسكري هو الأسبق لفرض السيطرة الروسية بالقوة المسلحة على البلاد كلها، ونسف كل مبادرات السلام التي دعت إليها في آستانا بعد الالتفاف عليها طويلاً، وفق استراتيجية من يجيد تقدير الموقف من الحسم العسكري تقديراً دقيقاً، ومثلما كان “سوتشي” لوصد الأبواب أمام أيّ مسعىً حقيقي إلى السلام ونسف “قرارات جنيف” التي أقرها ممثلو الدول الكبرى؛ فإن الدعوة لاجتماع “القدس” تسجل شهادةً أخرى، على أنّ تجربة الحسم العسكري في تثبيت المصالح هي المألوف في الاستراتيجية المشتركة الأميركية والروسية، وبالاتفاق مع إسرائيل. وأنّ ما سوى ذلك هو لعب بالوقت ومحاولات ابتزاز سياسية، حيث تنتهج روسيا والولايات المتحدة، بوصفهما قطبي الصراع في سوريا، ويتحكمان، فعليًّا، في إدارة الحرب السورية، استراتيجية جديدة لإدارة الصراع، تتفرع إلى خطط عملية للحفاظ على أمن إسرائيل الذي هو بالنتيجة الضامن الحقيقي لمصالحهما في سوريا والمنطقة، وتتمثل أبرز نقاط الاستراتيجية الجديدة التي سيؤسس لها اجتماع القدس لإدارة الملف السوري بالآتي:
ـ إطلاق يد روسيا عسكرياً في سوريا، وتتضح معالم ذلك باستفراد موسكو بالعملية العسكرية الحالية في ريفي حماة وإدلب، ويقترن هذا الاقتراح بانسحاب كافة القوى الأجنبية بما فيها التركية من سوريا، وبالتالي نسف مسار آستانا واتفاق سوتشي.
ـ البدء بعملية سياسية تراعي مصالح روسيا في سوريا، ويقبل بها المجتمع الدولي وفق قرارات جنيف بعد إفراغها من مضمونها بما يتناسب والنفوذ الروسي.
ـ إغراء روسيا، في تقليص واشنطن العقوبات المفروضة عليها. والمساهمة الأميركية في إعادة الإعمار في سوريا.
ـ إحكام السيطرة الروسية على مناطق الحدود السورية مع “إسرائيل” وتأمينها من تهديدات الميليشيات الإيرانية وذلك بدفعها بعيداً عن الجنوب السوري. وتفيد الأخبار أن روسيا دخلت عملياً في تقليص الوجود الإيراني في العاصمة دمشق والساحل السوري.
ـ استنزاف فصائل الثورة وميليشيات نظام الأسد، في جبهات متعددة، لإنهاكها وإرهاقها للدفع التدريجي بها إلى القبول بالحلول الروسية.
مطلب ” اجتماع القدس” الأساسي
من المفترض، بحسب تسريبات المؤتمر الأمني الأميركي الروسي الإسرائيلي المزمع عقده الشهر الجاري، أنه سيؤسس لصفقة ثلاثية تعترف بموجبها تل أبيب وواشنطن بشرعية نظام الأسد مقابل أن تعمل روسيا على إبعاد الإيرانيين عن سوريا لمصلحتها ومصلحة إسرائيل معاً، حيث تبدو الأجندة الروسية ماضية في هذا الاتجاه، رغم تعاون موسكو وطهران عسكريا، وإعلاميا، وسياسيا على إجهاض الثورة السورية بحيث لم تعد فصائل المعارضة تشكّل تهديداً بعد خنقها في جيب شمال سوريا، ولم يعد لروسيا مصالح في أي معركة قادمة بالتحالف مع إيران، وهذا ما يحدث حالياً في المعارك الدائرة في إدلب ومحيطها المحرر، لذلك تنتفي الحاجة الروسية لإيران ولميليشياتها، بعد أن أنهت مهمتها القذرة في سوريا في إطار مشروعها الامبراطوري، وإنفاقها مليارات الدولارات وسقوط الآلاف من قتلاها، لتصطدم مع شريكها الروسي صاحب الشهية المفتوحة على مشاريع اقتصادية، كإعادة الإعمار، والتسليح، والسيطرة على منابع الغاز السوري. وهذا ما تدركه واشنطن وتل أبيب.
