لندن- “القدس العربي”:
هل تقوم فرنسا بتغذية “الإرهاب الإسلامي” بزعم محاولة منعه؟ طرح العالم السياسي فينسنت غيسر والباحث في المركز الوطني للأبحاث السياسية بجامعة اكس- مارسيه، هذا السؤال في مقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”، مشيرا إلى أن حكومة إيمانويل ماكرون تقوم وعن غير قصد بتفريخ الطائفية التي تريد منعها.وجاء في مقاله أن الإرهاب ضرب مرة أخرى فرنسا، ومرة أخرى كشفت العمليات عن تناقضاتها الخطيرة.جاء أولا قتل المدرس صمويل باتي، أستاذ التاريخ الذي قطع رأسه في 16 تشرين الأول/ أكتوبر على يد شاب شيشاني، بعدما قام باتي بعرض صور كرتونية ساخرة للنبي محمد على تلاميذ فصله.ثم جاء الهجوم على كنيسة في مدينة نيس، وقُتل فيه ثلاثة من الذين كانوا فيها، وكان المشتبه به الرئيسي في الهجوم شاب تونسي، هتف “الله أكبر” أمام الشرطة. وبعد أيام من مقتل باتي أعلن وزير الداخلية جيرار دارمانين أنه سيقوم بملاحقة من يقومون بنشر الكراهية عبر الإنترنت. وقال إن “بركة سيتي” المنظمة الإنسانية غير الحكومية “عبّرت عن فرحها بتبرير الأعمال الإرهابية” وقام بحلها.وهددت الحكومة بإغلاق مركز “كوليكتف ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا” وهي مؤسسة غير ربحية تواجه الكراهية ضد الإسلام في فرنسا. وبحسب وزير الداخلية دارمانين، فالمركز يعمل “ضد الجمهورية”.
وبالإضافة للإجراءات الأمنية التي اتخذتها فرنسا، أكدت على حرية التعبير بما فيها حرية السخرية من الرموز الدينية، وتأكيد مركزية العلمانية المعروفة بـ”اللائكية” داخل المؤسسات الفرنسية خاصة المدارس. وفي تأبينه للمدرس باتي، قال ماكرون إنه قُتل لأنه كان “يجسد الجمهورية الفرنسية” وأكد باسمه أنه “سيحافظ على اللائكية عالية”.وبعد كل هذا، يرى غيسر أن مفهوم الحكومة الفرنسية للإسلامية أو الإسلاموية يقوم على افتراض إشكالي بُني على أن المسلمين فشلوا بتبني الثقافة العلمانية بشكل كامل.وفي بداية شهر تشرين الأول/ أكتوبر، أعلن ماكرون عن خطة حكومية جديدة بما فيها قانون شامل محل النقاش لـ”تقوية اللائكية وتعزيز مبادئ الجمهورية” من أجل مواجهة ما أسماها “الانفصالية” أو الانعزالية. وتقوم الفكرة هذه على أن الأقلية المسلمة المهمة أبعدت نفسها عن بقية المجتمع الفرنسي، وخلقت جيوبا في الضواحي المحرومة، أو بنت مجتمعا خاصا من خلال المدارس الإسلامية ودكاكين الحلال والمساجد.ويرى الكاتب أن عملية التشخيص هذه تثير التساؤل وتحمل مخاطر هزيمة الذات، وربما عرّضت النسيج الاجتماعي للخطر. وإحدى المشاكل لهذه الفكرة، هي أنها تعامل المسلمين وكأنهم فئة منفصلة عن الشعب الفرنسي، وأنهم مواطنون غير ناضحين تنقصهم المعرفة أو الفهم بفكرة الجمهورية.وتناقض الدراسات والأرقام هذه الفكرة، وعلى رأسها المركز الوطني للدراسات الإحصائية الذي كشف أن غالبية المسلمين في فرنسا اندمجوا ثقافيا واجتماعيا في المجتمع الفرنسي. وأقل من الناحية الاقتصادية، وهذا ليس راجعا لهم، ولكن بسبب التمييز في سوق العمل. ووصف العالم السياسي الفرنسي برونو ايتين المسلمين مرة بأنهم “طبيعيون بشكل غير طبيعي”. وربما نظر المسلمون الفرنسيون في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي إلى اللائكية باعتبارها رديفا لمعاداة الدين والإلحاد الممأسس، ولكن هذا التفكير تغير. وفي 2004، أعلن اتحاد الجمعيات الإسلامية في فرنسا، المنظمة المحافظة رأيها بقانون 1905 الذي ينص على فصل الدين عن الدولة، وقال الاتحاد: “كنا نتمنى ألا يوجد، ولكنه هنا ليبقى وسنطبقه”.
