ماجد عزام /trt عربي
وافقت الولايات المتحدة الأمريكية الخميس الماضي وبعد فترة من التردد والتلكؤ على بيع طائرات F-16 إلى تركيا بديلاً عن عدم تسليمها طائرات F-35.
جاءت رسالة تأييد صفقة البيع التي أرسلتها وزارة الخارجية الأمريكية إلى الكونغرس اعترافاً بالخطأ، وحافلة بالحيثيات والدلالات وأهمها بالطبع الإقرار بمكانة تركيا الدولية والإقليمية كحليف لا غنى عنه لأمريكا والغرب والناتولقد أكد الموقف التركي الراسخ من الغزو الروسي لأوكرانيا المعطيات السابقة مجتمعة والمتضمنة مكانة تركيا القوية إقليمياً ودولياً، ودورها المحوري ضمن الناتو، وعدم قدرة الغرب على الاستغناء عنها مع احترام المنحى الاستقلالي لسياسة تركيا الداخلية والخارجية المستقلة والمتوازنة، والقائمة أساساً على الدفاع عن مصالح البلاد في أبعادها وجوانبها المختلفة والتزام القوانين والمواثيق والمعاهدت الدولية، وفي نفس الوقت احترام تحالفاتها الثنائية والجماعية.بداية لا بد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة كانت امتنعت عن تسليم طائرات F-35 إلى تركيا، رغم أنها شريكة في مشروع إنتاجها، وساهمت فعلاً بمليار ونصف مليار دولار تقريباً في المشروع، كما أنتجت بعض أجزاء ومكونات الطائرة في مصانعها.
جاء الموقف الأمريكي ردّاً على قرار تركيا شراء منظومة S-400 الروسية المضادة للصواريخ، كما تضمن كذلك فرض عقوبات على الصناعات الدفاعية التركية الناهضة والمتطورة، وذلك بحجة التأثير السلبي لامتلاك أنقرة المنظومة الروسية على التقنيات والمنظومات العسكرية الغربية رغم امتلاك عدة دول أوروبية أعضاء في الناتو للمنظومة الروسية S-300 بما في ذلك الجارة اليونان، التي اتبعت في السنوات الماضية سياسات عدائية تجاه تركيا قبل أن تتراجع أيضاً في الفترة الأخيرة نتيجة قناعات مماثلة لتلك التي خلصت إليها أمريكا في ضوء استخلاص العبر من الأزمة الأوكرانية.هنا وفي هذا السياق رواية يجب أن تُروى، إذ دافعت تركيا عن حقها السيادي في شراء المنظومة الروسية لحماية أجوائها وأمنها ومصالحها بشكل عام، بعدما منعها حلفاؤها، أو المفترض أنهم كذلك، في الناتو المنظومات الغربية المماثلة وتحديداً منظومة باتريوت الأمريكية، وأصرت دائماً على مواقفها وسياستها المستقلة القائمة على الدفاع عن مصالحها واحترام تحالفاتها.
ومن جهة أخرى رفضت النفاق الأمريكي والغربي بما في ذلك العقوبات غير المبررة وغير العادلة ضدها، وطلبت في المقابل شراء 40 طائرة من طراز F-16 المتطورة أيضاً مع 80 من معدات التحديث للطائرات التي تملكها فعلاً من نفس الطراز.
مع العلم أن تركيا عملت بالتوازي مع هذا الطلب وضمن جهدها العسكري لجهة الاعتماد على الذات على تطوير وصنع طائرات مسيّرة مقاتلة “بيرقدار قزل إلما” والعمل حتى على طائرة نفاثة مقاتلة (MMU) من الجيل الخامس الذي تنتمي إليه طائرات F-35.
في السياق نفسه لا بد من التذكير أيضاً بتاريخ حافل لتركيا ضمن الناتو، فهي صاحبة أكبر جيش في الحلف بعد الولايات المتحدة، ولعبت أدواراً تاريخية ومركزية لا غنى عنها في المهام والتحديات التي خاضها كما كان الحال في حرب الكوريتين في خمسينيات القرن الماضي وضمن الجناح الشرقي للحلف في مواجهة الاتحاد السوفييتي زمن الحرب البادرة.