وفي السياق ذاته، شدد سيرغي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي في وقت سابق على إنه من غير الصحيح تصنيف روسيا وإيران كحليفتين، وإنما “تعاونا فقط” في سوريا. وأشار المسؤول الروسي إلى أن “الإيرانيين كانوا مفيدين للغاية عندما عقدنا المؤتمر الوطني للشعب السوري في سوتشي، لكننا لا نتشارك النظرة ذاتها في كل ما يحدث”. من هنا، رفض سيرغي ريابكوف، وصف بلاده بالحليفة لإيران فيما يتعلق بوجودها داخل سوريا، مشدداً على أن أمن “إسرائيل” هو أحد أهم أولويات روسيا. وقال ريابكوف في مقابلة مع شبكة “سي إن إن” الأميركية: “نحن لا نستخف بأية طريقة بأهمية التدابير التي من شأنها ضمان أمن قوي لدولة إسرائيل”. وأضاف، “الإسرائيليون يعرفون هذا، وتعرف الولايات المتحدة هذا، وأي طرف آخر بما في ذلك الإيرانيون والأتراك والحكومة في دمشق، هذه واحدة من أهم أولويات روسيا”.
معضلة موسكو الكبرى
قبل الدعوة لاجتماع القدس، المزمع عقده في يونيو الجاري، استغلت واشنطن العزف على وتر مرتكزات موسكو الاستراتيجية التي تقوم على محدد رئيسي هو: تشكيل ميليشيات عسكرية بهدف تحقيق أهداف تدخلها في سوريا، ويتمثل الإطار العام لهذه الاستراتيجية في إضعاف الميليشيات الإيرانية في المناطق الخاضعة لنفوذ الأسد، وخلق انطباع سلبي داخليًّا وخارجيًّا إزاء قدرتها على تحقيق أي تقدم على الأرض دون الغطاء الجوي الروسي، ومن ثم راحت موسكو تعمل على إزاحة النفوذ الإيراني في المنطقة الوسطى اعتمادا على استراتيجية مرحلية وفق سياسة الهيمنة دون وقوع تصادم عسكري مباشر، كالتحكم بالمعابر الرابطة بين مناطق نفوذ المعارضة وتلك الواقعة تحت نفوذ نظام الأسد، وآخر ما قامت به روسيا هو إنشاء قاعدة عسكرية لها بالقرب من مدينة قدسيا داخل أحد مقرات الحرس الجمهورية. فضلاً عن السيطرة على الشريط الساحلي السوري بما يحوي من موانئ ومطارات.
ما تدركه موسكو أن إيران لا تزال هي القوة العسكرية الأولى المهيمنة على المناطق الواقعة تحت نفوذ نظام الأسد؛ فالميليشيات الإيرانية تسيطر على مفاصل العاصمة دمشق، وتنتشر قواعدها العسكرية بمحيطها، وعلى التلال المشرفة على الجولان السوري المحتل، وتحتضن معامل الدفاع بمنطقة سفيرة في الشمال السوري أكبر القواعد الإيرانية. وتنتشر قوتها الضاربة أيضا في منطقة البادية والضفة اليمنى للفرات، كما تمكنت من ترسيخ نفوذها عبر شبكة من المصالح المشتركة، استأثرت المذهبية الشيعية على الجانب الكبير منها، ومنحت امتيازات استثمارية على شكل رشاوى للعديد من ضباط الأسد الذين يتحكمون بالمؤسسة الأمنية، وعلى رأسها المخابرات الجوية، وكذلك لقيادات الميليشيات المحلية المتشيعة كلواء الباقر، اشترت ذمم كثير من الشخصيات الاجتماعية والثقافية النافذة، مكوِّنة بذلك قوى محلية في سوريا دافعة لقوتها الأولى في المنطقة، التي تتمثَّل بميليشيا حزب الله اللبناني. من هنا تدرك روسيا حجم المعضلة الإيرانية في حال حدوث الصدام العسكري المباشر مع الميليشيات الإيرانية، ولهذا علق الناطق باسم الكرملين على الاجتماع، بقوله “ما كنت لأستبق الأمور، ولن أفعل. لكنني أدعو الجميع للحذر الشديد حيال الحشو ومختلف الأنباء الكاذبة، التي من المؤكد أنها ستملأ الفضاء الإعلامي”، ولذلك لن تجازف موسكو بقبول الصفقة الأميركية التي كانت على جدول الأعمال الروسي – الأميركي، ضمن محادثات وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مع بوتين في سوتشي الروسية قبل أقل من شهر، لهذا كانت الدعوة لأجل اتفاق واشنطن وموسكو وتل أبيب على عقد اجتماع بين رؤساء مجلس الأمن القومي في الدول الثلاث، بعد أن باتت موسكو مقتنعة أنها تستند إلى ورقتين محروقتين: الدور الإيراني ونظام الأسد.