وقالت نسبة الثلثين من المشاركين في دراسة أعدها المعهد الميال لليمين “معهد مونتين” عام 2016، أن الدولة العلمانية تسمح بحرية التعبير الديني. وفي دراسة نشرت العام الماضي، قالت نسبة 70% من المشاركين المسلمين، إنهم قادرون على ممارسة الإسلام في فرنسا، وقالت نسبة 41% إن على الإسلام التكيف بطريقة ما مع اللائكية، لكن 37% عبرت عن أملها لو كانت هذه الفكرة مرنة.وعندما ينتقد المسلمون اللائكية اليوم، فهم لا ينتقدون فكرة الجمهورية العلمانية التي أقامها قانون 1905. فهذا يهدف لحماية حرية المعتقد من خلال مطالبة الدولة بالوقوف على الحياد عندما يتعلق الأمر بالدين. ونص القانون: “لا تعترف الدولة ولا تطبق أو تدعم طائفة” دينية.والمسلمون الذين ينتقدون اللائكية هذه الأيام يفعلون ضد ما يرونه التفسير الأيديولوجي الذي يرمي أحيانا للوم المسلمين لفشلهم بالاندماج وغير ذلك من الأمراض الاجتماعية. ويشعرون ويخافون أن هذا المبدأ الليبرالي المتأصل أصبح غطاء للعنصرية ضد المسلمين، مفهوم تم تحريفه ونشره لكي يعطي صورة محترمة ومقبولة عن العنصرية.وحذر جين بوبير، المؤرخ والخبير في علم اجتماع الأديان: “لنتوقف عن استخدام اللائكية ضد الإسلام”. ومن الواضح الطريقة التي تقدم فيها زعيمة حزب “التجمع” اليميني المتطرف مارين لوبان حزبها بأنه آخر حاجز لحماية قيم الجمهورية بما فيها اللائكية، مع أن العناصر الجوهرية الكاثوليكية والمحافظة في التجمع لا تهتم كثيرا بهذا المفهوم.وتحولت بهذه المثابة فكرة “عالمية” في الرؤية وتدافع عن التقدم، إلى شعار حزبي. وعادة ما يوبخ الخطاب السياسي الفرنسي المسلمين لعدم قدرتهم على نبذ الراديكالية الإسلامية بشكل واضح. إلا أن الاتهام يعكس حالة من الجهل أو عمى الألوان.ويقول غيسر: “في مسار بحثي الخاص وجدت عدة أمثلة عن جماعات مسلمة تنبذ الإرهاب.
وبعد هجمات 2015 قامت فدرالية مسلمة مهمة بدعوة المساجد للدعاء في خطب الجمعة لحماية فرنسا. ويقوم المسلمون بعقد صلوات منظمة للتضامن مع ضحايا الإرهاب الإسلامي من غير المسلمين. وبالطبع، فالمسلمون هم أحيانا ضحايا الإرهاب الإسلامي. ويعتبر إمام بوردو من أهم الأصوات الداعية لمنع التطرف”.ويرى غيسر أن فكرة الحكومة عن “الانعزالية” الإسلامية إشكالية؛ لأنها تخلط بين ظاهرتين تتميزان عن بعضهما البعض “الإرهاب الإسلامي” الذي يهاجم رموز الأمة الفرنسية من جهة، و”الطائفية” الإسلامية التي هي تعبير عن نوع من الهوية الإسلامية، كمواطنين في فرنسا ومؤمنين بالإسلام.ومن هنا فالتحذير من “الانعزالية” الإسلامية لن يعبئ مسلمي فرنسا ضد الراديكالية أو يعطيهم حساً بالانتماء ولكن العكس. وخطاب الحكومة الفرنسية لن يؤدي إلا إلى إقناع المسلمين أنهم بالتأكيد مختلفون عن بقية الشعب الفرنسي. وسيقوم قادة الدولة بزيادة العملية التي يخشون منها، وهي الهوية المسلمة المتميزة، ومجتمع منفصل داخل فرنسا.