في أفغانستان أيضاً، وبعد التدخل الأمريكي تحت راية الحلف لعبت تركيا أدواراً مدنية واقتصادية واجتماعية غير عسكرية بما في ذلك تشغيل مطار كابل، ما ساهم في توطيد علاقاتها مع كافة فئات الشعب الأفغاني، واكتسبت ثقته بحيث باتت بعد الانسحاب الأمريكي “العشوائي” القوة الأبرز والأكثر حضوراً القادرة فعلياً على الأمن والاستقرار ومنع انفجار أزمات البلد كي لا تفيض على المنطقة والعالم.
تركيا كانت حاضرة كذلك في مهام الحلف في البوسنة والبلقان بشكل عام، وأسهمت علاقاتها مع جمهورية البوسنة الاتحادية في تكريس السلام والاستقرار في المنطقة، وعدم انهيار اتفاق دايتون، الهش، للسلام الذي رعته أمريكا نفسها.اللقاء الأخير بين الرئيس رجب طيب أردوغان ونظيره جو بايدن في بروكسل على هامش اجتماعات الناتو في بروكسل نهاية آذار/مارس الماضي كان حاسماً في تحول الموقف الأمريكي تجاه العلاقات مع تركيا بما في ذلك صفقة طائرة F-16 وملف العقوبات غير العادلة أو المنطقية بين الحلفاء.
اللقاء جاء بعد فترة قطيعة من جانب بايدن وإدارته الجديدة للقيادة التركية، وارتبط مباشرة بموقف تركيا من الأزمة الأوكرانية واتباعها سياسة متوازنة بعدما أدانت الغزو الروسي، ودعمت سيادة ووحدة الأراضي الأوكرانية، ونفذت معاهدة مونترو نصاً وروحاً، ولكن دون أن تنخرط في العقوبات ضد روسيا أو في المعركة السياسية والإعلامية ضدها، للاحتفاظ بدورها وسيطاً نزيهاً وجدياً وموثوقاً بين الجانبين، كما اتضح في استضافة أول لقاء رفيع على مستوى وزيري الخارجية بينهما، واستضافة لقاء تفاوضي أنتج التقدم الأهم حتى الآن ما أثار احترام وإعجاب العالم بشكل عام والغرب وأمريكا، والاقتناع بحقيقة أن تركيا دولة لا يمكن تجاهلها أو الاستغناء عنها غربياً، كما قالت مجلة دير شبيغل الألمانية الأسبوع الماضي.
أمريكيا أيضاً بدت رسالة وزارة الخارجية إلى الكونغرس لافتة جداً وتضمنت الحيثيات والمعطيات وحتى الاستنتاجات السابقة لجهة أن تركيا حليف لا غنى عنه رغم سياستها المستقلة، وكما جاء حرفياً فيها: “تركيا تملك ثاني أكبر جيش في الناتو وتعمل جنباً إلى جنب مع حلفائها في الحلف بمناطق جغرافية مختلفة من العالم، ودعمها لوحدة أراضي أوكرانيا ولعلاقات التعاون الدفاعي يعتبر رادعاً مهماً ضد عناصر ضارة في المنطقة”.
في نفس الأسبوع وتحديداً الاثنين الماضي تم الإعلان عن إطلاق آلية تعاون استراتيجية بين أمريكا وتركيا وفق تفاهم الرئيسين أردوغان-بايدن لتطوير التعاون في المجالات الاقتصادية والتجارية.
ولا شك أن هذه الآلية ستترك تأثيراً إيجابياً على مسار العلاقات الثنائية بشكل عام وليس فقط في الجانب الاقتصادي.خلاصة القول، تركيا لم تعد ذراعاً لأحد أو منفذاً لسياسات تملى من الخارج، وباتت فعلاً الدولة الأكثر استقلالية بين أعضاء الناتو، كما أقر الناطق باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف.
والشاهد هنا، أن أمريكا فهمت أنه لا غنى عن تركيا كحليف مهم لموقعها ومكانتها ودورها حتى مع سياستها المستقلة والمتوازنة التي اضطرت واشنطن لتقبلها أخيراً، وإن لم يكن عن طيب خاطر فقد أجبرتها أنقرة على ذلك.