الأسد في الأغلال الإيرانية ورقة لا رهان عليها
تحتاج موسكو إلى تعاون من نظام الأسد في حال نجح اجتماع القدس، يبدأ أولاً بطلب رسمي من الأسد بانسحاب الإيرانيين، كي يحصل على جزء من الصفقة المتعلق بـ “إنهاء عزلة النظام الدولية”، وهي عبارة مطاطة قد تشمل أولاً تخفيف تقنين الوقود والمواد الأساسية الذي تعانيه مناطق سيطرة النظام وإتاحة نسبة معينة من “التطبيع” تتناسب مع تجاوب النظام وتعاونه. ولكن هذا المطلب يدخل في خانة المستحيلات؛ فالأسد وضع نفسه تحت تصرف خامنئي لأنه يدرك عجزه عن تجاوز الأغلال الإيرانية في كيان نظامه، حيث تنتشر الميليشيات الإيرانية في كل مفاصله، وعلى كل جبهاته، وعلى مشارف قصره يقف قاسم سليماني ممثل لواء “القدس” الإيراني الذي ساقه إلى طهران، استباقا لزيارة نتنياهو إلى موسكو. لقد فشل الأسد بعد فترة طويلة من حكمه الدامي حاول فيها إيجاد تحالفات وتوازنات وتفاهمات سياسية، ليجد نفسه سادنا عند الثعبان الإيراني، الذي لن يتوانى في استصدار فتوى بتكفيره أو خيانته لـ”محور المقاومة”، وربما تصفيته إن اقتضى الأمر، وكونه ورقة محترقة فلا رهان عليه من كافة الأطراف سوى استثماره في جزئية مشروعية المحتلين.
تركيا وأولوية التمسك بإدلب
يبدو أن التضارب الاستراتيجي بين روسيا وتركيا حول اتفاق سوتشي، يكشف الكيفية التي عمد من خلالها الروس، إلى استثمارًه بما يلائم مصلحتها، ومن الواضح أن الخلل في آلية تنفيذ سوتشي يمثل محطة فارقة في علاقات تركيا وروسيا، لأن همجية العدوان الروسي الجاري يستهدف صورة تركيا كضامن للهدنة في إدلب، كما يستهدف أمنها بصورة مباشرة. ويبدو أن روسيا تتصرف على أساس أن تركيا هي الطرف الأضعف في الشراكة البينية في سوريا، وعملت على استخدامها جسرا لتحقيق أهداف تعزيز سيطرة نظام الأسد والظهور بمظهر المنتصر.
ولكن أنقرة تؤكد من خلال تعزيز تواجدها العسكري في نقاط مراقبتها على أنها ليست الطرف الأضعف، كما يرى الراعي الروسي، إلّا أنّ مؤشرات تحول إدلب إلى مصيدة من خلال العدوان الروسي قد تدفع إلى المواجهة المباشرة بين تركيا، من جهة، وروسيا من جهة أخرى، خاصة في حال نجاح الاجتماع الأمني في القدس ومحاكاته للرؤية الروسية.
يلاحظ في هذا السياق أن إشارة المبعوث الأميركي الخاص جيفري إلى وقف اطلاق النار في إدلب كـ “بداية” للتفاهمات الجديدة مع موسكو وكأنها تدعم الدور التركي في إدلب خصوصاً أن المعارك الأخيرة عبّرت عن استياء روسي مزدوج: أولاً من تقدّم التنسيق الأميركي – التركي في شأن “منطقة آمنة” في الشمال الشرقي، وثانياً من التلكؤ التركي في تنفيذ اتفاق سوتشي كما تدعي موسكو، وما تكشفه المعارك الدائرة في منطقة خفض التصعيد الرابعة منذ أكثر من شهر، يشير إلى عزم أنقرة على إفشال التصعيد الروسي، بدليل أن أسلحة نوعية ظهرت في التصدّي لعدوان الميليشيات الروسية ومنها صواريخ “تاو” وطائرات مسيّرة ومدفعية بعيدة المدى يستخدمها الجيش التركي بموافقة أميركية، وكذلك السماح لفصائل درع الفرات بالمشاركة في صدّ العدوان. هذا المعطى يجعل العلاقة الروسية – التركية على حافة الهاوية، رغم محافظة الطرفين على خطاب دبلوماسي ناعم.
خاتمة
من المؤكد أن روسيا لا تستطيع إخراج إيران من سوريا مهما كان حجم الإغراءات التي تقدمها تل أبيب وواشنطن، ولا النظام يقبل التنازل في ملف اللجنة الدستورية أو قرارات جنيف الدولية، ولا حتى في أي مسعىً لحل سياسي يطيح أو يحدّ من سلطاته، كما أن تركيا لن تتنازل عن إدلب، والولايات المتحدة ستبقي قواتها في شرقي الفرات إلى أجل غير مسمى، ولكن المؤكد أنها تعمل على إخراج إيران من سوريا، وفي حال نجح اجتماع القدس فسيسدل الستار على طموح إيران الإقليمي، وتكون تركيا استيقظت من أكذوبة مناطق خفض التصعيد، لذلك تتجه أنظار حلفاء موسكو إلى اجتماع القدس، وإعادة التفكير في التعامل مع روسيا التي رمت بأوراقها على الطاولة الإسرائيلية الأميركية بانتظار نتائج قمة القدس ومخرجاتها.
المصدر: بلدي نيوز